أهمية بناء تحالف سوداني جديد للحقوق المدنية والسياسية والثقافية (3-4)
بقلم ياسر عرمان
الي سيدي ومولاي الحاج مالك الشيباز:-
إن قيام حركة حقوق مدنية ثقافية سياسية جديدة تتصدى لقضايا الفقر والمواطنة بلاتمييز وتربط بينهما بأفق من الإستنارة والتقدم ولا تتغفال قضايا النساء والشباب والبيئة ومجمل قضايا البناء الوطني وتعمل على إيجاد معادلة عالمية جديدة لمصلحة الهامش العالمي والبلدان الفقيرة وتربط بين نضالها الداخلي من أجل العدالة الإجتماعية والثقافية والسياسية في إطار ديمقراطي يحترم الحقوق الأساسية للإنسان وسيادة حكم القانون والفصل بين مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية وإحترام مهنية المؤسسات العامة وإقامة دولة مدنية ديمقراطية فهو عصب برنامج هذا التحالف. إن الإهتمام والإنحياز لإعادة التوازن للعلاقات الدولية مهم والا لأصبحنا كمن يهرب من بيت المرفعين الي بيت الأسد كما ورد في عبارة سديدة للشهيد جوزيف قرنق في كتيبه الهام (مأزق المثقف الجنوبي) وفي حواره مع القوميين الجنوبيين.
مؤخراً، قال جيسي جاكسون الذي عاصر وشارك في حركة الحقوق المدنية عن ما حدث في فارغسون (في عصر فارغسون فإن شجاعة مالكوم أكس في منازلة العنصرية محفزة أكثر من أي وقت مضى). إننا إذ نحتفي اليوم بمالكوم أكس فإننا نحتفي بأهمية حركات الحقوق المدنية السياسية ونتطلع نحو بناء تحالف لحركة حقوق مدنية سياسية ثقافية سودانية جديدة بعد حدثين كبيرين شهدهم السودان يشكلان علامة فارقة في تاريخنا الحديث، وهما إنفصال الجنوب وإرتكاب الدولة لجرائم الإبادة الجماعية ضد مجموعات كبيرة من السكان السودانيين مما يستدعي إعادة تعريف المشروع الوطني السوداني والتأمل في فشل الدولة ومشروعها الحالي بغية الوصول لرؤية شاملة للبناء الوطني، مما يطرح على قوى التغيير بناء كتلة تاريخية جديدة من مختلف القوى الإجتماعية الجديدة والقديمة بفكر ثاقب يتصدى بحسم للزج بالدين والإثنية في العمل السياسي لتحقيق مكاسب سياسية، وبناء دولة المواطنة بلا تمييز بعيداً عن محددات الدين والإثنية، ورفض أي تمييز على أساس الدين والإثنية والنضال من أجل دولة مدنية على أساس الفصل الكامل بين الدين والدولة، وأن تكون المواطنة هى أساس الحقوق والواجبات في الدستور، إن التحالف الذي ننشده يستند على قوة الجماهير وحضورها بعيداً عن ثقافة المنظمات غير الحكومية التي تستجدي التمويل. وعلى هذه الحركة أن تثبت أقدامها في العمل الجماهيري الداخلي مع الإستعداد الكامل للتفاعل مع المحيط الخارجي وإقامة شراكة إيجابية مع الخارج مستندة على المصالح الوطنية.
التحالف العريض لا يعني أن تتخلى مختلف المنظمات المكونة له عن هويتها التنظيمية بقدر إجتماعها لتكوين حركة ثورية مؤمنة بالديمقراطية في مظلة تحالف واسع يتصدى لسياسات التمكين والتخريب الذان لحقا بالدولة والمجتمع السوداني. إن الطريق الوحيد للوصول لتحالف الحقوق المدنية السياسية الثقافية الجديد يكمن في خوض المعارك لإزالة نظام الإنقاذ بكآفة الوسائل المتاحة وعبر أكبر جبهة معارضة يستند عملها المشترك في أهداف واضحة لإزالة دولة التمكين وبناء دولة الوطن، إنهاء الشمولية وتحقيق الديمقراطية ووقف الحرب والوصول لسلام حقيقي وشامل يخاطب أسبابها والإحتكام للشعب السوداني ديمقراطياً ليختار من يختاره، وهذه عملية طويلة تحتاج لبناء جبهة معارضة وإعمال النظرة النقدية لتجاربنا من التجمع الوطني الديمقراطي الي الجبهة الثورية والفجر الجديد الي نداء السودان الذي يشكل الأن أعلى محاولات توحيد العمل المعارض وعلينا التمسك بنداء السودان وتطويره كماً ونوعاً والإنفتاح على قوى معارضة خارجه.
إن شجاعة مالكوم أكس وعالمية أفكاره تسهم في هزيمة ظلام العنصرية، وفي السودان علينا أن نتحدث عن ما هو مسكوت عنه من عنصرية مؤسسية ذات لغة وشفرات غير مكتوبة كواحدة من قضايا تحالف حركة الحقوق المدنية السياسية الثقافية الجديدة من أجل بناء دولة المواطنة بلا تمييز.
إن قيام تحالف متعدد الثقافات لا يعمل على شيطنة مجموعات سكانية ووضع آخرى في مصاف الملائكة ولا يحدث قطيعة بين مكوناته الموضوعية ولا يعمل على إستبدال الضحايا بضحايا آخرين أو الوصول الي تغيير محدود لا يخدم كآفة أطرافه ويتقاصر عن تحقيق دولة المواطنة بلا تمييز ويبتدر مسيرة جديدة للبناء الوطني هو ما يشكل أساس هذا التحالف.
إن جمهور هذا التحالف هو نفس الجمهور صاحب المصلحة في إنتفاضة سبتمبر – أكتوبر 2013م وهو نفس الجمهور الذي إستقبل دكتور جون قرنق دي مبيور في الساحة الخضراء والذي كان بمثابة الإستفتاء على دولة المواطنة بلا تمييز والقبول بالآخر والذين كانوا هناك هم فقراء المدينة والريف من كل القوميات المتطلعين لدولة المواطنة والعدالة الإجتماعية والديمقراطية، وجمهور هذا التحالف يقع في مثلث المواطنة، العدالة الإجتماعية والديمقراطية. ولقد تخطى خطاب جون قرنق منذ زمن طويل محدوديات الخطاب الإثني الجغرافي وتناول على نحو تقدمي قضايا الفقراء والمواطنة كوجهين لعملة واحدة وهذا سر حب الناس لقرنق من نمولي الي حلفا ومن الجنينة الي كسلا، فهو قد خاطب مهمشي الريف وفقراء المدن وسعى لوحدة السودان بتقديم برنامج ديمقراطي جديد يتجاوز مظالم الماضي ويسعى الي بناء أجندة مستقبل مشتركة لجميع القوميات والفقراء، وقد وحدت الساحة الخضراء النساء والرجال والفقراء والشباب من كآفة الألوان والقوميات وكانت حدثاً فريداً، وإذا ما كان هنالك سبباً عجل بإغتيال جون قرنق فهو الساحة الخضراء والإستقبال غير المسبوق في تاريخ السودان الذي وجده الدكتور جون قرنق ديمابيور والذي إنتقل به نوعياً الي قاعدة إجتماعية جديدة.
إنتقل مالكوم أكس تدريجياً من شيطنة البيض للقبول بالتحالف والحوار مع أقسام منهم ومن الإنعزالية عند الغيتو الأسود للنضال من أجل حق التصويت للسود أو الأفارقة الأمريكيين لتغيير توجهات النظام القائم، وكانت ساعة إغتيال مالكوم أكس هي ساعة إعتزامه الإعلان عن توجهاته الجديدة وتقدمه نحو التحالفات متعددة الثقافات، تحالفات الراغبين في التغيير، لقد كان مالكوم أكس لحظة إغتياله شامخاً وعملاقاً وإقترب من ملامسة الإقتصاد السياسي لمعضلات الفوارق الإثنية والثقافية وهي لحظة تحتاجها حركات الهامش في السودان للدمج والربط الوثيق بين القهر القومي وجذوره الإجتماعية الإقتصادية، والتوجه نحو برنامج لا يقف في سطح الفوارق الإثنية بل يسعى لإلغاء غلاقات الإستغلال في جوهرها وبناء مجتمع جديد، إن الحركة الجماهيرية السودانية اليوم تتشكل بملامح جديدة فالمدن السودانية إعاد الريف تشكيلها على نحو جديد وهي التي كانت تشكل الريف وأدت الحروب في الهامش لهجرات واسعة نحو المدن وأدى الإحتكار الضيق للسلطة والثروة على نحو طفيلي لتدمير إقتصاد الريف والمدينة وإشعال الحروب وتتشكل حركة جماهيرية جديدة مما يمهد لقيام حركة مقاومة سلمية للحقوق المدنية السياسية الثقافية في المدن والريف وذات علاقة عضوية بين جمهوري الريف والمدينة يمكن أن تشارك في إنتفاضات المدن والإنتفاضات المسلحة في الريف إنها تيار جديد يسكن بالقرب من عمارات السلطة وأقرب إليها من حبل الوريد كل ما ينقصها هو الرؤية السليمة والإنتظام في تحالف جديد وعليها أن تربط بين القهر الإثني والقهر الإقتصادي والإستعداد لمعركة لا تكتفي بالتغيير الشكلي والإحلال والإبدال في البنية الفوقية للسلطة بل بالتوجه بحسم لبناء مجتمع جديد لمصلحة كآفة الفقراء والمهمشين من كآفة القوميات وبناء حركة لا تساوم مع خصومها في القضايا الإستراتيجية وتوحد المتضررين من كآفة القوميات وهذا هو مصدر قوتها فهي لا تستبدل الإنقسامات القديمة في المجتمع بإنقسامات جديدة ولكنها تستبدل الإنقسامات التي قامت على أسس إثنية إقتصادية إجتماعية في المجتمع القديم ببرنامج جديد يوحد المنتجين والمتضررين والمهمشين وفي قلبهم قضايا النساء لإنجاز دولة المواطنة بلا تمييز.
خلال أكثر من (260) ندوة قمنا بها في الفترة الإنتقالية في كآفة أنحاء السودان إلتقينا بمئات الألاف من السودانيات والسودانيين تولدت لدي ملاحظات وأسئلة أكثر من إجابات وجميعها تحتاج الي بحث معمق، إن التدمير المنهجي للريف السوداني المنتج وإنتقال الملايين الي مدن السودان خلق نوع جديد من المدينة يمتلك أكثر من ضمير سياسي بين القدامي والقادمين وإختلاف سبل كسب العيش والمطالب الحياتية ووجود فئات ذات تقاليد عمل سياسي راسخة وآخرى في مرحلة تثبيت أقدامها والتأقلم مع المدن، وهي مدن تم تدمير الصناعة بها ومؤسسات الإنتاج مما خلق التباعد بين جمهورى المدينة، كما إن الإختلافات الإثنية والثقافية وتقاليد العمل السياسي والمطالب السياسية المباشرة تباعد بينهما أيضاً، ويستخدم النظام الطفيلي السرطاني وأجهزة أمنه هذه الهواجس في تعزيز الإنقسامات وبناء حائط العزلة والتلاعب على جمهوري المدينة وعدم إنخراطهما في مهام مشتركة من أجل التغيير ويكمن عملنا الحقيقي في كيفية إيجاد برنامج مشترك يوحد جمهوري المدينة ووجدانهما وضميرهم السياسي بعد التحولات الديمغرافية والسياسية التي شهدتها المدن على نحو مثير للإنتباه، حتى يلتقي جمهوري المدينة على طريق الإنتفاضة.
إن رسالة حركة الحقوق المدنية السياسية الثقافية الجديدة يجب أن تكون رسالة غضب وحب في آن معاً وتربط بين الإضطهاد الإثني الثقافي والطبقي وتعي أهمية بناء مجتمع جديد للجميع وهذه تمثل أحدي خلاصاتي المهمة في تجربة إستمرت لمايقارب (30) عاماً من العمل المستمر في وسط الحركات التي إنطلقت من الهامش والإنتماء الملتزم بها.
تكمن قوة الحركات التي إنطلقت من الهامش في وضوحها الشديد في قضايا الإضطهاد القومي الإثني الثقافي ويكمن ضعفها في عدم الوضوح في جذور الإضطهاد القومي الإقتصادية السياسية ولذا تكون أحياناً ذات قابلية للمساومة مع النظام أو إحلال وإبدال شكلي يرث علاقات الإستغلال في المجتمع القديم دون تغيير كما ترث الإنقسامات القديمة للمجتمعات بكآفة أشكالها مع العجز في تقديم برنامج للبناء الوطني وتوحيد قوى بناء المجتمع الجديد وإحداث قطيعة مع تجربة البناء الوطني الماضية وإيجاد برنامج بناء وطني جديد يوحد كآفة المضطهدين ويقيم الوحدة في التنوع وهذه هو جوهر مشروع السودان الجديد وهذه واحدة من دروس تجربتنا بالإضافة الي المستجدات الجديدة في السودان وفي تطور الفكر الثوري على مستوى العالم.
إغتيل جون قرنق حينما توصل لتوحيد قوى التغيير بالدمج بينما هو إثني وطبقي والتمسك بضرورة وحدة السودان وهي قضية تحتاج لمزيد من البحث والتقصي لأن إغتيال قرنق يطرح أسئلة أكثر من إجابات كما ذكرت من قبل.
حينما بدأت أطالع كتاب البروفسور ثيوبولد عن المهدية والإستعمار التركي البيرطاني 1881-1889م لم يكن ما إستوقفني هو الرصد الدقيق لكثير من الأحداث الهامة والسياق الإجتماعي الإقتصادي للمجتمع السوداني أنذاك ولكن كان الأكثر جاذبية لي هو قدرة الإمام المهدي الشاب على النهوض في وسط الإحباط الي درجة اليأس في مجتمع مشتت تضربه الإنقسامات ويئن كاهله من الضرائب الباهظة والفقر وتفوق المستعمر وأدوات قهره العظيمة الناعمة والخشنة ومع ذلك تمكن المهدي الفتى من إشعال جذوة الأمل وسط اليأس والإحباط وزرع بذرة الإتحاد في وجه التشتت والإنقسام وتمكن من توحيد كتلة بشرية هائلة تفوقت على أدوات قهر المستعمر الناعمة والخشنة وعلى سلاحه الناري وكتبت صفحة تاريخية شديدة التأثير على مستقبل السودان وهذه ما يحتاجه السودان مرة آخرى لتوحيد كتلة تاريخية جديدة لبناء مجتمع ودولة تسع الجميع وعبر شركة مساهمة من كآفة الراغبين في التغيير.
ذهبنا في عام 1994م الي شرق الإستوائية مع قرنق مبيور وحينما هبطنا بطائرة الهيلكوبتر أستقبلنا المواطنون والجيش الشعبي بمعنويات هابطة فأتي الي جانبي صديقنا حماد آدم حماد المتمرس في العمل الحركي قبل إنضمامه للحركة الشعبية وقال لي (يا كمرد أعمل حسابك وكلم الرئيس انو الجيش زعلان شديد ولايوجد أكل ولا علاج ولا زخيرة وربما تحدث مشاكل في هذه الزيارة، كانت تلك كبسولة مكتملة فقلت له إن جون قرنق يدرك ذلك وعلى إطلاع على الوضع وسترى ماذا سيفعل)، دعى جون قرنق الضباط والجيش لمحاضرة وقام بشرح الوضع داخل السودان وداخل الحركة الشعبية وأسباب التراجع في صيف العبور والوضع الإقليمي والعالمي وقضايا الإسلام السياسي وأصدقاء الحركة الجدد في الإقليم وقال يوم غداً سوف يشهد وصول أكل وأدوية وزخيرة للمعسكر وقام بإعادة تنظيم الجيش وبترقية بعض الضباط ومن بينهم النقيب أبوحديد(جمعة بابو) أحد المؤسسين للجيش الشعبي من أبناء المورلي والذي أتى بعد ذلك محتفلاً في طابور مع زوجاته وأبناءه وهو يعزف موسيقى بإستخدام (قرن ثور) هاتفاً بحياة الدكتور جون قرنق، وفي الصباح وصلت العربات تحمل الزخائر والأكل والأدوية وبعد ساعات جاءت الهيلكوبتر….
يتبع،،،