زمان التحولات والبحث عن مخرج سوداني
اطلالة على العام 2015 (3+3)
بقلم السر سيد أحمد
التحولات التي يشهدها العالم لا تقتصر على ما يجري في الساحة النفطية فقط رغم أهميتها. فالملمح الأساسي يتمثل في عدم الوضوح وتسارع الأحداث بما يتجاوز قابلية المؤسسات على المتابعة وووضع الخطط والسيناريوهات اللآزمة للتعامل مع هذه المتغيرات. في أكتوبر الماضي روت صحيفة “نيويورك تايمز” أن سوزان رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي دعت مجموعة من الخبراء الى لقاء تفاكري حيث برز نقد لأدارة أوباما انها لم تضع أستراتيجية متكاملة بعد التشاور مع الكونجرس لتصبح هاديا للتعامل مع القضايا التي تفجرت من البروز القوي لداعش والأيبولا وغيرهما. رايس ردت بما معناه انه حتى اذا وضعت تلك الاستراتيجية في فبراير أو أبريل أو يوليو فأن طوفان الأحداث كان سيتجاوزها بعد أسبوعين فقط.
وعبر الجزء الآخر من العالم قال المعلق الأسرائيلي اليكس فيشمان في صحيفة “يديعوت أحرونوت” أنه مع ان الأستخبارات العسكرية الأسرائيلية رسمت صورة متشاءمة لهذا العام، الا انها لم تستطع الزعم انها يمكن أن تعطي صورة تفصيلية لما يمكن أن يحدث وقصرت تقديراتها على الأشهر الأولى من العام فقط. وقبل عدة سنوات لخص طوني بلير الوضع بقوله ان الزمن الذي كان يمكن لمجلس وزراء بريطانيا أن يمضي عدة أيام مناقشا لقضية معينة قد أنتهى، وعلى المسؤولين في الوقت الراهن اتخاذ قرارات في ذات الوقت الذي تتشكل فيه الأحداث.
والسودان ليس أستثناء من حالة عدم الوضوح خاصة وهناك العديد من عوامل التغيير لا تبدو مؤسسات الدولة ولا المراقبين خارجها قادرة على سبر غورها، لكن رغم ذلك فأن “وحدة أستخبارات الأيكونومست” حزمت أمرها ووضعت في تقريرها عن السودان الشهر الماضي بعض التوقعات التي تغطي فترة 2015-2019. وخلال هذه السنوات الخمس يتوقع التقرير أن يظل الرئيس عمر البشير قابضا على السلطة ومعه حزب المؤتمر الوطني رغم أنهما سيعانيان من تزايد الضغوط السياسية والأقتصادية، بل ان مجموعة قليلة داخل الحزب ستكون غير راضية عما يجري، لكن التقرير لا يتوقع أن تتمكن هذه المجموعة من تشكيل عامل ضغط مؤثر، لأن الكثير من الناقدين المؤثرين في الحزب أما غادروه أو أستكانوا على الرصيف. أما المعارضة فستظل تدور في فلك فشلها في تقديم بديل فعال يتحدى النظام. وسيظل الوضع الأقتصادي الصعب منبعا لبعض الهبات الأحتجاجية ضد الحكومة من وقت لآخر، مع تصاعد في النشاط العدائي في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. و لا يتوقع التقرير حدوث تحسن في علاقات السودان الأمريكية والأوروبية سواء فيما يتعلق بالمقاطعة أو أعفاء الديون في غياب أي تحسن ملموس للوضع في دارفور أو جنوب كردفان والنيل الأزرق الى جانب قضية التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية التي لا تزال قائمة.
ورغم هذا فهناك بعض العوامل التي يمكن أن تتبلور بصورة أو أخرى خلال هذا العام. ومن هذه حالة الأرهاق التي أصابت العالم من قضايا السودان المزمنة التي لا تنتهي، وساعد على ذلك تفجر قضايا مختلفة في مناطق أكثر أهمية للعالم من السودان، وقد يتضح الوضع بصورة جلية في يونيو المقبل عند حلول موعد التجديد لقوات اليونيميد العاملة في دارفور. وفي واقع الأمر فأن التساؤل عن جدوى تدخل المجموعة الدولية في القضايا السودانية برز بصورة واضحة منذ أكثر من أربع سنوات عندما أصدرت مؤسسة كارنيجي ورقة في العام 2012 عنونتها : “السودان من أزمة الى أزمة” تساءلت في ختامها اليس من الأوفق للمجتمع الذي أمضى عشر سنوات متوسطا في التفاوض بين الشمال والجنوب حتى توج جهده ذاك بأتفاقية السلام أن يعيد النظر في تدخله في الشأن السوداني نسبة لفشل وساطته السابقة التي لم تؤد الى أستباب السلام قط لا بين البلدين ولا في داخلهما. ولعل البعض تذكر المقولة المنسوبة الى المبعوث الأمريكي الأسبق جون دانفورث “سودان واحد يكفي” وذلك تلخيصا لرؤيته أن تسعى الولايات المتحدة الى أن تنتهي أتفاقية السلام بخيار الوحدة مع تمتع الجنوب بسلطات أكبر ومشاركة مقدرة في الحكومة المركزية وذلك تخوفا من أنهيار الدولة الجديدة وضغطا على الخرطوم كي لا تصبح مركزا للتشدد الأسلامي.
والحقيقة ان حالة الأرهاق هذه تنبع من مراجعة عامة خاصة من قبل الولايات المتحدة لمجهوداتها في بناء الديمقراطية ومؤسساتها بعد الأداء السىء لها في العراق وأفغانستان. ومنذ تسلم أوباما السلطة تراجع الأنفاق في ميادين التبشير بالديمقراطية وحقوق الأنسان وبناء مؤسساتهما بنحو 28 في المائة الى أقل من ملياري دولار سنويا. وكان نصيب منطقة الشرق الأوسط خفضا بلغ 72 في المائة مقابل 43 في المائة لأفريقيا. وهذا التطور يعتبر تحولا من السياسة الرئيسية التي أعلنتها وزيرة الخارجية السابقة كوندوليسا رايس في خطاب لها في القاهرة في 2005 عندما أوضحت بجلاء ان واشنطون سعت على مدى 60 عاما لضمان الأستمرارية في المنطقة على حساب الديمقراطية لكنها لم تحصل على أي من الأثنين، وانها غيرت مسارها لدعم الطموحات والآمال الديمقرطية لشعوب المنطقة. على ان أحداث الربيع العربي بموجتها الأسلاموية دفعت بواشنطون الى مراجعة سياستها تلك والعودة الى ما كانت تمارسه من قبل كما يظهر في موقفها مما يجري في مصر.
وواشنطون في هذا تبدو في حالة أستجابة لما يجري في المنطقة التي تعيد أنتاج أزماتها في الوقت الذي تحيط به علامات الأستفهام بمفهوم ومشروع الدولة القطرية الحديثة، الأمر الذي يثير قضايا أمنية في المقام الأول أصبحت عابرة للحدود كما هو واضح في نشوء وتمدد داعش.
التطورات التي شدها السودان خلال العام الماضي تشير الى انه يتسق مع مجمل ما يجري في المنطقة ولو بصورة مختلفة. فلم يعد للأسلامويين سلطة واضحة سواء بصفتهم الحركية، التي انتهت منذ أمد بعيد، أو حتى رموزهم القيادية وأنما أصبحت السلطة تتركز بصورة فعلية في يد رئيس الجمهورية لدرجة الأتجاه الى تعيين ولاة الأقاليم، وفي الدفء الذي بدأ يسري في علاقات الخرطوم بالقاهرة والى حد ما العواصم الخليجية ما يشير الى تفهم لهذا التحول.
لكن من المشكوك فيه أن يؤدي هذا التطور الى تقديم عون ملموس الى السودان يمكنه من تجاوز أزماته المتفاقمة لأن الكل مشغول بمتاعبه الخاصة. فحتى أمكانيات السودان في توفير الغذاء ينظر اليها بصورة مختلفة. فقد أبلغ مسؤول خليجي وفدا أستثماريا سودانيا انهم درسوا أوضاع أكثر من 80 دولة حول العالم عرضت عليهم استغلال مواردها الطبيعية وان السودان جاء في المرتبة السابعة والعشرين. فما يهم الدول الغربية ودول الجوار العربية والأفريقية العمل على منع أنهيار البلاد وتحول وضعية السودان الجغرافية الأستراتيجية ، ابتداءا من ليبيا، الى مهدد أمني لا يمكن السيطرة عليه.
قبل عام شعر أهل الحكم بتصاعد حالة الأحتقان السياسي فكان خطاب الوثبة الذي لم يتمخض عن شىء يذكر. ولنحو ربع قرن من الزمان ظلت المعارضة تتأرجح بين العمل العسكري والمدني والمشاركة والمقاطعة ودون وقفة تقييمية جادة وناقدة لأداءها. ولعل في التحولات التي تشهدها المنطقة وتراجع الأهتمام بما يجري في السودان وعدم الحماس لقيام نظام ديمقراطي مما يتطلب نظرة جديدة في جانبي الحكم والمعارضة تنطلق من جدية ملموسة وأعادة ترتيب للأولويات، فقضايا السودان لن يحلها الا السودانيين، اللهم الا اذا كان كل طرف يجد مصلحة ما فيما يقوم به الطرف الآخر، وهو ما يمكن تصنيفه بأي شىء الا انه يقع في دائرة الأهتمامات القومية.