الطغاة لا يخجلون !
بقلم محمد بشير ابونمو
[email protected]
نقلت الصحف والقنوات الفضائية قبل ايام صورة حزينة لدكتاتور كوريا الشمالية (الشبل ) وهو يواسى سيدة عجوزة باكية ، ووضح فى تفاصيل الخبر لاحقا ان السيدة هى عمته وشقيقة والده الدكتاتور الاب السالف ، وكان يواسيها فى وفاة زوجها العزيز والذى حكم عليه نفس الدكتاتور (الابن) وامر بشنقه واتى بعد ذلك لتقديم (واجب ) العزاء لعمته . والمثير فى الامر ان الضحية ليس فقط زوج عمته وبل كان الوصى على حكم الصبى وقد عينه الدكتاتور الاب قبل وفاته ، ثقةً فيه كأقرب معاونيه طوال فترة حكمه السابق علاوة على انه زوج اخته وبالتالى هو افضل من يؤتمن على حكم ابنه الشاب ، حتى يقوم بتدريب الصبى على شئون الحكم واساليب القبضة الحديدية المعروفة عن الاسرة ، باعتباره الجيل الثالث من عائلة (كيم ايل سونغ) الدكتاتورية المتوارثة ، وذلك لحداثة سن الدكتاتور الحالى وبالتالى قلة تجربته ، ولكن يبدو ان جينات الطاغية قد تغلبت على الشاب النضر (فتغدى) باكرا بالوصى واقرب معاونيه ، بعد ان تملكه الشكوك واتهامه له بانه بدأ ببناء مراكز قوى خاصة به فى داخل الحزب الحاكم ، وشوهد الضحية وقد تم سحبه من على كرسيه من اجتماع رسمى بشكل مذل قبل اعلان اعدامه فى التلفزيون الرسمى بعد فترة وجيزة من هذا الحدث ، ولم يكتف الدكتاتور باعدام زوج عمته بهذه السرعة وبدون اجراء تحقيق جاد ونزيه ، وبل ذهب الى عمته واحتضنها – بلا ادنى خجل – لتقديم العزاء كما وثقته الكاميرات فى موقف ميلودرامى سخيف !
ولان الطغاة هم قبيلة واحدة اينما كانوا ، فقد تذكرت هذه الحادثة وانا اقرأ خبرا فى الصحف السودانية والمواقع الالكترونية قبل ايام ، عما اورده البشير فى حديث بمناسبة تكريم ووداع البروف ابراهيم غندور بعد تعيينه مساعدا له ، وجهة التكريم – بالمناسبة – ليست كلية جامعية او مركز ابحاث معروف او حتى مستشفى ، كما يتبادر الى اذهان البعض ، بل هى النقابة المركزية لعمال السودان ، والتى كانت يرأسها البروفيسور لفترة تجاوزت العشرة سنوات ، نعم بروفيسور كان يمكن ان يعمل فى كل هذه الجهات المذكورة اعلاه بكفاءة عالية ويمكن ان يفيد الناس او المؤسسات فى مجال تخصصه ، ولكنه فضل ان يرأس(بناء على رغبة الحزب الحاكم بالطبع ) نقابة عمال السودان ، ويبدو انه قد اجاد الدور المرسوم له بفعالية وتم مكافأته فى النهاية بهذا المنصب الرفيع ، ولكن هذه ملاحظة عرضية خارج سياق موضوع المقال .
حديث البشير فى هذه المناسبة كان محزنا ومستفزا وينم عن عدم احترام للشعب الذى يحكمه ، وبالتالى كان مثيرا للغضب لجموع الشعب السودانى ، وشبيها فى نفس الوقت لسلوك دكتاتور كوريا الشمالية الخالى من الحياء والخجل ، ولكن ماذا قال البشير ؟
هذه مقتطفات من اقوال البشير فى هذه المناسبة :
– عهد التمكين والتسييس فى الخدمة المدنية قد انتهى
– ان المؤتمر الوطنى يعكف الان على برنامج اصلاح شامل أهم محاوره إصلاح الخدمة المدنية وإعادتها لسيرتها الأولى
– إن الخدمة ستكون مفتوحة لكل السودانيين للتنافس الحر وأن يكون الفاصل هو المقدرة والكفاءة.
– مافي أي معيار آخر للترقي في الهياكل الوظيفية وانتهى تماماً عهد التمكين والتسييس
– مافي فصل للصالح العام ومافي حاجة اسمها أولاد مصارين بيض ومصارين سود وكل الناس سواسية وهذا هو العدل
– وشدد البشير على أن الشغل الشاغل للقيادة هذه الأيام هو وضع الأُسس السليمة لمسار الخدمة لضمان استقلاليتها.
من يستمع الى البشير فى هذه المناسبة تصيبه الحيرة وبل يغالط نفسه ويقول انه يستمع الى قائد انقلاب جديد – وليس البشير – انقلب على نظام الانقاذ وصار يخاطب الشعب السودانى مبشرا فى بيانه الاول ببرنامج (كنس آثار الانقاذ) وليس كمن يتحدث لمراجعة سياسات رعناء ارساها هو نفسه مع سبق الاصرار والترصد ولمدة ربع قرن من الزمان!
هكذا ببساطة ، وبعد حوالى ربع قرن من (الدغمسة) و التمكين المستمر وبعد افراغ كل مؤسسات الخدمة المدنية والقوات النظامية من كل الوطنيين والمهنيين الاكفاء ، وبعد ملئ هذه المؤسسات باهل الولاء والطاعة وليس الاداء ، يأتى البشير بعد كل هذا الوقت ويقول فى الهواء الطلق ان عهد التمكيين والتسييس قد انتهى ؟ صحيح ان الطغاة لا يخجلون !
ولكن مع ذلك يحق لنا ان نسأل ببراءة : ماذا ينوى البشير من عملية الاصلاح التى يبشر بها الان ؟ هل يستطيع اعادة عشرات الالاف الذين فُصلوا ظلما وبهتانا الى اعمالهم وتعويضهم ؟ ومع افتراض امكانية ذلك ، ماذا يُرجى من موظف قد ظُلم وشُرد واصابه الاحباط والاذلال لفترة امتدت الى خمسة وعشرين سنة ، ماذا يُرجى من مثل هذا الموظف او العسكرى لو تم اعادته الى العمل وهو قد تجاوز بالضرورة سن المعاش القانونية ؟ لا يملك مثل هذا الشخص ما يقدمه من عطاء بعد كل هذا الانقطاع عن العمل وتعطيل ملكاته ، هذا غير عدم جدية حديث البشير من الاساس ، وهذا هو مربط الفرس – كلام وخلاص .
اكثر ما يثير الحسرة والشفقة فى خطاب البشير ، ، قوله ان المؤتمر الوطنى يعكف الان على برنامج اصلاح شامل أهم محاوره إصلاح الخدمة المدنية وإعادتها لسيرتها الأولى . تخيلوا ان السيرة الاولى هى صبيحة الثلاثين من يونيو 1989 على اسوأ الفروض ، ولكن مع قناعتنا ان حالة الخدمة المدنية فى ذلك التاريخ كان احسن من الان بعشرات المرات ، ولكن الرجوع الى تلك الحالة باعتبارها السيرة الاولى ، يعنى ضمنيا اننا قد جمدنا حالة التطور الطبيعى للخدمة المدنية لمواكبة مستجدات العصر والنظم والاساليب الجديدة للفترة من 89 وحتى الان ، وبالتالى الرجوع الى ذلك التاريخ (يونيو89) لا يعنى فقط الرجوع الى الوراء خمسة وعشرون سنة كما يتخيله البعض ولكن عمليا نكون قد رجعنا الى الوراء خمسون سنة كاملة ( خمسة وعشرون سنة من عمر الانقاذ تم فيها تدمير الخدمة المدنية وايصالها الى المستوى الحالى الذى (يشتكى) منه البشير ، مضافا اليها خمسة وعشرون سنة جمود الخدمة المدنية وعدم مواكبتها لاى تطور) ولكن هل يستوعب البشير وزمرته هذه الحِسْبة ، او هل يعيرونها اى اهتمام حتى ولو فهموا ؟!
البشير وصل مرحلة من الطغيان صار (يتغدى) باقرب معاونيه بالجملة (رغم ان هذا فأل خير ) و يطلق الحديث لمجرد الحديث على الهتيفة والبسطاء من حوله ، ولا يهمه ان كان هذا الحديث صحيحا او منطقيا ، ما دامت الجماهير اليائسة تشاركه فى نهاية الحديث رقصته الرئاسية الخليعة ، لانه لا احد ولا مؤسسات يمكن ان تحاسبه ، لا على الكلام (الفاضى) الذى يطلقه بمناسبة ومن غير مناسبة ، ولا على الجرائم التى يرتكبها فى حق الشعب السودانى .
اما عن خلاصة حديثه بانتهاء التمكين وتسييس الخدمة المدنية فمردود عليه ، ويكفى هنا تذكيره فقط بالفريق شرطة / نور الهدى محمد الشفيع زوجة اخيه اللواء عبدالله احمد البشير ، والتى جاءت ترقيتها بقرار جمهورى بتوقيعه الميمون بعد يومين فقط من خطابه فى هذه المناسبة ، كأول امرأة سودانية تُرقى الى هذه الرتبة الرفيعة فى تاريخ الشرطة السودانية والقوات النظامية ، وهو تكريم يستحقها المرأة السودانية لتاريخها ونضالها المشرف فى الحياة السودانية بشكل عام ، ولكنها بالتأكيد ليست مصادفة ان يصيب التكريم زوجة اخو البشير دون غيرها من نساء السودان ، وبالتالى جاءت الترقية معيبة و(مدغمسة ) ودون استحقاق .