الحشَّاش يملا شبكتو
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
يبدو أنَّ هناك إحساساً طاغياً بدأ يسري في أوساط قيادة المؤتمر الوطني يعكسُ حالة التذمر الشديد بين عضوية الحزب ومؤيديه من الأوضاع الحزبية، وتراجع حماسهم لدعم الحكومة بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة التي دخلت فيها البلاد، بجانب الحديث المتواتر عن الفساد في الجهاز الحكومي.
هذه الأوضاع دفعت قيادات عليا في المؤتمر الوطني والحكومة للسعي لرفع معنويات الأعضاء الذين أضحوا “يخجلون” من إنتمائهم للحزب بحسب قول القيادية “هدى داؤود” وهو ما جعل الدكتور إبراهيم غندور يُخاطبها قائلاً : (ارفعي رأسك وقولي أنا مؤتمر وطني ولم نصل مرحلة أن نخجل من انتمائنا للوطني ).
وهو نفس الحديث الذي أدلى به الأستاذ على عثمان في المجلس الوطني عندما وصف بعض مؤيدي حزبه وحكومة الإنقاذ (بالاستحياء في التحدث عن الإنقاذ الآن بكل قوة وهمة وفخر وإعزاز تستحقه في كتاب تاريخ السودان ). وقال إنَّ الإنقاذ (لا تزال قادرة على أن تتجدد وترد على الناس ليس بلسان الكلمات وإنما بكوكبة من رجالات السودان ترتفع فوق كل انتماء لحزب أو شخص أو جهة أو طائفة ).
وقريبٌ من ذلك حديث اللواء عمر نمر معتمد الخرطوم في مؤتمر الحزب بمحلية الخرطوم الذي طالب فيه (بإعادة الثقة في كوادر المؤتمر الوطني التي تجلس على الرصيف لمقابلة التحديات الكبيرة ).
لم تكتف قيادات المؤتمر الوطني – في سعيها لوقف التذمر في أوساط العضوية – بالتشجيع المعنوي عبر الكلام الحماسي، ولكنها سعت كذلك للإستعانة ب “لغة الأرقام”، حيث أكد غندور الأسبوع الماضي لدى مخاطبته مؤتمر اللجنة التحضيرية العليا لحزبه بمحلية كرري بأن أكثر من (6) ملايين شخص حضروا مؤتمرات الحزب الأساسية، وقال أن (عضوية المؤتمر الوطني بلغت أكثر من (10) ملايين شخص) !!
كلام الدكتور غندور أعلاهُ يعني أنَّ عضوية المؤتمر الوطني تمثل “ثلث سكان السودان”، وهو كذلك يعني أنَّ إثنين مليون عضو جديد إنضموا للحزب خلال “الخمسة أشهر” الماضية فقد كان رئيس قطاع التنظيم “حامد صديق” صرَّح في ديسمبر الماضي أنَّ عضوية الحزب بلغت ثمانية ملايين عضواً، فما الذي أغرى مليونا شخص للإنضمام للحزب ؟ هل هى الأزمة الإقتصادية الطاحنة والإرتفاع الجنوني لأسعار السلع ؟ أم هل هى الحروب الأهلية التي لا تتوقف ؟ أم يا ترى هو إنهيار الزراعة والصناعة وهروب رؤوس الأموال ؟
الشىء الوحيد المؤكد هو أنَّ حزباً يقوده الدكتور غازي صلاح الدين ( الإصلاح الآن) إنشق عن المؤتمر الوطني في الشهور الماضية، وهو ما يعني أنَّ الحزب الحاكم فقد المئات إن لم يكن الآلاف من أعضائه.
من الجلي أنَّ السعي لتضخيم عضوية الحزب، ومن قبل ذلك محاولة بث الطمأنينة في اوساط تلك العضوية ورفع معنوياتها يعكسُ “حالة من التوتر” في أروقة الحزب الحاكم، خصوصاً بعد التطورات الأخيرة التي أدخلت دعوة الحوار الوطني في نفق مظلم بعد خروج حزب الأمة منه، فقيادة الحزب تعلم علم اليقين أنَّ قيام الإنتخابات في موعدها لن يحل مشاكل البلاد المستعصية خصوصاً إذا قاطعتها أحزاب المعارضة وستكون نسخة أخرى من إنتخابات 2010 التي فاز فيها المؤتمر الوطني بأكثر من %90 من مقاعد البرلمان.
غير أنَّ ما يُثير الإستغراب ويدعو للتساؤل هو الحديث الذي أدلى به والي ولاية الخرطوم عبد الرحمن الخضر في نفس المؤتمر فقد هدَّد الأحزاب المعارضة التي ترفض الحوار والإنتخابات بالطريقة التي يريدها المؤتمر الوطني بقوله أن ( الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة للوصول لحكم البلاد و الحشاش يملأ شبكتو).
أن تكون الإنتخابات هى الوسيلة الوحيدة للوصول للحكم هو قولٌ يُدينُ الخضر وحزبه في المقام الأول، ذلك أنهم لم يصلوا للسلطة عبر الإنتخابات في العام 2010 ولكنهم خرجوا على الشرعية الدستورية بإنقلاب عسكري في يونيو 1989 وهذه حقيقة لا تسقط بالتقادم، ولا تنفيها السنوات الطويلة التي أمسك فيها المؤتمر الوطني بزمام السلطة، وهى الأساس الذي قامت عليه حكومته، ولغة الفقه تقول في تفسير مثل هذه الحالة أنَّ “ما بُنى على باطلٍ فهو باطل”.
قد يخرُج علينا من يقول أنه ليس من المُجدي الحديث عن إنقلاب عسكري تطاول عليه الزمن، والأوفق هو إيجاد حل سياسي يضمن للبلاد مخرجاً من مأزقها الحالي، وهذا قول طيب شريطة أن يعي المؤتمر الوطني أنه ليس في مقام “الأستاذ” الذي يُعلم الآخرين معنى “الشرعية” و يُحدِّد لهم ماهية الوسيلة التي يصلون بها للحكم.
أما عبارة “الحشاش يملا شبكتو” فهى عبارة غير ذات معنى في ميدان “التنافس السياسي” إذا كان هناك فريق واحد إستأثر بالملعب لربع قرن، وسيطر على مفاصل الدولة ومواردها المالية، فالشرط الأساسي لذلك التنافس هو إتاحة “الفرصة المتساوية” للجميع ومن ملامح ذلك التساوي هو أن لا يضع “فريق” واحد قانون اللعبة.
المؤتمر الوطني يعتمد في تمويله على “موارد الدولة”، وهذه المعلومة البديهية معروفة للجميع، وقد أكدَّها الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد بحسب شهادة الاستاذ عبد الباقي الظافر الذي قال في كلمة له الأسبوع الماضي أنه أجرى حواراً مع الأستاذ أحمد سأله فيه عن مصادر تمويل الحزب الحاكم (فأجاب بوضوح “الدولة” ).
كيف يُمكن للأحزاب الأخرى منافسة حزب أدمن الرضاعة من ثدي الدولة، ليس أموالاً فحسب ولكن إستثمارات و سيارات ووسائل إتصالات وقاعات ومباني (لا نعرف الكيفية التي تحصَّل بها الحزب على النادي الكاثوليكي ) وغيرها من “اللوجستيات” ؟
وها هو المؤتمر الوطني يُجيز قانون الإنتخابات “وحده” دون مشاركة جميع الأحزاب المعارضة، وبالتالي فإنَّ عبارة “الحشاش يملا شبكتو” لا معنى لها في ظل وجود هذه الممارسات، فالمؤتمر الوطني سيدخل في منافسة مع نفسه لأنَّ شروط المنافسة الحقيقية غير متوفرة، وستكون النتيجة كما ذكرنا آنفاً هى وجود برلمان تابع للحكومة مثل البرلمان الحالي بينما تظلُّ مشكلات البلد الرئيسية قائمة كما هى دون حل.
سيكون لعبارة الوالي التي أطلقها (الحشاش يملا شبكتو) معنى عندما تتوافق كل القوى والأحزاب على “عملية سياسية” يشارك فيها الجميع بعد أن تتوقف الحرب ويخمد صوت الرصاص، و يأتي على رأس تلك التوافقات قيام “حكومة إنتقالية” كاملة لا يُسيطر عليها المؤتمر الوطني تكون مسئولة عن قيام الإنتخابات والإشراف عليها.
وعلى الرغم من أنّ حظوظ المؤتمر الوطني ستكون أكبر من بقية الأحزاب بحكم إنفراده بالملعب لخمسة وعشرين عاماً، إلا أنَّ الإحساس بالتساوي في الفرص وعدم إحتكار العملية سيمثل دافعاً للمشاركة الحقيقية للأحزاب في الإنتخابات، و التي إن فاز فيها المؤتمر الوطني لن يفوز إلا للعامل المذكور وبالقطع لن يكون فوزاً كاسحاً كما كان الحال في 2010.