أيُّ فكرة إسلامية يتحدث عنها أمين حسن عمر ؟
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
أوردت صحيفة “آخر لحظة” الأسبوع قبل الماضي خبراً يُفيد بأن الدكتور أمين حسن عمر القيادي بحزب المؤتمر الوطني قال في حديث لبرنامج “الميدان الشرقي” بقناة أمدرمان الفضائية ( لن نقاتل في سبيل تطيبق الشريعة الإسلامية، و في حال رفض الشريعة بخيار ديمقراطي سنعارض بالحسنى، ولن نكره الناس عليها).
وكذلك أجرت الأستاذة شمائل النور الأسبوع الماضي حواراً نشر بصحيفة “التيار” مع الدكتور أمين تناول العديد من الموضوعات، من بينها بعض القضايا الفقهية، و أوضاع الأحزاب السياسية، ولكن الجانب الأكبر من الحوار تناول مستقبل الحركات الإسلامية في السودان والمنطقة.
درج كاتب هذه السطور على تفنيد الآراء التي تصدر عن أهل الحكومة خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا “الفكرية” التي تؤسس للأفعال “السياسية”، و يقف على رأس هذه القضايا موضوع “الشريعة” التي ظلت تشكل على الدوام أساس الخطاب الذي سعى أهل الحكم – في مختلف تخلقاتهم التنظيمية – لإستخدامه في إستمالة عاطفة السودانيين من أجل الوصول للسلطة.
وفي هذا الإطار ظللنا نطرحُ على أهل الحكم سؤالاً في غاية البساطة : ماهى الشريعة التي تتحدثون عنها ؟ ومع بساطة هذا السؤال فقد عجزوا عن الإجابة عليه، بل أظهرت ممارساتهم وأقوالهم، تناقضات واضحة، فهم تارة يقولون إنَّ الشريعة طُبقت منذ أن أجيز القانون الجنائي لعام 1991، وتارة أخرى يقولون أنَّ الذي تم تطبيقه لم يكن سوى “شريعة مدغمسة” وأنَّ “الشريعة الجد جد” ستطبق قريباً !
ولا يُساورني شكٌ في أنَّ حكامنا أنفسهم لا يعرفون “ماهية” الشريعة التي يرغبون في تطبيقها، ولكنهم فقط يستخدمونها “ككرت رابح” يستميلون به عاطفة البسطاء من الناس الذين جُبلوا على قبول الشعارات الدينية بالفطرة.
وعندما يقول الدكتور أمين أنهم لن يقاتلوا في سبيل تطبيق الشريعة ولن يُكرهوا الناس عليها، فعليه في البداية وقبل كل شىء أن يشرح لنا ماذا يعني بكلمة “الشريعة” ؟ هل يقصد “الحدود الشرعية” ؟ فهذه تم تطبيقها منذ أكثر من عقدين من الزمان، أم هى شىءٌ آخر جديد لم نشهدهُ طوال ربع قرن من حكم الإنقاذ ؟
ومن ثم – وقبل أن يتبرطم (ينْتفخُ غَضَباً) على طريقتهِ المعهوده – سنعالجهُ بالسؤالين التاليين : ولماذا إذن زايدتم على الأحزاب الوطنية وطالبتم بتطبيق “شريعة سريعة” دونها الموت ؟ وإذا كنتم في الأصل تحترمون “الخيار الديموقراطي” فلماذا إنقلبتم على الحكومة الشرعية التي جاءت للسلطة عبر صناديق الإقتراع ؟
الإجابة على هذه الأسئلة ستُعيننا على فهم حديث الدكتور أمين بإنتفاء نية إستخدام القوة في تطبيق الشريعة، ومع إدراكنا “لعدم مبدئية” كلامه هذا إلا أننا سنعطيه ال (بينيفِت أوف ذا داوت) أو “ميزة الشك” ونقول أنه ربما أراد أن يقتفي أثر إخوانه في تونس، حيث إرتضت جماعة النهضة بدستور لا ينص على تطبيق الشريعة ووافقت على أسس الدولة المدنية، وعدم تطبيق الحدود، وكذلك وافقت على” مجلة الأحوال الشخصية” التي تتضمَّن الكثير من حقوق المرأة التي عادة ما يعترض عليها أهل “الإسلام السياسي”، وكان ذلك كلهُ نتاجاً “للخيار الديموقراطي” الذي إرتضته النهضة “كُرهاً أو طوعاً”، فهل سيقبل الدكتور أمين ورهطهُ بمثلما قبلت به النهضة ؟ أم أنهم سيُصِّرون – كما إعتادوا – على أن يسوقوا الناس سوقاً للجنة ؟
أم هل يا ترى سيقبلون بطرح أخيهم “رجب طيب أردوغان” الذي قال إنَّ سبب نجاح سياساته هو ( إحترام أسس وقواعد “الدولة العلمانية” التي تحترم جميع الاديان وتقف على مسافة واحدة منها ) ؟
أمَّا الأستاذة شمائل فقد سألت الدكتور أمين السؤال التالي : كيف تنظر لمستقبل الحركات الإسلامية ؟ فأجابها بالقول : (هو أصلاً ليس هناك بديل لها، الحركات الإسلامية من يستطيع أن يخرج الناس من الأزمة ).
بالطبع لم يوضح لنا الدكتور أمين ما يعنيه “بالحركات الإسلامية” وهل يشمل تعريفها جميع حركات الإسلام السياسي بما فيها داعش والنصرة وأنصار الله وبوكو حرام وغيرها، أم يقتصر المعنى على جماعة “الإخوان المسلمين” وفروعها، أمَّا إذا كان يقصد بها الأخيرة فقد جرَّبنا حكمها في السودان طيلة ربع قرن ولم تخرجنا من الأزمة بل أدخلتنا في أزماتٍ يأخذ بعضها بتلابيب بعض.
قد أضاع حكم الحركة الإسلامية في السودان ثلث أرض البلد، وثلث الشعب، وظلت الحروب الأهلية والموت والنزوح هى أبرز عناوينه، مضافاً إليها التفسخ الإجتماعي والردَّة لعصر القبيلة، وبعد أن تمَّ تخدير الشعب بشعارات رنانة من شاكلة “حنعمِّر نحنا بلادنا ونسود العالم أجمع” فشلنا حتى في الحفاظ على وحدة ما تبقى من وطن، وأصبحت فاتورة إستيراد الغذاء هى الأكبر من بين فواتير الواردات العديدة “لسلة غذاء العالم”.
أمَّا أهل الحكم أنفسهم – من أصحاب الأوجه النورانية والأيادي المتوضئة – فقد أسكرتهم فتنة السلطة والجاه والمناصب والأموال، وما يصاحبها من فساد مما دفع أحد رموز الحركة، المرحوم يس عمر الإمام، للقول : (أصبحتُ أخجل واستحى من أن أدعو شخص للإنضمام للحركة الاسلامية والبرنامج الاسلامى ).
فبعد هذه التجربة الطويلة و المريرة ما الذي يجعل الدكتور أمين واثقاً من أنهُ لا يوجد بديل لجماعته ؟ إنهُ الإستعلاء الآيديلوجي الأجوف الذي يتربى عليه كادر الجماعة، والذي “يعمي بصيرة” أصحابها عن رؤية أية جهة أخرى بحسبان أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة والحق المطلق.
إنَّ بلادنا اليوم – يا دكتور أمين – في حاجة ماسة لمشروع “وطني” يُضمَّدُ جراحها ويُحافظ على وحدتها ويستعيدُ كرامة إنسانها، بعد أن أدخلها مشروعكم “الأممي” العابر للحدود في مغامرات غير محسوبة، وفي نفقٍ مظلم من الإستبداد الداخلي والعزلة الإقليمية والدولية.
البديل هو “البرنامج الوطني” الذي يؤسس لدولة المواطنة الحقة، وليس “لأخوة العقيدة” التي دفعنا ثمنها غالياً على كافة الأصعدة، هو البرنامج الذي يقوم على “ديموقراطية” حقيقية وليس “ديموقراطية الحزب العطوف” الذي يُمسكُ بمفاتيح الدولة و الإقتصاد والأمن و يتنازلُ لأحزاب “الفكة” عن الدوائر في إنتخابات معروفة نتيجتها سلفاً.
قال الدكتور أمين كذلك أنهُ لا يتوقع حدوث إصطفاف فكري حاد في السودان لأنَّ ( الفكرة الغالبة في السودان هي الفكرة الاسلامية وهي غير قابلة للزحزحة، هناك حزب الأمة والمؤتمر الشعبي والاتحادي بتياراته المختلفة، والمؤتمر الوطني، هذه جميعها أحزاب ذات خلفية إسلامية وهذه تمثل غالبية ).
لا أدري إن كانت هذه القناعة قد تشكلت لدي الدكتور أمين وجماعته مؤخراً أم أنهم كانوا يزايدون على هذه الأحزاب “الأمة والإتحادي الديموقراطي” في الماضي عندما كانوا يُسيرون المواكب المطالبة “بالشريعة السريعة”، فما دامت الفكرة الإسلامية راسخة وغالبة، فلماذا إنقلبتم على الحكم الديموقراطي وقد كانت هذه الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية تحكم ؟ هي شهوة السلطة إذن وليس الخوف على الإسلام.
وعندما قالت الأستاذة شمائل للدكتور أمين أنَّ الحركة الإسلامية فرضت مشروعها بالقوة ؟ أجابها بالقول : ( الحركة الاسلامية أصلاً مدعومة بانحياز عريض، بما فيها حزب الأمة، عليك أن تسألي نفسك، مثلاً لماذا أتى إلينا حزب الأمة المؤتمر الوطني أصبح 6 مليون ليس فقط بالعضوية الإسلامية، هناك حزب أمة واتحاديون وغيرهم وحتى شيوعيين ).
هذه الإجابة تثير الضحك والشفقة في آن واحد، فبغض النظر عن القول أنَّ عضوية المؤتمر الوطني بلغت ستة ملايين شخص ( وهو محض إدعَّاء )، فإنَّ الدكتور أمين عدَّ جميع قواعد الأحزاب أعضاء في حزبه الحاكم، بما في ذلك الشيوعيين، وإذا صدقنا قوله هذا فإننا نعود ونطرح عليه السؤال الصعب : إذا كانت حركتكم أصلاً مدعومة بإنحياز عريض فلماذا لم تستطيعوا الوصول للسلطة إلا عبر الإنقلاب العسكري ؟
في إجابته عن السؤال التالي : برأيك، لماذا ينتقل بعض الشيوعين ناحية الحركة الإسلامية ؟ قال الدكتور أمين ( المشروع الوطني من جهة، والتطور في السيرة الذاتية كذلك، أيضا الأفكار ليس لها مواقف قطعية، هناك أفكار مشتركة بين هذه الحركات، على سبيل المثال، العدالة الاجتماعية في الحركة الإشتراكية مثلاً تعبر عنها قيم العدل في الاسلام ).
أىُّ مشروع وطني يتحدث عنهُ الدكتور أمين ؟ هل هو المشروع الذي فتح أبواب البلاد على مصراعيها لإستقبال قادة جميع الحركات الإسلامية المتطرفة في تسعينيات القرن الفائت بمن فيهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، أم هو المشروع الذي استعدى جُل دول الجوار بحُجَّة مناصرة المسلمين المضطهدين فيها ؟
لقد كان المهندس صلاح قوش أكثر شجاعة ووضوحاً عندما سئل عن الأولوية التي يجب أن تركز عليها الحركة الإسلامية فقال ( المشروع لم يوفق في كثير من القضايا الوطنية المُلحة، نحن نحتاج الآن لمشروع وطني، وقضية الحركة الإسلامية كيف يتحول مشروعها إلى مشروع وطني يخدم القضية الوطنية، فالقضية الملحة الآن في تقديري هي القضية الوطنية ).
يتوجب على أهل الحركة الإسلامية الإجابة على هذه الاسئلة الأساسية التى أتينا على ذكرها في هذا المقال قبل أن يستعرضوا “عضلاتهم” ويباهوا بأنه لا يوجد بديل لمشروعهم الفكري الذي اوصل بلادنا للحالة التي نعيشها اليوم.