القُروض المُيسَّرة والإحتياطي النقدي
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
قال وزير الدولة بوزارة المالية الدكتور عبد الرحمن ضرار في حوار مع وكالة “بلومبيرغ” الأسبوع الماضي أنَّ الحكومة السودانية تلقت 2 مليار دولار من دول الخليج في شكل “قروض مُيسرَّة”، وأكد أنَّ إحتياطي السودان الحالي من النقد الأجنبي يبلغ 1.4 مليار دولار.
ظللتُ أتتبعُ لفترة طويلة التصريحات التي يُطلقها المسؤولون في وزارة المالية وبنك السودان، وهى الجهات المنوط بها إدارة الشؤون الإقتصادية والمالية في البلد، وقد خرجتُ بملاحظتين في غاية الأهمية، أولاهما أنَّهم في الغالب يميلون “للتمويه” و “التستر” على المعلومات، والثانية أنهم – في المرَّات النادرة التي يدلون فيها بمعلومات – يقولون كلاماً متضارباً.
وكنتُ قد إستشهدتُ في مناسبة سابقة على سياسة “إخفاء الحقائق” التي يتبعها المسؤولون بالوزارة والبنك المركزي بتصريحات للممثل المقيم لإدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي في السودان، لويس إرسموس، قال فيها إنَّ الصندوق ينفذ مع الحكومة السودانية حالياً برنامجاً للإصلاح الإقتصادي يُعرف بالبرنامج رقم (14)، والذي سبقه تنفيذ ثلاثة عشر برنامجاً خلال العقدين الماضيين، وأوضح أنَّ ( الحكومة وافقت على الدخول في البرنامج لكنها لم توافق على تمليك معلومات تفصيلية حوله لعامة الناس ).
إنَّ سياسية “التمويه” وإخفاء الحقائق تتاكدُ على وجه الخصوص عند حديث هؤلاء المسؤولين عن موضوعات الودائع الخارجية والقروض والإحتياطي النقدي والدين الخارجي، وكان آخر ما كتبتهُ عن هذا الموضوع يتعلق بالتصريحات “المبهمة” التي أدلى بها وزير المالية، بدر الدين محمود، لمراسلة مجلة “تايم” خلال زيارته الأخيرة لواشنطون لحضور إجتماعات الربيع الخاصة بصندوق النقد والبنك الدوليين.
في حواره المذكور أعلاه، سُئل الوزير بدر الدين عن حجم الإحتياطي النقدي لدى بنك السودان فقال : ( في العادة يتم تقييم إحتياطي العُملات الأجنبية بعدد الأشهر التي يكفي لتغطية تكاليف الواردات فيها، حالياً لدى بنك السودان المركزي إحتياطي من العُملات الصعبة يكفي ثلاثة أشهر، ونحن نسعى لزيادة احتياطياتنا من العُملات الصعبة ).
حديث بدر الدين هذا يتناقض مع ما صرَّح به ضرار، حيث أنَّ مستوى الإحتياطي النقدي الذي ذكرهُ الأخير (1.4 مليار) يُغطي فقط حوالى “شهر ونصف من الواردات” ، فمَن يا تُرى مٍن الوزيرين يقول الحقيقة ؟
الأمر المؤكد هو أنَّ حديث الوزير بدر الدين ليس صحيحاً، فقد أشارت تقديرات الأرقام الصادرة عن برنامج المراقبة الذي يجريه صندوق النقد الدولي حالياً على الإقتصاد السوداني ( في تقرير المراجعة الثاني ) إلى أنه حتى نهاية عام 2015 لن يكون لدى البنك المركزي إحتياطي يكفي لتغطية ثلاثة أشهر من الواردات.
وتنبأ صندوق النقد الدولي في تقريره الأحدث عن السودان بأنَّ الإحتياطي النقدي سيصل في عام 2015 إلى حوالى 2.1 مليار دولار وهو ما يغطي حوالى شهرين من الواردات، ولكن يبدو من حديث الوزير ضرار أنَّ نبوءة الصندوق كانت متفائلة بأكثر من اللازم.
لا يُمكن أنْ تؤدي مثل هذه التصريحات المُتضاربة إلى تحقيق الوعود “المجَّانية” التي ظلت تبذلها الحكومة فيما يتعلق بالتدفق الكبير للإستثمارت الخارجية في مختلف المجالات، ذلك أنَّ من أهم مُقتضيات هذه الأخيرة الشفافية الكاملة في طرح المؤشرات والحقائق الإقتصادية وفي مقدمتها الأرقام المرتبطة بالاحتياطي النقدي.
كذلك فإنَّ محاولات التستر على الأرقام الحقيقية للإحتياطي النقدي من أجل المحافظة على سعر صرف الجنيه قد أثبتت فشلها في تثبيت سعر الدولار في السوق الموازي، حيث درجت الحكومة من حينٍ لآخر على إطلاق أرقام جزافية من أجل التأثير “النفسي” على المتعاملين في ذلك السوق حتى تحد من ارتفاع سعر الدولار.
ومن ناحية أخرى فإنَّ الوزير ضرار أكد في حواره مع وكالة “بلومبيرغ” حصول الحكومة على 2 مليار دولار في شكل “قروض مُيسرة” من دول الخليج، وقال ( إتفقنا مع دول الخليج على المزيد من تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية للبلاد مما سيساعد على زيادة إحتياطي العملات الأجنبية، وكذلك تمويل الواردات بما في ذلك الوقود ).
وكانت مصادر حكومية قد صرَّحت في أعقاب مشاركة السودان في الحلف العسكري الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين في اليمن أنَّ المملكة قد أودعت “وديعة إستثمارية” بمبلغ 4 مليار دولار في بنك السودان. ولكنَّ السفير السعودي في الخرطوم حينها نفى أن تكون بلاده قد قدمت أي مبالغ مالية للسودان، وقال أنهم مستعدون فقط للدخول في مشاريع إستثمارية خصوصاَ في المجالات الزراعية من أجل فائدة شعبي البلدين. ولذلك فإنَّ المتابع لهذه الأحاديث المتضاربة الصادرة عن المسؤولين لا بُدَّ سيتشكك في حقيقة ومصداقية التصريحات الخاصة بتدفق رؤوس الأموال الأجنبية.
غير أنّ الدليل الواضح على ضعف الإحتياطي النقدي هو عدم وقوع أي تغيير إيجابي على سعر صرف الجنيه في السوق الموازي حيث ظلَّ الدولار في حدود 9.6 جنيهاً على الرغم من تأكيدات المسؤولين المتواصلة ( وللأسف كذلك تأكيد بعض من يسمونهم بالخبراء الإقتصاديين) على أنَّ قيمة الدولار ستتراجع لحدود 7 جنيهات.
الأمر الذي يجب أن يلفت الإنتباه في خضم موجة التناقضات والتضارب الذي أصبح يشكل السمة الأساسية لتصريحات المسؤولين الحكوميين هو مدى إحتفاءهم بالقروض الخارجية ، والتي هى بطبيعتها لا تمثل في نهاية المطاف سوى “ديون” يجب سدادها عاجلاً أم آجلاً، مما يعني تحميل الإقتصاد المزيد من الأعباء.
وهى – القروض – كما لاحظنا في تصريحات الوزير ضرار لا تذهب لتمويل مشروعات تنموية أو إنتاجية، بل يتمُّ صرفها على “إستيراد” المواد البترولية وغيرها، وهو الأمر الذي يعني أنه في ظل غياب الرؤى والبرامج الإقتصادية الحقيقية إستمرار الإعتماد على الديون لحل المشاكل المرتبطة بالحساب الخارجي إلى ما لا نهاية.
ختاماً نقول : إنَّ التعامل مع قضايا الإقتصاد يتطلب قدراً عالياً من الشفافية والمصداقية في تمليك المعلومات والأرقام الصحيحة حول الأوضاع الإقتصادية، خصوصاً بالنسبة لبلدٍ لا ينفك المسؤولون فيها يتحدثون ليلاً ونهار عن طرح المشروعات الكبيرة لجذب الإستثمار الأجنبي.
وأنَّ سياسة التمويه وإخفاء الحقائق والإدلاء بالمعلومات المتناقضة – خصوصاً فيما يلي الأوضاع الإقتصادية – لا يُمكن أن تنطلي حتى على الناس العاديين والبسطاء، ذلك أنَّ أثرها يرتبط إرتباطاً مباشراً بمعاشهم اليومي، وهو الأمر الذي كانت نتيجته النهائية هى فقدان الثقة في القائمين على أمر الإقتصاد كما هو حال الناس اليوم.