أئمة المساجد و شؤون السياسة
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
قبل هبوط الإنقاذ على أهل السودان، كانت خطب الأئمة في غالبية المساجد تركز على تثقيف الناس في شئون دينهم، وكيفية تجويد عباداتهم، وإحسان معاملاتهم، ولكن هذا الحال تبدَّل كثيراً بعد إنقلاب يونيو وأضحى الأئمة يتدخلون بصورة سافرة في الأمور “السياسية” ويُصدرون الفتاوى في قضايا لا يفقهون فيها شيئاً.
وتتمثلُ خطورة هذا التدخل في أنَّ كثيراً من الناس يُجلوُّن “منبر” الإمامة ويتأثرون بالآراء التي تصدر عنهُ بإعتبار أنها تمثل رأي “الدين” في الوقت الذي يسعى فيه الإمام “لتسويق” فكرة أو موقف سياسي يخدم به مصلحة “السلطة” أو يؤيد به جماعة سياسية بعينها أو يُرَّوج به لإتجاه فكري مُعيَّن.
تبَّدت هذه الحقيقة بوضوح في الحوار الذي أجرتهُ الأستاذة لينا يعقوب مع إمام مسجد الخرطوم الكبير كمال رزق ونشرتهُ صحيفة “السوداني” الاسبوع الماضي، حيث سألتهُ عن مُبرِّر دعوته بهلاك “السيسي والأسد وحفتر”، فقال أنهُ يدعو بالهلاك لكل ظالم، واتهمهم بمحاربة “الإسلام”، ثم كشف عن إنتمائه الحقيقي بالقول :
( جماعة الإخوان المسلمين أكبر جماعة مسالمة في العالم ولم يحدث أن فجرت أو قتلت أو دمرت، هي جماعة قائمة على منهج فكري أصيل .. جماعة الإخوان جماعة مثالية ومسالمة، والدليل أن حزب النهضة في تونس نجح في الانتخابات وفاز وتنازل عنها، كيف مثلاً تكون هذه جماعة إرهابية ؟ كلمة إرهابية تستخدم لضرب الإسلام الذي يمثله الإخوان المسلمون.. الإسلام الوسطي يقود مسيرته الإخوان المسلمون في العالم ).
في البدء نقول أنهُ من حق كمال رزق أن ينتمي لأية جماعة دينية أو سياسية، ولكن ليس من حقه أن “يستغل” منبر المسجد ليُروِّج لإنتمائه السياسي، ويدعو بالهلاك على “خصوم” جماعتهِ، وقبل كل ذلك يُصِّور الصراع بين “الإخوان المسلمين” وخصومهم على أنه إستهدافٌ “للإسلام” كدين، هذا تخليطٌ مفضوح، ومدالسة ٌ(مُخادَعَة) لا تليقُ بمنبر الإمامة في المسجد.
أمّا القول بأنّ جماعة الإخوان المسلمين هى أكبر جماعة “مسالمة في العالم” ولم يحدث أن ” فجرَّت أو قتلت” فهو إدِّعاءٌ باطلٌ ، وكذبٌ حنبريت ( كَذِبٌ خالصٌ، لا يُخالِطُه صِدْق )، فهو يناقضُ أفكار الجماعة التي خاطب مؤسسها أتباعهُ قائلاً ( أيها الإخوان أدعوكم للجهاد العملى بعد الدعوة القولية، سندعو كل الهيئات إلى الإسلام، فإن أجابوا الدعوة آزرناهم، وإن لجأوا إلى المراوغة والدوران فنحن حرب عليهم ولا هوادة معهم حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين ).
الهيئات المقصودة في قول “حسن البنا” أعلاهُ هى التنظيمات و الأحزاب والجماعات السياسية ، و”الجهاد العملي” يعني إستخدام العنف ضد مخالفي الجماعة، وهو الأمر الذي تمَّت ترجمتهُ عملياً في أنشطة “التنظيم الخاص” الذي نفذ عمليات إغتيال أحمد ماهر والقاضي أحمد الخازندار ومحمود فهمي النقراشي وغيرهم.
هذه جماعة حربية بإمتياز لا تتوَّرع في استخدام العنف ضد كل من لا يتفق معها، العنف موجود في شعارها الذي يُزَّينه سيفان و مكتوب عليه “واعدوا” وليس “وادعوا”، وهو كذلك عنصر أساسي في بيعتها التي تتم على المصحف و”المسدس”، ومُخطىءٌ من يظن أنَّ هذا العنف يوَّجهُ لأعداء الأمة، هو عنف مُوجهٌ لكل من يختلف مع الجماعة.
ليس هذا فحسب بل إنَّ الجماعة هى التنظيم الذي رضع أبناؤهُ من ثدي أفكار سيد قطب حول العنف و جاهلية المجتمع وتكفير المختلفين، وهى الأفكار المبثوثة في كتابه “في ظلال القرآن” الذي إستلًّ منه الكتيب الذي أضحي بمثابة المرجعية الأساسية للعنف لدى كل الجماعات المتطرفة وهو كتاب “معالم في الطريق”.
لا يكتفي كمال رزق بإظهار دفاعه المُستميت عن جماعة الإخوان المسلمين بل يقول رأياً وكأنهُ الرأي الوحيد والنهائي في مسألة فقهية تحتملُ الإختلاف وهى مسألة سفر المرأة من دون محرم، فنجدهُ يُقرُّ بمهاجمته لوزير الداخلية لأنه أجاز سفر المرأة دون مُحرِم، ويقول ( أنا أتحدث عن حكم شرعي، لا يجوز للمرأة أن تسافر وحدها مسيرة يوم وليلة، هذا حديث صحيح وهو حكم شرعي ).
ولكن صاحبنا تجاهل إجتهاداً آخر في هذه القضية، وهو إجتهادٌ أقرب لروح العصر ومعطياته، وهو كذلك يستند على حديث عن الرسول الكريم رواه البخاري عن عدي بن حاتم أنه قال لهُ ( فإنْ طالت بكَ حَياةٌ لتَرَيَنَّ الظَّعِينةَ -أى المُسافِرة- ترتحِلُ مِن الحِيرةِ حتى تطُوفَ بالكَعبةِ لا تخافُ أَحَدًا إلَّا اللهَ )، ومن هنا جاء الرأي بجواز سفر المرأة وحدها إذا كانت آمنة.
أصحاب الرأي الآخر يرون أنَّ العلة من منع سفر المرأة وحدها هى “إنعدام الأمن”، وهو الأمر الذي كان شائعاً في ذلك الزمان، وبالتالي فإذا توفر الأمن عبر وسائل السفر المختلفة من طائرات وسفن وقطارات وغيرها فليس هناك ما يمنع سفر المرأة وحدها، وعليه فإنهم “خصَّصوا” بهذا الحديث أىٌ حديث آخر يُحرِّم سفر المرأة وحدها بغير مُحرِم.
ومعلومٌ كذلك أنَّ أمهات المؤمنين، رضى الله عنهن قد سافرن للحج بعد وفاة الرسول الكريم “بدون مُحرِم” في عهد سيدنا عمر بن الخطاب الذي أرسل معهن سيدنا عثمان بن عفان ليحافظ عليهنَّ.
ولكن كلام كمال رزق هذا لا ينفصلُ عن رؤية مدرسة في الفكر الإسلامي لا همَّ لها سوى التضييق على المرأة في كل شىء متناسين أنَّ المرأة في عصرنا هذا أصبحت “رئيسة وزراء” و “رائدة فضاء” وتحمَّلت مسؤليات يعجزُ كثير من الرجال عن تحمُلها، ألم يسمع رزق “بالنساء” الكُرديات المُقاتِلات اللائي أذقن “رجال” داعش الأمرَّين في معارك “كوباني” في سوريا ؟
حديثنا عن أئمة المساجد ينطبقُ بذات القدر على “شيوخ الدين” الذين ينضوون تحت ألوية هيئات ومؤسسات تُصدر الفتاوى الدينية، ومنها “هيئة علماء السودان”، التي أتى ذكرها في الحوار مع رزق حيث قالت له الأستاذة لينا أنَّ نائب الأمين العام لهيئة علماء السودان أعلن دعمه اللا محدود للرئيس البشير، فأجابها بالقول : لا مانع من أن يقول رجل الدين رأيه.
ونحنُ نتفق مع رزق في أنَّ كل شخص حُر في إبداء رأيه، ولكن عندما يصدر الرأي عن أفراد هذه الهيئة التي تدَّعي أنها تمثل “علماء الدين” فإنَّ تأثيره على البسطاء من الناس يكون كبيراً لذات السبب الذي ذكرناه بخصوص أئمة المساجد، وبالتالي فإنَّ من الأجدى أن يحتفظ شيوخ تلك الهيئات بآرائهم لأنفسهم حفاظاً على حياد منابرهم في موضوعات حسَّاسة مثل الإنتخابات.
ولكنَّ من يعرف طبيعة هذه المؤسسات يُدرك مدى إرتباطها “بالسلطة” الحاكمة، ذلك أنَّه لا بدّ لكل سلطة سياسية من مشروعية ، ويُمثل “الدين” في عالمنا الإسلامي المصدر الأول للمشروعية ولعلنا حالياً نري أنَّ السلطات السياسية في كثير من الدول الإسلامية توجد بينها وبين المؤسسات الدينية الرسمية علاقة تبادل منافع ، فالسلطة السياسية تُغدق علي المؤسسات الدينية المنح والمناصب والرواتب والعطايا وأعضاء المؤسسة الدينية الرسمية يمنحون الشرعية لتلك السلطات السياسية.
غير أنَّ أكثر ما يُثير المرء في حديث رزق هو قولهُ أنَّه يسعى لقيام ( دولة إسلامية بمنهج إسلامي بدستور وحكم إسلامي قائم على منهج النبوة والأخلاق والعدل )، ذلك أننا ظللنا نكتب منذ زمن ونعيد القول عن إستحالة تطبيق مثل هذه الأحلام، على الأقل هذا ما تقول به التجربة التاريخية الممتدة منذ آلاف السنين.
وقد سبق لنا أن قلنا في معرض سعينا لدحض فكرة وجود “حكم إسلامي صحيح” وآخر خطأ أنه لا توجد تجربة إسلامية تحتذي سوى تلك التي إرتبطت بالرسول ( ص) بوصفه مبعوث السماء للأرض وما عدا ذلك فهو مُجرَّد إجتهادات بشرية تحتمل الصواب والخطأ، بما في ذلك تجربة الخلافة الراشدة.
وهذا هو الدرس الذي يُعلمنا لهُ تاريخ الدولة الإسلاميَّة منذ خلاف السقيفة ، ومنذ أن سالت دماء المسلمين في الجمل وصفيِّن والنهروان وكربلاء، مروراً بإمبراطوريات المُلك الوراثي العضوض للأمويين والعباسيين والفاطميين، وصولاً لخلافة بني عثمان التي ثار عليها المسلمون في جميع أنحاء العالم الإسلامي بما في ذلك ثورة الإمام “المهدي” في السودان، وانتهاءً بحُكم ملالي إيران و طالبان أفغانستان وشباب الصومال.
إنَّ عجز تجربة القرون الطويلة لأنظمة الحكم الإسلامي عن إنزال ما يُسمى بالإسلام الصحيح لواقع التطبيق العملي سوى بضع سنوات – هي فترة الرسول (ص) – من مجموع أكثر من ألف وأربعمائة عام يعني أنَّهُ لا يوجد منهج متفقٌ عليه و أنَّ التجربة الصحيحة نفسها تجربة فذة وغير قابلة للتكرار.
قال رزق في ذات الحوار : ( نحن الآن في عصور الانحطاط التي أقصت رجل الدين وجعلته في ركن قصي من الحياة وأبعدته عن كل ما يتعلق بالحياة ).
ونحن من جانبنا نتفق معهُ في أنَّ مجتمعات المسلمين تعيش منذ زمن بعيد في حالة جمود و إنحطاط، ولكن ليس بسبب إقصاء رجال الدين كما يقول، بل بسبب “تسلط” رجال الدين وتدخلهم “اللامحدود” في كل أمور الحياة وجوانبها المُختلفة.