داعش لم تهبط من السَّماء
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
ذكرتُ في مقالاتٍ سابقةٍ أنَّ هناك عواملَ عديدةٍ تقفُ وراء بروز ظاهرة العنف الإسلامي، منها السياسي والإقتصادي والإجتماعي والنفسي، وقلت أنَّ أهمها هو العامل “الفكري” الذي ينتجُ عن تفسير النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، إضافة للكثير من المفاهيم والفتاوى الموجودة في كتب الفقه و التراث الإسلامي.
وبما أنَّ الأفكار التي يعتنقها الأشخاص المنتمون لهذه التيارات العنيفة هى وليدة تفسير نصوص قرآنية وأحاديث نبوية وفتاوى فقهية فإنهُ من غير المُجدي عند التصدي للذين يقولون أنَّ العنف يُشكلاً بُعداً أصيلاً في الإسلام أن نكتفي بنفي إدعائهم هذا والقول أنَّ الإسلام يدعو للتسامح والسلام والمحبة.
الرَّد على تلك الإدعاءات يتطلبُ منَّا نحن المسلمون مواجهة شجاعة مع النفس، وإجتهاد واسع في مراجعة التراث الديني برَّمتهِ، وذلك عبر إعمال أدوات البحث والمناهج المُعاصرة، ذلك لأنَّ باب الإجتهاد قد أغلق منذ القرن التاسع الميلادي، ومعهُ وقع التراجع الكبير للحضارة الإسلامية.
بدأ التراجع منذ أن بسطت المدرسة السلفية رؤيتها في إثر التحالف الذي وقع بين الخليفة العباسي المتوكل والفقيه احمد بن حنبل، ثم تعززت هذه السيطرة في موجتها الثانية مع الفقيه تقي الدين بن تيمية في القرن الثاني عشر، وأخيراً برزت في التحالف الذي تم تدشينهُ بين قاضي الدرعية محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود في منتصف القرن الثامن عشر في الجزيرة العربية.
السلفية آيديلوجيا “نصوصية” لأنها تقول أنَّ النصوص المُقدسة ينبغي ألا تُمس وأن تفهم فهماً حرفياً أو لفظياً، وهى كذلك آيديولوجيا “إقصائية” لأنها ترفض بشدة مناقشة مبادئها وتتعصب تجاه أي وجهى نظر مخالفة.
وهى “ماضوية” لأنها تعتبر أنَّ النموذج الأكمل للأفكار قد تمَّ تطبيقهُ في زمن سابق، زمن السلف، وأنَّ الخلف ليس أمامهم سوى العمل على إستعادة ذلك النموذج، وعدم الخروج عليه، وبالتالي فإنَّها تنشد المستقبل في الماضي، ولا يمثل التاريخ بالنسبة لها سوى مسيرة للإنحدار، وليس أفقاً للتطور.
هذا التقديم أملتهُ على كاتب هذه السُّطور آراء سطحية ظل يقول بها العديد من الناظرين في ظاهرة العنف الإسلامي مفادها أنَّه لا توجد رابطة بين المدرسة السلفية في الفكر الإسلامي، وعلى وجه التحديد نسختها “الوهابية”، والحركات العنيفة السائدة اليوم خصوصاً تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
صحيحٌ أنَّ موجة إنتشار الجماعات التكفيرية العنيفة الأخيرة قد بدأت من مصر في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي بتأثير مباشر من أفكار “سيد قطب” التي كانت بدورها تطويراً لأفكار “ابو الأعلى المودودي”، ولكن الصحيح أيضاً أنَّ الأخير تأثر كثيراً بدعوة “محمد بن عبد الوهاب”.
ولا يستطيع باحثٌ جاد النظر في “المنهج” و “طرائق التفكير” و “المصادر” التي تقوم عليها المدرسة الوهابية، دون أن يجد رابطاً وثيقاً بينها وبين “السلوك الإقصائي” و “العنف” و “التكفير” الذي تتصَّف به الحركات العنيفة.
وعندما يقول البعض أنَّ “المجرى العام” للدعوة السلفية يرفض التكفير، ويُناهض استخدام العنف ضد غير المسلمين، فإنهم إنما ينظرون “بنصف عين” للحقيقة، إذ أنَّ “المصادر” التي يستقي منها الوهابيون والتفكيريون أفكارهم، هى مصادر مشتركة، وهم كذلك يتفقون في الكيفية التي تتم بها قراءة النصوص (الفهم الحرفي)، وبذلك يُصبح الإختلاف بينهم إختلافاً في “الدرجة” وليس في “النوع”.
إنَّ الناظر إلى “الخلفية الفكرية” لغالبية المنضوين تحت لواء الحركات العنيفة والشيوخ الذين يقفون خلفهم يجدهم قد نهلوا من “فتاوى بن تيمية”، وكتابات تلميذه “إبن القيم”، إضافة لتعاليم “محمد بن عبد الوهاب”، وأنَّ الكثيرين منهم قد درسوا “بالجامعة الإسلامية” أو جامعة “الإمام محم بن سعود” بالمدينة المنورة أوغيرها من المدارس والكليات التي تدرس العلوم الشرعية من وجهة النظر السلفية.
أمَّا التجربة العملية فإنها تُحدثنا عن جنود الملك عبد العزيز بن سعود المعروفون “بالأخوان”، والذين كانوا من أكثر الناس إخلاصاً لتعاليم “محمد بن عبد الوهاب”، وعن طريقهم استطاع الملك الراحل بسط سلطانه على نجد والحجاز وتأسيس المملكة الحالية.
لم يكن “الأخوان” يختلفون كثيراً عن “داعش”، فقد كانوا شديدي الكراهية “لغير المسلمين”، الذين درجوا على تسميتهم جميعاً “بالكفار”، ولم يكونوا يحتملون وجودهم في الجزيرة العربية ( وقد رأينا صدى شعورهم هذا يتكرر في أحاديث أسامة بن لادن).
لقد نشأ “الأخوان” وتربوا على عقيدة “الولاء والبراء” التي تقسِّم العالم إلى فسطاطين : الكفر والإيمان، وهى نفس الأفكار التي يتربى عليها “السلفيون” اليوم بمختلف أطيافهم، ومنها ينهلُ الشباب الذي يذهب لينضم لداعش.
كان الإخوان جنوداً مخلصين لفكرتهم “التطهرية”، متعطشين للدماء ومستعدين دوماً للموت، ومُعادين لجميع مظاهر الحياة المدنية الحديثة مثل التلفون والسيارة والراديو بإعتبارهاً بدعاً لا يجوز إستخدامها.
كانوا أيضاً لا يعترفون بأي فكر أو تصوُّر للإسلام يُخالفُ “الوهابية”، وعلى رأس ذلك “التصوف” وأهله حيث فعلوا فيهم الأفاعيل، ولذلك كان هدفهم هو إدخال جميع المناطق العربية في “الإسلام” رغم أنَّ أهلها مسلمون موحدون، وكان أحد أسباب خلافهم مع الملك عبد العزيز هو رفضه مواصلة الحروب لإخضاع سوريا و العراق والأردن لسلطانه وإدخال أهلها تحت سلطان العقيدة الوهابية.
ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ “جُهيمان العتيبي” الذي قام بإحتلال الحرم المكي الشريف في صلاة فجر اليوم الأول من المئة الأولى للقرن الخامس عشر الهجري، كان قد درس العلوم الشرعية في مكة وكذلك في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، حيث كان تأثير الشيخ “عبدالعزيز بن باز” طاغياً، وهناك التقى جهيمان بـ “محمد بن عبدالله القحطاني” الذي أدعى “المهدية” وهو أحد تلاميذ بن باز المباشرين.
العُتيبي والقحطاني اللذان أراقا دماء المسلمين الساجدين داخل الحرم كانا تلميذين نجيبين من تلاميذ الفكر السلفي الوهابي وشيخه الأكبر في هذا العصر : عبد العزيز بن باز.
ذهب العُتيبي وبعض رفاقه إلى “بن باز” وقالوا له أنهم يُريدون تأسيس جماعة دعوية تقوم على “منهج السلف وتحارب البدع وتكون على الكتاب والسنة وتحكّم القرآن والسنة” فسألهم بن باز عن اسم هذه الجماعة، فقالوا : الجماعة السلفية. فقال لهم: ” بما أنكم تدعون الحسبة إلى الله، سموها : الجماعة السلفية المحتسبة”، فأصبح ذلك هو إسمها.
لقد تربى العتيبي ورفاقه على المنهج الحرفي الذي يُلغي “العقل” ويؤمن بالتفسير اللفظي للنصوص، ويجعل من “الأحاديث” مصدراً تشريعياً مساوياً للقرآن الكريم، ولذلك فقد آمنوا بظهور “المهدي المنتظر” الذي تم الحديث عنهُ كثيراً في الأحاديث المنسوبة للرسول المعصوم.
آمن القحطاني والعُتيبي ورفاقهم بأنَّ المهدي يُبايعُ بين “الركن والمقام”، وأنه يعتصمُ في الحرم ثم يأتي جيشٌ من تبوك ويخسفُ بهذا الجيش ثم يخرج هذا الرجل من الحرم ويذهب إلى المدينة ويحاربُ المسيح الدجال ثم يخرج من المدينة ويذهب إلى فلسطين ويُحارب هناك اليهود ويقتلهم ثم يأتي عيسى بن مريم فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويذهبون إلى الشام فيصلون في مسجد بني أمية وبعد ذلك تقوم القيامة الكبرى.
يؤمن جميع الوهابيون بهذه “المرويات” التي تمتلىء بها كتبهم ومناهجهم التعليمية، وهُم إن إختلفوا مع العتيبي ورفاقه في شىء فإنما يختلفون في أنَّ أوصاف “المهدي” لم تكن منطبقة على “القحطاني” وهو خلاف ثانوي، ذلك لأنَّ الأخير وجماعته قد رأوا إنطباق الأوصاف عليه بحسب تقديراتهم، وهو الأمر الذي يعني أنَّه ما دامت هذه المرويات موجودة فإنّه سيأتي من يُحاول تطويعها لأهدافه في كل مرَّة.
ذات الأمر ينطبق على “النبوءة” التي وردت في “صحيح مسلم” عن “الملحمة الكبرى” وهى النبوءة التي إستخدمتها “داعش” كثيراً في إستقطاب الآلاف من “الشباب” المسلم للإنضمام لصفوفها من أجل خوض معركة “آخر الزمان” مع “الكفار”.
روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة أنَّ الرسول (ص) قال : (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبقوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إنَّ المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فيتنزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكنه يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته ).
“دابق” هو إسم بلدة في سوريا بينما “الأعماق” منطقة تابعة لأنطاكية بتركيا، وقد إتخذت داعش من دابق إسماً للمجلة الرسمية الناطقة بلسان التنظيم، وظلت تُمني المنضوين للواءها بخوض معركة “آخر الزمان” التي تنبأ بها حديث مسلم، وهى المعركة التي ستنتهي بظهور الدَّجال ونزول المسيح وهزيمة الكفار إلى الأبد.
وكذلك تستند داعش إلى حديثٍ آخر يشير إلى أن المعركة ستكون “عظيمة” تضم مئات الآلاف من المقاتلين، وسيتجمع “الروم” تحت 80 راية، تضم كل واحدة منها 12 ألف مقاتل، ما يجعل العدد الإجمالي للجيش الذي سيخوض المواجهة مع المسلمين 960 ألف رجل.
لا يستطيع دُعاة الفكر السلفي أن يُدينوا تفسير “داعش” لحديث الملحمة الكبرى بإدعاء أنَّ أشراط الساعة لم تتحقق بعد، ذلك لأنَّهم قد وضعوا الأساس الفكري لإعتماد مثل هذه النصوص كحقائق واجبة التصديق وبالتالي فإنَّ تحقق تلك الأشراط يُصبح أمراً قابلاً لتقديرات كل فرد أو جماعة من الناس في أي وقتٍ من الأوقات، وهنا يتجلى المُشكل الحقيقي المتعلق بالمنهج السلفي في النظر للنصوص.
يتضحُّ جلياً مما ذكرناهُ أنَّ الفكر العنيف، وخير مثالٍ له جيش “الأخوان” و “جهيمان” و “داعش”، لم يهبط من السماء فجأة، بل خرج من كتب المدرسة السلفية الوهابية ومناهجها التي يتم تلقينها في المساجد و المعاهد الشرعية ، وبالتالي فإنَّ أية محاولة لمعالجة ذلك الفكر لا يمكن أن تنجح في ظل تمدُّد وإنتشار هذه المدرسة.