أسامة عبد الله : لا أحد يُحاسِبنا سوى الله
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
أوردت صحيفة “الإنتباهة” الأسبوع قبل الماضي تصريحاً للكادر الإسلامي ووزير الكهرباء السابق “أسامة عبد الله” عن أداء أهل الحكومة قال فيه : (مافي جهة تحاكمنا في أداء عملنا غير الله، لذلك سنكون صادقين).
قد يستغرِبُ البعض ويُصاب بالدهشة للتصريح أعلاهُ بإعتبار أنَّ قضية مُحاسبة المسؤولين الحكوميين الذين يتولون أمر “السلطة” يجب أن تتمَّ في الزمن الراهن وليس “يوم القيامة”، ذلك لأنها قضية “دنيوية” آنية ترتبطُ بشئون “المواطنين” الذين يتأثرون سلباً أو إيجاباً بسياسات وسلوك وقرارات الأشخاص القائمين على الأمر.
ولأجل هذا فإنَّ “أنظمة الحُكم” في مُختلفِ الأزمانِ إشتملت – بدرجات متفاوتة – على نوعٍ من القوانين والنظم والإجراءات التي تتضمَّن الأسس التي يجبُ إتبَّاعها في “إخضاع” أهل السُّلطة للمساءلة والمحاسبة.
وفي هذا الإطار فقد أثبتت “التجربة الإنسانية” أنَّ نظام “الحُكم الديموقراطي” بما يحويه من أسس دستورية تؤكد الفصل بين السُّلطات الثلاث المعروفة، وتضمن تداول السُّلطة سلمياً، وبما تُنشئهُ من أجهزة ووحداتٍ لمراقبة “أداء السُّلطة” عبر سن القوانين والنظم واللوائح، هو أكثر أنظمة الحكم ضماناً للشفافية والنزاهة، ولمحاسبة “المسؤول العام” في الدولة حال إرتكابه مخالفات تستوجب المُساءلة وتطبيق القانون.
وبالطبع فإنَّ أية شخص مسؤول في ظل النظام الديموقراطي الحقيقي لن يدور بخلده أن يُخالف القوانين ثم يتجرأُ على القول بأنَّ الذي يحقُّ لهُ محاسبتهُ هو “الله” وليس “الناس”، ذلك لأنًّ “القيم” التي ينشأ و يتربى عليها الإنسان في ظل ذلك النظام لا تخلطُ بين “الدين” و “الدنيا” بتلك الطريقة الغريبة.
يعتقد كاتبُ هذه السطور بأهميَّة الغوص عميقاً من أجل تتبُع المنابع “الأخلاقية” والمصادر “القيمية” لمثل هذه التصريحات التي يُدلي بها المسؤولون المنتمون لأيديولوجيا “الإسلام السياسي” – بوعيٍ أو بدون وعيٍ منهم – والتي تعمدُ إلى ترحيل القضايا الدنيوية إلى يوم الآخرة من أجل خدمة مصالح وأهداف آنية.
يرجعُ تصريح أسامة عبد الله هذا لتصوُّر عقليٍ أنتجتهُ عقيدتا “الجبر” و” الإرجاء” في الفكر الإسلامي، وهى العقائد التي وضع عمادها الأول مؤسس دولة بني أميَّة “معاوية بن أبي سفيان” عبر ترسيخ مفهوم “القضاء والقدر”، وثبَّت ركنها الثاني الخليفة “مروان بن الحكم” عبر إرساء مفهوم “الطاعة”.
وتعود الجذور التاريخية لهذه العقائد إلى الفترة التي وقعت فيها الأزمة “القيميَّة” الكبيرة التي تفجرَّت في عهد الخليفة الثالث “عثمان بن عفان” (رض) نتيجة لتراكم الغنائم الكثيرة والكيفية التي إتبَّعها في توزيعها، حيث تدفقت الأموال بكثافة على أشراف قريش من “الطلقاء” الذين أسلموا في “فتح مكة”، فوقع التحوُّل الكبير في “القيم” التي كان قد أرساها “الشيخان”، أبوبكر وعمر (رض) من قبل بالتشديد على الأغنياء.
أدَّى فيضان الدُّنيا في عهد ذي النورين – بحسب تعبير محمد عابد الجابري – لظهور ما كان يُعدُّ في السابق من المنكرات مثل العبثُ بالأموال، فأصبحت الجاريةُ تُباع بوزنها من الفضَّة، والفرسُ الأصيلُ يُباعُ بعشرةِ آلاف درهم، و البعيرُ بألف درهم، والنخلةُ الواحدة بألف درهم.
مهَّدت هذه التحوُّلات لوقوع الحدث الذي كان له الأثر الأبعد في كل التاريخ الإسلامي : الفتنة الكبرى، ولنشوب الصراع بين “قيم” العهد الأول الذي دعم أصحابه الإمام على بن أبي طالب، وبين مؤيدي الفكر الجديد من الذين ساندوا معاوية بن أبي سفيان، وكانت الغلبة في خاتمة المطاف للمعسكر الثاني، ومعها ترسخت أعمق “القيم” التي صاحبت مسيرة “العقل الإسلامي” في الأخلاق والسياسة حتى اليوم.
تذهبُ عقيدة الجبر إلى أنَّ جميع ما يقعُ من أفعال إنما هو بقَدَرِ الله تعالى، و أنَّ الإنسان كالريشة في مهبِّ الرِّيح، لا فعل له على الحقيقة إلاَّ الإستسلام لذلك القدر، وأنَّ الملوك الظلمة هم عقابٌ من الله وإنما ظلمهم وبطشهم ما هو إلا شيء خارج عن إرادتهم.
ويرتبطُ الإرجاء إرتباطاُ وثيقاً بالجبر، فهو يُفيدُ بأنَّ الخلفاء والأمراء مهما استحلوا من المُحرًّمات وفعلوا من الموبقات وارتكبوا من الإنحرافات فإنهم لا يخرُجون من دائرة الإسلام ما داموا يُقرُّون بالشهادتين، وأنَّ حسابهم والحُكم عليهم يجبُ أن “يُرجأ” إلى يوم القيامة.
رسخت هذه العقائد في عقول الناس، وشكلت قيمهم “الأخلاقية” طوال ثمانيةٍ وثمانين عاماً هى عُمر الدولة الأمويَّة، ومن ثمَّ إلتقطها خلفاء بني العباس، وأضافوا إليها بعداً أعمق من القداسة الدينية، فما أن إعتلى “أبو جعغر المنصور” كرسي السُّلطة حتى خاطب الناس بالقول :
( إنما أنا سُلطانُ الله في أرضهٍ أسوسُكم بتوفيقهِ وتسديدهِ وتأييدهِ وحارسهُ على مالٍ أعملُ فيه بمشيئتهِ وإرادتهِ وأعطي بإذنه وجعلني قِفلاً إنْ شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم و قسمة أرزاقكم وإنْ شاء أن يقفلني أقفلني ).
أحدث إقحام الشأن المُقدَّس في أمور الدنيا للدرجة التي أضحى فيها الخليفة يُمثل “سلطان الله” في الأرض إلى جانب شيوع الجبر والإرجاء تحولات عميقة في “الأخلاق” بحيث إستقرَّت “الطاعة” كقيمة حاسمة و مُحددِّة لعلاقة الحاكم بالمحكوم، كما أضحت “مُحاسبة” الخلفاء أمراً متروكاً “ليوم القيامة” وأكتفى “رجال الدين” من الفقهاء “بالمناصحة” كحدٍ أعلى في مُجابهة إنحرافات السلاطين والأمراء والخلفاء.
لا يخفى على القارىء أنَّ هناك تيارات – أبرزها “الخوارج” و “الشيعة” – خرجت على “المجرى العام” لعقل الجبر والإرجاء بحيث ظلت في حالة “ثورة دائمة” عليه تسعى “لإسقاطه بالسيف” وإستبداله بنماذج أخرى ، بينما كان “للمعتزلة” ( أهل العدل والتوحيد) القدح المُعلى في دحض عقيدة الجبر عبر الأفكار.
هذه هى الخلفية التي شكلت “العقل” الذي يقفُ وراء التصريح الذي أدلى به أسامة عبد الله، وهى كذلك الخلفية التي تُفسِّر نظرة أهل الإنقاذ لكيفية التعامل مع السُّلطة التي إحتكروها منذ أكثر من ربع قرنٍ للزمان، ولماذا هُم لا يأبهون كثيراً بالقوانين والنظم، ولا يكترثون للمظالم التي إرتكبوها في حق الكثيرين، فهم أولاَ – مثل المنصور – مُطمئنون إلى أنَّهم يحكمون بسلطان الله، وهُم كذلك يعتقدون أنَّ العقد الذي يربطهم بالناس يقوم على “الطاعة” التي أساسها أنَّ العامة لا يحِقُّ لهم “مساءلتهم” بل يجب عليهم الإحتكام لله يوم الحساب.
غير أنَّ سؤالاً في غاية الأهمية يطرأ في هذا الإطار وهو : هل صدر عن مسئول حكومي طيلة فترة الحكم الوطني منذ الإستقلال وحتى هبوط الإنقاذ على البلاد تصريحاً يقول أنَّ الله هو المسؤول عن حسابهِ ؟
الإجابة على هذا السؤال تُبيُّن الفارق المذهل بين “العقل” الذي كان يحكم البلاد قبل سيطرة آيديولوجيا الإسلام السياسي، وبين ماهو كائنٌ اليوم، وتوَّضح كيف أنَّ السودانيبن في الماضي كانوا أقرب “لقيم العصر” الذي يعيشون فيه، وأبعد عن قيم التسُّلط التي تخلط بين “المُقدَّس” و “المُدنَّس” على طريقة العصور الوسطى.
كان المسؤولون في مُختلف عهود الحُكم الوطنيَّة، يحترمون القوانين والنظم واللوائح، ويعلمون أنَّ مُخالفتها تُعرضِّهم للمحاسبة والمُساءلة، ولذلك كان “الفساد” أمراً نادر الحدوث، وكان الموظف العام يُعتبرُ قدوة في الأمانة والنزاهة والكفاءة في العمل، وكانت الرشوة تعتبرُ من الكبائر.
مصدرُ هذه الصفات الحميدة لدى المسؤول والموظف في العهود الماضية لم يكن هو عقل “الجبر والإرجاء”، بل كانت هى “قيم” الحداثة الأوروبية التي أصابت السودان مع قدوم الإنجليز في أواخر القرن التاسع عشر، حيث أدخلت الأساليب الإدارية الحديثة وما يرتبطُ بها من قوانين ونظم لتسيير بيروقراطية الدولة.
وبالطبع فإنَّ أوروبا نفسها قد توصلت إلى قيم “الحداثة” بعد أن خاضت الدولة فيها صراعاً طويلاً ومريراً مع “الكنيسة ” التي كانت تُسيٍّرها نفس عقلية “الخليفة المنصور”، بحيث كانت تدَّعي أنها تمثل سلطان الله في الأرض و تُصِدرُ للناس “صكوك الغفران” و تُشيِّد لهم طرق المرور السريعة للجَّنة.
ختاماً نقول : لن ينصلحَ حالُ بلادنا وتستقيم أموره دون “الإنفكاك” من أسر القيود التي تشدنا إلى “العصور الوسطى”، وتُعاندُ مسيرة التاريخ عبر الخلط غير المُبرَّر بين “الديني” و “الدنيوي” بصورةٍ تجعلنا ندورُ في حلقةٍ مُفرغةٍ، وتُحوِّلُ إنساننا إلى “مومياء” في متحف التاريخ، أو تجعلهُ في أفضل الأحوال “كالمذهول” الذي ينظرُ في بله ٍإلى ما يدور حوله في العالم ثم يبتسمُ بسمة ًمُرَّةً كأنهُ يستلُّ من الشوكِ ذابلاتِ الورود.