رُؤى حول الإدارة الدُستورية للتنوع الثقافي
بقلم نصرالدين عبدالباري*
“إن التنوع هو الشيء الحقيقي الوحيد الذي نتقاسمه جميعاً. فلتحتفوا به كل يوم.” قولٌ مأثور
1. إن التنوع الثقافي في مجتمع ما يعني كينونة أكثر من نمط للحياة والتفكير في ذلك المجتمع، وذلك أمرٌ يميِّز المجتمعات المتعددة ثقافياً عن المجتمعات الأُحادية الثقافة، التي تتميز من هذه الناحية بالتجانس الثقافي كمقابل للتباين الثقافي. وعبارة التنوع الثقافي تستخدم كذلك للإشارة إلى المجتمعات والثقافات الإنسانية المختلفة في إقليم ما أو في العالم بكامله. والتنوع الثقافي هو في الواقع من أكثر أنواع التنوع أهمية وأثراً في حياة البشر، لأنه أكثر أشكال التنوع بينونة وظهوراً في المجتمعات، إذ يجسد الناس دوماً بسلوكهم اليومي ثقافاتهم وأنماط تفكيرهم، فإذا كانت هنالك ثقافات عديدة ومتباينة، فإن ذلك ينعكس تبايناً في السلوك وطرائق الحياة. لهذا السبب، نجد أن هنالك اتفاقيات دولية كثيرة معنية في جوهرها بالثقافة وحمايتها، أبرزها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية لسنة 1966، كما نجد منظمات حقوقية عالمية ووكالات أممية تكرس عملها لتطوير وتعزيز وحماية التنوع الثقافي في العالم، أهمها منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة، المعروفة اختصاراً باليونسكو. من هذا يتضح أن التنوع الثقافي له ارتباط بمبادئ حقوق الإنسان العالمية التي تكفل للأفراد والجماعات ممارسة حقوقهم الثقافية والتمتع بها.
2. ويعتبر السودان مثالاً جلياً ورائعاً للتنوع الثقافي البائن بتعدد الأديان التي يعتنقها الناس (سماوية كانت أم أرضية) وباللغات المختلفة التي يتكلمونها في كل أنحاء السودان، بجانب اللغة العربية، وبتباين أنماط الحياة واختلاف الفنون. وهذه الحقيقة—حقيقة التنوع الثقافي—هي ليست جديدة، وإنما ظلت بسبب الهجرات المستمرة إلى السودان من أنحاء مختلفة من العالم سمة مائزة للسودان والسودانيين عبر مختلف الحقب التاريخية. والسودان في ذلك ليس باستثناء، إذ أن كل بلاد العالم، حتى تلك التي نراها نحن من على البعد متجانسة، كبلاد الصين واليابان، متنوعة تنوعاً مبهراً.
3. إن قضية إدارة التنوع، على وجه العموم، والتنوع الثقافي، على وجه الخصوص، من القضايا التي تُعنى بها الدساتير والتصاميم الدُستورية الحديثة كثيراً، لا بأثرٍ من الإهتمام المتزايد بحقوق الإنسان العالمية فحسب، وإنما كذلك لتغَيُر جوهري طرأ على مفهوم الدولة المعاصرة في الفكر الدُستوري المعاصر والعلوم السياسية. لقد كان المفهوم التقليدي للدولة، وهو مفهوم نشأ وتطور في أوربا، مفهوماً خاطئاً يعرِّف الدولة بأنها “دولة قومية” تنشأ لأن هنالك قوم يتقاسمون الثقافة أواللغة أوالدين، أو لأن الدولة توجد في الأصل لصهر جماعات متباينة في الأساس من الناحية الثقافية ليكونوا أمة واحدة متجانسة أو قوماً متجانسين، فيما يعرف في العلوم الاجتماعية بـ “بناء الأمة.” وفي الحالتين كلتاهما، كان مفهوم الدولة قائماً على أساس أو افتراض خاطئ؛ ففي الحالة الأولى—حالة افتراض التجانس—يتعارض مفهوم الدولة مع حقيقة تنوع المجتمعات البشرية كلها، برغم المشتركات من القواسم بينها. وفي الحالة الثانية، نجد أن فكرة “بناء الأمة” بالمفهوم التقليدي هي فكرة مضللة تؤدي في أغلب الأحيان إلى الصراعات والحروب، لأن الجماعات الثقافية لا تقبل في الغالب من الأحوال بالتلاشي لتسود ثقافة واحدة تحسب الدولة أنها أسمى أو أغلب، وتعززها وترفع من شأنها بالسياسات الإعلامية والتعليمية. وغالبية الصراعات التي دارت أو تدور في أجزاء كثيرة من الكرة الأرضية، كما في السودان، ترجع جذورها إلى سعي النظم السياسية التي تولت أمر السلطة بعد رحيل النظم الاستعمارية لخلق هذا التجانس المستحيل فطرياً وعملياً. وخطورة الدول القومية التي يُفترض وجودها أو يُسعى عبثاً لبنائها هي أن الناس فيها تُصان حقوقهم أو تُحفظ (وكذلك تُهدر) بقدر قربهم أو بعدهم من السمات الثقافية أو العرقية التي تعمل الدولة من أجل سيادتها.
4. والحق أن تبني دُستور قائم على مبادئ التنوع بأشكاله المتعددة هو الذي يسهم في إدارة التنوع وليس العكس. والدُستور بهذا المعنى هو أداة من أدوات الدولة والمجتمع لتنظيم التنوع وإداراته. وكيما يكون الدُستور مصمماً على وجه يأهله على المساعدة في القيام بذلك، فأنه ينبغي أن يُبنى بطريقة تتماشى والمناهج الحديثة لبناء وصناعة الدساتير، والتي تقتضي أن يكون دُستور الدولة هو نتاج عملية تتسم، من بين سمات أخرى، بالتشاركية والشمول. فالدُستور لم يعد وثيقة يحدد محتواها ويكتبها قادةُ السياسة ورجال القانون ثم يعرضونها على الشعب، وإنما الشعب بمكوناته المختلفة هو الذي يحدد محتوى الوثيقة، ثم يقوم المتخصصون والخبراء بصياغتها ليبدي الشعب بعد ذلك فيها رأيه الفصل رفضاً أو قبولاً.
5. هنالك مسألتان اساسيتان، فيما أرى، تتصلان بتصميم دُستور معبِّرٍ عن وعاكسٍ لرؤى جميع السودانيين ومعززٍ وحامٍ لتنوعهم الثقافي؛ الأولى تتصل بالعملية التي تؤدي إلى ميلاده، بينما الثانية تتعلق بالغاية العامة من أحكامه في سياق الظرف التاريخي الذي تُصاغ فيه. فمن ناحية العملية المنتجة للدُستور، فإن الدُستور الذي يكون نتاجاً لعملية يشارك فيها كل أفراد وطوائف الشعب دون إقصاء يكون في الواقع معبِّراً عن آرائهم وتطلعاتهم جميعاً. ففي جمهورية كينيا التي تتميز، كالسودان وكغالب البلدان في العالم بالتنوع والتعدد، جاب أعضاء لجنة مراجعة الدُستور (لجنة الخبراء بشأن الإصلاح الدُستوري) كل أرجاء القطر، وتحدثوا إلى الناس في البوادي والحواضر بلغاتهم التي يفهمونها وشرحوا لهم المفاهيم والمبادئ الدُستورية المعقدة بالأمثلة التي تبيِّن أثرها في حياتهم اليومية، وتمكنوا كذلك من معرفة هموهم وتصوراتهم عن القضايا التى كانت محلاً للنقاش والنظر. فضلاً عن ذلك، قامت أجهزة الإعلام بتخصيص برامج منتظمة للقيام بذات الدور ومعرفة آراء الناس. لذلك جاء الدُستور عاكساً لرؤي جميع الكينيين، ولم يترك تبنيه غماً في قلوب السواد الأعظم منهم، بفضل سلامة العملية التي أدت إلى ميلاده. إن الفكرة الأساسية بهذا الخصوص هي ليست فقط صلاح الأحكام الدُستورية ومناسبتها لأحوال الشعب أو جماعة محددة منه، وإنما كذلك شعور جميع المواطنين بالمساهمة في تحديد محتوى الميثاق الذي سوف يحكم حاضرهم ويحدد مستقبلهم. فلا غرو أن عملية صناعة الدُستور بهكذا طريقة، سيما في المجتمعات المتنوعة ثقافياً، تتحول إلى سانحات تاريخية عظيمة لحوار وطني حقيقي وشامل، غالباً ما ينتهي بحسم القضايا المثيرة للجدل بالتوافق، فتخرج المجتمعات الممزقة موحدة بعد الحوار، بينما تصبح الموحدة منها أصلاً أكثر توحداً وتماسكاً. إن الدُستور الذي يولد بإرادة شعبية مشتركة، علاوة على أنه يتيح مجالاً للحوار، يكون بلا ريب مملوكاً بحق لكل أفراد الشعب، يلتزمون بصدقٍ بأحكامه، ويهبَّون زرافات ووحداناً للدفاع عنه متى وقع أعتداءٌ عليه.
6. أما من حيث الغاية العامة من أحكام الدُستور، فأن أحكام الدُستور ينبغي، برأيي، أن تكون مكرسة لتأسيس دولة غير منحازة، ولا أقول محايدة، لأن الدولة بطبيعتها ولمهامها في المجتمع لا يمكن ولا ينبغي لها أن تكون محايدة. وسمة عدم الانحيازية هذه ما هي إلا اقرارٌ عملي بواقع التباين والتنوع الثقافي أو العرقي أو الديني. ويقتضي التسليم بضرورة عدم الانحيازية كغاية وكمبدأ، من ناحية، قيام أحكام الدُستور على تنظيم وحماية المجموعات الثقافية بحيث تضمن كينونتها جنباً إلى جنب بسلام دون أن تمنع الدولة كجهاز فرداً من الأفراد أو جماعة من الجماعات من القيام بأيٍ من طقوس ثقافتهم، إلا إذا كان في ذلك أعتداءٌ أو تعدي على حقوق الآخرين أفراداً كانوا أو جماعات، إلتزاماً بالقاعدة الذهبية المعروفة أن حقوق الفرد أو الجماعة تنتهي حيث تبدأ حقوق الآخرين. ومن ناحية أخرى، يقتضي التسليم بذلك، امتناع الدولة دُستورياً عن الاصطفاف بجانب ثقافة من ثقافات المجتمع، لأن ذلك يحوِّل الدولة بوجه مباشر أو غير مباشر إلى أداة تخدم الثقافة المتبناة وعناصرها، مما يخلق على المدى الطويل ثقافة طاغية فيشعر المنتمون إلى الثقافات الأخرى بالإقصاء، وذلك أمرٌ لا يخفى على عاقلٍ خطرُه على المجتمعات التي تتميز إياها بالتنوع.
7. إن المجتمعات والدول التي تصون وتحمي بدساتيرها تنوعها، سيما الثقافي منه، وتديره برشد ترسي في الحقيقة أسساً راسخة للسلام والاستقرار والأمان فيها، وتثري حياتها بجمال التعدد الثقافي، الذي يجعل المجتمعات بمرور السنين متحدة أو أكثر توحداً ومتسامحة ومنفتحة وجاذبة للمجتمعات الأخرى. هذا فضلاً عن أن مدى سيادة الحرية في بلد ما، يمكن أن يُقاس بالتأكيد، كما قال المأرخ الإنجليزي، اللورد أكتون، بقدر تمتع الأقليات فيه بالأمان.
* محاضر سابق بكلية القانون بجامعة الخرطوم؛ وهو حالياً طالبُ دكتوراة بكلية القانون بجامعة جورجتاون، واشنطن، دي سي. يمكن التواصل معه عبْر البريد الإلكتروني: [email protected]