ثروة على سيقان: ذكاء الرعي واقتصاده
بقلم مجدي الجزولي
13 ينويو 2013 – صدر هذا الأسبوع عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة وجامعة تفتس الأميركية تقرير جامع مانع عن أحوال واقتصاد الرعي في السودان بعنوان “ثروة على سيقان: الإنتاج الحيواني الرعوي وأنماط المعيشة المحلية في السودان” لفريق بحث سوداني في ثمانين صفحة. التقرير مثال لأكاديمية الخدمة لا الدرجات المطلوقة ويقوم في متنه على دراسات حالة ميدانية في أبو حراز والخوي وريف الرهد بشمال كردفان وكذلك مقابلات لجمع المعلومات مع تجار وسمسارة ومسؤولين حكوميين في أسواق الماشية بالقضارف والأبيض والخوي والجنينة والكرينك ودار السلام والمويلح.
ابتدأ التقرير بالتحلل من التحيز الدارج ضد الرعي، وهو تحيز مؤسسي إذا جاز التعبير، بل تهميش عديل، أحسن من يعبر عنه هذه الأيام صاحب الانتباهة الطيب مصطفي الذي كلما ذكر المسيرية ذم ترحال الرعاة باعتباره عيشة تخلف ورجعية وطالب بتنظيم الثروة الحيوانية في مزارع كبرى على غرار الرانش الأميركي فضا لسيرة المراحيل، وغرضه في ذلك قطع الرجل السودانية عن جنوب السودان، بشر وبهائم. محل مثل هذه الترهات، نبه التقرير إلى أن دوائر أكاديمية وسياسية صحت إلى ذكاء الرعي يدفعها الادراك المتزايد لتقلبات البيئة على خلفية تغييرات المناخ الكونية، وظهر لها أن الرعاة الذين عاشوا على بيئات عسيرة لقرون اكتسبوا المعارف الضرورية لمجابهة ما أصبح اليوم تحديا كونيا: تطوير أنظمة لإنتاج الغذاء تلائم البيئة المتقلبة وتجاريها. في هذا السياق انتقد التقرير “العين” الحكومية على الرعي، لا ترى فيه سوى السلعة أم دولار، صادر الثروة الحيوانية، وهو لا يبلغ سوى 2% من حجم السوق المحلي للبهائم. قدر التقرير أن خمسمائة ألف أسرة من المنتجين الأوليين تعتمد في معيشتها بالكلية على الرعي، وهو تقدير محافظ بحسب أصحابه قد يبلغ في الحقيقة أضعاف هذا الرقم. مؤشر ذلك أن الإحصاء السكاني لعام 2008 قدر قيمة اللبن الذي يتم إنتاجه واستهلاكه أسريا دون أن يدخل دائرة البيع والشراء بما يفوق خمسمائة مليون دولار سنويا. فوق ذلك، يسند اقتصاد الرعي، بخلاف الإنتاج الأولي، 34 ألف وظيفة تامة وأضعاف ذلك من الوظائف الجزئية وأعمال تجارية بحجم 350 مليون جنيه على أقل تقدير.
أبطل التقرير تهمة الرعي الجائر المنسوبة للرحل مؤكدا أن الرعاة المحترفين أرفق بالبيئة وأدرى بل أساتذة الاستدامة، وأبرز أدلة على أن التصحر في محيط القرى يعود في الواقع إلى التوسع “الجائر” في الزراعة المطرية خارج حدود البيئة الملائمة لذلك بالترافق مع تربية البهائم ساكنة في محلها، أي ذات اقتراح الطيب مصطفى عدو الرحل. في إيجازه لقضايا الاقتصاد الرعوي عرض التقرير للتناقص المطرد في مساحات المراعي، ما بين 20 إلى 50% على المستوى القومي بالدرجة الأولى جراء التوسع في الزراعة الآلية، بلغت هذه النسبة في دارفور 60% في أراضي القوز والوادي؛ ثم التحول في علاقات الأرض من الاستخدام المشترك للرعاة والمزارعين إلى الملكية الفردية وتبعات ذلك من صراعات مسلحة وما جر ذلك على الرعاة من أبلسة بتهمة المبادرة بالعداوة، وبطبيعة الحال الحدود الدولية بين السودانين التي هبطت من عالي السياسة على الحزام الرعوي الممتد من النيل الأزرق شرقا حتى دارفور غربا. تقرير الرعي قراءة واجبة لنخبة السياسة، حكومة ومعارضة سلمية ومحاربة، ففيه ما يفك أمية مدنية بريف يتناسل فيه السلاح أكثر من البهائم.