اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (1)
بقلم دكتور فيصل عبدالرحمن على طه
[email protected]
وفرت إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد إطاراً مرجعياً شاملاً لمكافحة ومنع الفساد على الصعيدين الوطني والدولي. أُعدت الاتفاقية بمبادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار 55/61 المؤرخ 4 ديسمبر 2000. في فاتحة هذا القرار نوهت الجمعية العامة عن أن للفساد أثر ناخر في الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون والنشاط الاقتصادي. وطلبت من الأمين العام دعوة فريق مفتوح باب العضوية من الخبراء الحكوميين الدوليين إلى الانعقاد لكي يتولى دراسة وإعداد مشروع نطاق الإختصاص لأجل التفاوض بشأن الصك القانوني المقبل لمكافحة الفساد. كما قررت إنشاء لجنة مخصصة للتفاوض بشأن هذا الصك لكي تبدأ أعمالها حالما يُعتمد مشروع نطاق الاختصاص الخاص بهذا التفاوض.
وفي القرار 56/260 المؤرخ 31 يناير 2002 عبرت الجمعية العامة عن قلقها إزاء خطورة المشاكل الناشئة عن الفساد، التي تهدد إستقرار المجتمعات وأمنها وتقوض القيم الديمقراطية والاخلاقية وتعرض التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للخطر. ومن ثم قررت أن تقوم اللجنة المخصصة للتفاوض بشأن اتفاقية لمكافحة الفساد التي أُنشئت بالقرار 55/61 بالتفاوض بشأن اتفاقية واسعة النطاق وفعالة يشار إليها باسم «اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد» رهناً بقيام اللجنة المخصصة بتحديد عنوانها النهائي.
استضافت حكومة الارجنتين الاجتماع التحضيري غير الرسمي للجنة المخصصة للتفاوض بشأن اتفاقية مكافحة الفساد في بونيس إيرس في الفترة من 4 إلى 7 ديسمبر 2001. اعتمدت الجمعية العامة الاتفاقية بالقرار 58/4 المؤرخ 31 اكتوبر 2003 وقررت تسمية يوم 9 ديسمبر يوماً دولياً لمكافحة الفساد من أجل إذكاء الوعي بمشكلة الفساد وبدور الاتفاقية في مكافحته ومنعه.
عُقدت مراسم التوقيع على الاتفاقية في مؤتمر سياسي رفيع المستوى عقد في ميريدا بالمكسيك في الفترة من 9 إلى 11 ديسمبر 2003. دخلت الاتفاقية حيز النفاذ في 14 ديسمبر 2005 وحتى 7 مايو 2014 بلغت أطرافها 171. وقع السودان على الاتفاقية في 14 يناير 2005 ولكنه لم يصدق عليها بعد.
في تصديره للاتفاقية قال كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك إن الاتفاقية رسالة واضحة بأن المجتمع الدولي مصمم على منع الفساد وكبحه وتحذير الفاسدين بألا تسامح مع خيانة الثقة العامة بعد الآن. وفي إشارة إلى أحكام الاتفاقية المتعلقة بالتعاون الدولي واسترداد عائدات الفساد، قال عنان إن ذلك سيضيق السبل بالمسؤولين الفاسدين لإخفاء مكاسبهم غير المشروعة، وستجني فائدة ذلك البلدان النامية التي قام كبار مسؤوليها بنهب الثروة الوطنية.
صور وأشكال الفساد
لم تُعرِّف اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد تعبير «الفساد». أما منظمة الشفافية الدولية فقد عرفته بأنه سوء إستخدام السلطة العامة من أجل تحقيق مكاسب شخصية. ولكن لا يستطيع أحد أن يجزم أن هذا التعريف متفق عليه دولياً.
هناك تعاريف وتصنيفات شتى لأشكال وصور الفساد. لا مجال هنا لحصرها أو لبسط القول فيها. لذا سنكتفي بإيراد أمثلة. فهناك من يميز بين الفساد الصغير والفساد الكبير أو بالأحرى بين فساد الحاجة وفساد الجشع. فمن بين هؤلاء أحد الخبراء الذين شاركوا في مؤتمر مكافحة الفساد وإرساء الرأي السديد وحقوق الإنسان في وارسو ببولندا في 8 و9 نوفمبر 2006 علماً بأنه مدير تنفيذي سابق لمنظمة الشفافية الدولية. ومن اللافت أن السودان كان ممثلاً في هذا المؤتمر. عرّف الخبير المعني الفساد الصغير بأنه ارتشاء موظف عمومي من رتبة دنيا مقابل القيام بشيء يلزمه القانون أصلاً القيام به أو يحظر عليه ذلك. ويرى الخبير أن هذا الفساد ينشأ عن الحاجة. أما الفساد الكبير فقال إنه يتمثل في طلب موظفين مقابلاً لممارسة سلطاتهم التقديرية وهو فساد يستمد أسبابه من الجشع. وانتهى الخبير إلى أن الفساد الذي يتسبب فيه الجشع على أعلى مستويات الحكومة يؤدي دائماً إلى استشراء الفساد الذي تمليه الحاجة. وخلال المناقشة في المؤتمر لوحظ أن معظم التدابير الحكومية لمكافحة الفساد تركز على الفساد الصغير بدلاً عن الفساد الكبير. سيرد في موضع لاحق أن هناك تفرقة أيضاً بين الفساد السلبي والفساد الإيجابي.
ويقترب التمييز المتقدم بين الفساد الصغير والفساد الكبير من تمييز آخر بين الفساد البسيط والفساد على المستوى الأعلى. فقد ورد في الدليل التشريعي لتنفيذ اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد الذي أصدره في عام 2012 مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، أن الفساد البسيط هو عبارة عن «الرسم الإضافي» أو «المعلوم» الذي يفرضه الموظفون المدنيون على المواطنين من أجل إنجاز أبسط الأعمال الحكومية الأساسية مثل اصدار المستندات الرسمية أو الحصول على تراخيص القيادة أو تصاريح البناء وغيرها من المستندات الروتينية. أما على المستوى الأعلى فتدفع مبالغ كبيرة مقابل الحصول على عقود عمومية أو حقوق للتسويق أو لتفادي التفتيش وإجراءات الدواوين الحكومية.
آثار الفساد
يمكن التعرف على آثار الفساد بمطالعة ما كتب عن ذلك في ديباجات بعض اتفاقيات مكافحة الفساد وفي بعض الأدبيات ذات الصلة التي أصدرتها الأمم المتحدة.
ففي كلمة افتتاحية في اجتماع فريق الخبراء الحكومي الدولي المفتوح العضوية للتفاوض بشأن إعداد الصك الدولي لمكافحة الفساد الذي عقد في فيينا من 30 يوليو إلى 3 اغسطس 2001، قال المدير التنفيذي لمكتب مراقبة المخدرات ومنع الجريمة: «ليست سرقة الاموال العمومية على نطاق واسع هي الشكل الوحيد الذي يتخذه الفساد. فالملايين من الناس يعيشون في أماكن يضطرون فيها إلى أن يدفعوا رشاوى من أجل الحصول على خدمات تعتبر حقاً بموجب القانون. وبمرور الوقت، رسخت الممارسات الفاسدة الفقر. إذ جعلت الخدمات متاحة للقادرين على ثمنها دون غيرهم».
ونصت إحدى فقرات اتفاقية الاتحاد الافريقي لمنع الفساد ومكافحته على أن الفساد يقوض المساءلة والشفافية في ادارة الشؤون العامة وكذلك التنمية الاجتماعية والاقتصادية. اعتمدت هذه الاتفاقية في الدورة العادية الثانية لمؤتمر الاتحاد الافريقي في 11 يوليو 2003 واصبحت نافذة في 5 أغسطس 2006. وقع السودان على الاتفاقية في 3/6/2008. بزيارتنا لموقع الاتحاد الافريقي في 8 مايو 2014 عثرنا على قائمة مؤرخة 1/3/2013 بأسماء الدول التي وقعت أو صدقت أو انضمت للاتفاقية. وفقاً لهذه القائمة، فإن السودان لم يصدق بعد على الاتفاقية.
وجاء في تصدير كوفي عنان لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد كذلك أن آثار الفساد أكثر تدميراً في العالم النامي لأنه يقوض قدرة الحكومة على تقديم الخدمات الأساسية، ويؤدي إلى التحيز والظلم ويثبط الاستثمار الأجنبي والمعونة الأجنبية.
وكان بضمن آثار الفساد التي ذكرت في ديباجة الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد التي أُبرمت في 21/12/2010 أنه ظاهرة إجرامية متعددة الأشكال ذات آثار سلبية على القيم الأخلاقية والحياة السياسية والنواحي الاقتصادية والاجتماعية. وقع على هذه الاتفاقية عن السودان المهندس إبراهيم محمود حامد وزير الداخلية آنذاك والسيد محمد بشارة دوسة وزير العدل. صدقت جمهورية السودان على الاتفاقية في 23 اكتوبر 2012 ودخلت حيز النفاذ في 29/6/2013.
وعدد الدليل التشريعي لتنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بعض آثار الفساد وكان من بينها:
– إن الفساد بتسريبه أموال الدولة على نحو غير قانوني يقتطع من الخدمات التي يعتمد عليها ذوو الموارد الضئيلة مثل الخدمات الصحية أو التعليم أو النقل العام أو خدمات الشرطة المحلية.
– إن الفساد تترتب عليه أثار بعيدة المدى مثل الاستقطاب الاجتماعي وعدم احترام حقوق الإنسان والممارسات غير الديمقراطية.
– إن الشركات الأجنبية لن ترغب في الاستثمار في مجتمعات يوجد فيها مستوى إضافي من «الضرائب المفروضة».
وفي الرسالة التي وجهها في 9 ديسمبر 2013 بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد، نبه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى أن كل حلقة من سلسلة الإتجار عرضة للفساد بدءاً بالرشى التي يدفعها المتاجرون بالأسلحة والمخدرات للمسؤولين لافساد ذممهم وصولاً إلى التصاريح والتراخيص القائمة على الاحتيال لتيسير التجارة غير المشروعة في الموارد الطبيعية.
وورد ضمن تعليقات وملاحظات للأمانة العامة للمنظمة القانونية الاستشارية الاسيوية الأفريقية على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، أن الفساد يضر بشرعية الحكومة ويولد السخرية بين المواطنين.
ومن منظور المفوضية السامية لحقوق الإنسان فإن الفساد عقبة كأداء تعترض سبيل إعمال جميع حقوق الانسان المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وكذلك الحق في التنمية. وفي الكلمة التي افتتحت بها حلقة النقاش التي عقدها مجلس حقوق الإنسان في جنيف في 13 مارس 2013 بشأن آثار الفساد السلبية على التمتع بحقوق الانسان، قالت المفوضة السامية إن الأموال المختلسة من الخزائن العامة يمكن أن تنفق على الاحتياجات الإنمائية، وانتشال الناس من الفقر، وتعليم الأطفال، وتوفير الأدوية اللازمة للأسر، ووضع حد لألاف الوفيات والإصابات التي تحدث كل يوم أثناء الحمل والولادة والتي يمكن تلافيها. ومضت المفوضة السامية للقول كذلك إن الفساد يحول دون وصول الضحايا إلى العدالة، ويزكي حدة إنعدام المساواة، ويضعف الإدارة والمؤسسات، ويقلص الثقة العامة، ويغذي الإفلات من العقاب، ويقوض سيادة القانون.