المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية: تحرير الخلاف
بقلم – غازي صلاح الدين
الخرطوم 2 ديسمبر 2012 — انتهى المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية وقد أوسعه المراقبون بالتغطية والشرح والتحليل، بينما توقفت عن أن أقول فيه أي قول، توقياً لما قد تحدثه أية كلمة لا توضع موضعها الصحيح أو تفهم بدلالتها المرجوة من إرباك لرأي عام هو أصلا مرتبك بسبب حوادث متعاقبة ألمت بالساحة العامة، فكما قال أبوبكر رضي الله عنه “البلاء موكل بالمنطق”. لكنني أيضاً خشيت أن تندرس العبر التي تفتقت من انعقاد المؤتمر وتفوتنا حكمتها في زمن نحن أحوج ما نكون فيه لاستخراج العبر من كسبنا وأعمالنا، فرأيت أن أدنى ما أفعله هو تحرير الخلاف من وجهة نظري، متحرياً في مسعاي العدل للآخرين ولنفسي. وأدعو الله أن يهديني لأحسن القول والعمل وأن يكتب لعملي وقولي حسن العاقبة.
الدرس الأول الذي تعلمناه في الحركة الإسلامية كان في التوحيد. أن الله واحد لا شريك له، وأنه لا ضار ولا نافع، ولا معطي ولا مانع، ولا واهب ولا ممسك إلا هو. لا رب يرزق ولا إله يُعبد وتخضع له المخلوقات إلا هو – سبحانه. وقد استفدنا من ذلك الدرس ألا نعبد الأغيار الزائلين، وألا نهاب الرجال، وأن نقول آراءنا بضمير حر وبأعين لاتطرف.
كم أطربتنا كلمات ربعي بن عامر التحريرية أمام رستم قائد الفرس: “لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.”
وقد أعجبنا أن نجادل أهل الملل بالآية: “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر.” ونتحداهم أن يبرزوا لنا نصاً مثيلاً يكرّم الإنسان ويعلي شأنه ويحفظ حرماته.
كنا نشدد على حرية ضمير الفرد كما ضمنها رب العباد الذي ترك لبني آدم أن يختاروا بين الكفر والإيمان “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” وجعل حسابهم على الله يوم يلقونه. ما كنا نرى أجمع ولا أمنع من هذه الآية في تأسيس مبدأ الحرية على قاعدة متينة.
وقد باهينا خصومنا بأقوى نصّ في إثبات العدل منهجاً للحكم: “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.” أي العدل للناس جميعا، لا للمسلمين وحدهم، فضلاً عن أن يكون عدلا تختص به جماعة أو قبيلة أو بطانة خاصة.
لقد آمنّا أن أقوى ما في الإسلام هي طاقاته التحريرية؛ دين يحرر الفرد من هواه وشهواته، وعبوديته للمادة ولمتاع الأرض، وغريزة العدوان. ودين يحرر الجماعات والأمم من الذل والظلم والحيف والفساد. وأشد ما جذب الناس إلى دعوة الحركة الإسلامية هو تبنيها لتلك المفاهيم في سياق معاصر، فالناس يرغبون في أن يتدينوا وأن يعيشوا عصرهم دون تناقض.
كانت تلك –وما تزال- صفوة المفاهيم والمثل التي حركت الشباب والشيوخ إلى أن يضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل دعوتهم إلى الله من خلال مسيرة الحركة الإسلامية في الأعوام الستين الماضية. والتداعي إلى إحياء تلك المثل العظيمة شكل خلفية المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية: إيمان قوي بالمثال، وإحساس مسيطر باستدراك ما أفلت من وعد، وأمل غلاب بأن يكون المؤتمر انطلاقة لصحوة جديدة.
غلب على المؤتمر جدل قانوني تركز في مادتين من الدستور. كان جدلاً يمثل في حقيقته اختلافاً بين منهجين في النظر إلى دور الحركة الإسلامية. المنهج الأول كان يرى أن المؤتمر الوطني يغني عن الحركة، وأن قيام الحركة سيخلق إزدواجية مربكة، وأن المرجعيتين (الحركة والمؤتمر) ستتشاكسان وسينعكس تشاكسهما على الدولة. واستشهد أصحاب هذا الرأي بحالات موثقة –خاصة في الولايات- استخدم فيها منسوبو الحركة مواقعهم للمنافسة والمناقرة مع أجهزة المؤتمر الوطني وحكومات الولايات. كان بعض أصحاب هذا الرأي يؤصلونه في نظرية “وحدة القيادة” التي التمسوا لها أصلاً شرعياً. وقد عبر ذلك الرأي عن نفسه في وقت من الأوقات عبر مطالبته بتذويب الحركة في الحزب والحكومة تذويباً كاملاً.
أصحاب المنهج الآخر رأوا أن وجود الحركة حق أصيل ومؤسس في عقد إنشاء الجماعة، وأنه لا يحق لأي فرد أو ثلة أن يخرقوا ذلك العقد بإجراء مفرد من ناحيتهم. كانوا يتفقون مع أصحاب الرأي الأول في ضرورة ألا تتشاكس المرجعيات وألا يتخذ العمل من داخل الحركة وسيلة لمكاسب دنيوية تحصل من خلال التنازع مع السلطة. رأى أصحاب هذا المنهج أن الحركة ليست حزباً سياسيا وإنما هي حاضنة ومثابة يأوي إليها أبناؤها ليجددوا فكرهم وإيمانهم وليجدوا فيها القدوة الحسنة ويجدوا لديها القوة الأخلاقية التي تذكرهم بالمثل والقيم التي اجتمعوا عليها. آمن أصحاب هذا المنهج أن بعض أدواء السياسة والمجتمع، مثل استشراء القبلية والجهوية، لا يداوي منها إلا الانتماء إلى فكر تسنده قوة الوحي. جادل أصحاب هذا الرأي بأن بقاء الحركة هو الضامن من انحراف السلطة التي تواليها عن نموذجها الأخلاقي.
احتج أصحاب هذا الرأي بأنه لكي تتأهل الحركة لأداء أدوارها ينبغي أن تستقل عن الحكومة وتأثيراتها المختلفة بوسائل السلطة المتعددة وعبر التمويل وما يحمله معه من سلطة أمر وزجر، وقبض وبسط. الاستقلال من السلطة وليس العداء لها، كما فهم بعض الناس. الاستقلال الذي يجعل الحركة تحدد هي وحدها أجندتها وأولوياتها وهمومها ووسائلها في العمل. الاستقلال الذي يحميها من أن تصبح امتدادا للسلطة تنشط في مواسم التنويرات للعضوية عند الملمات وتهمل وظائفها بقية العام. الاستقلال الوظيفي والمالي الذي يحمي الحركة من أن تغريها الأموال العامة فتمد يدها إلى ما لا تستحقه بقانون أو دستور. الاستقلال والقوة اللذان يؤهلان الحركة لأن تحمل مشروعاً، وتفصح عن رؤية، وتقدم إجابات لمشكلات عصرها، وتطلق مبادرات تتصدى للتحديات التي يواجهها مجتمعها. بعبارة أخرى الاستقلال الذي يعينها على أن تؤدي رسالتها بأن تصبح مرجعية أخلاقية نموذجية تعبر عن قيم الإسلام في الحكم والحياة العامة. وبالجهة الأخرى –وهذا مهم للغاية- الاستقلال الذي يحمي الدولة وأجهزتها القومية الخادمة لمصالح المواطنين جميعاً من أن تعدها الحركة محض امتداد تنظيمي لها.
هذه الرؤية، رؤية الإسلام الباسط للعدل، المحرر للإنسان، وحركته الحرة المستقلة التي لا تتبع للدولة ،لكنها أيضاً لا تشاكسها أو تعاديها ما انضبطت بضوابط الإسلام، هي التي ملكت قلوب المشاركين في المؤتمر وأيقظت وعيهم منذ وقت مبكر ابتداءً من المؤتمرات القاعدية إلى مؤتمرات الولايات. وكل تلك المؤتمرات حسمت الجدل المذكور لمصلحة بقاء الحركة، لكن بمواصفات جديدة تناسب المرحلة التاريخية وتضع في اعتبارها التحولات الكبرى التي جرت في السودان والعالم من حوله. وبقي بعد ذلك إعداد دستور يعبر عن هذه الرؤية ويجسدها واقعا وممارسة.
كلف بهذه المهمة إخوة كرام تقدموا بمشروع دستور لمؤتمرات الولايات وللمؤتمر العام. وقد برز من خلال الجدل حول الدستور الخلاف الذي أشرنا إليه آنفا الذي انصب بصورة أساسية نحو مادتين نالتا معظم الوقت في النقاش، ومادة ثالثة نالت، على أهميتها، حظاً أقل من النقاش، وذلك على النحو التالي:
أولاً، المادة التي تناولت طريقة انتخاب الأمين العام. نصّ الدستور المقترح على أن انتخاب الأمين العام يجري من مجلس الشورى بدلا من المؤتمر العام، علماً بأن انتخاب الأمين من المؤتمر العام ظل تقليداً سارياً متفقاً عليه طيلة الأعوام الستين الماضية حتى انتخابات 2008. قيل في تبرير هذا المقترح إن مجلس الشورى هو المكان الأنسب “للجرح والتعديل.” لكن الواقع هو أنه عند انعقاد مجلس الشورى أجريت الانتخابات دون أي جرح أو تعديل. أثارت هذه المسألة تساؤلات عميقة حول النية الحقيقية من التعديل، وعدّه بعضهم وسيلة للانتقاص من تفويض الأمين العام، بل ذهب بعضهم إلى أن السبب يكمن في حقيقة أن قرارات مجلس الشورى والانتخابات فيه أكثر قابلية للتحكم فيها مما إذا أجريت في المؤتمر العام. ولم يشرح أحد لماذا أضربت الحركة في الأعوام الستين الماضية عن اتباع حكمة الانتخاب من مجلس الشورى وعدلت عنها إلى الانتخاب من المؤتمر العام. أو لماذا وعدنا بانتخابات أفضل من خلال الجرح والتعديل في مجلس الشورى، ثم ألغي الجرح والتعديل عند التطبيق الفعلي.
كانت الحجة الأخرى التي سيقت في معرض تفضيل الانتخاب من مجلس الشورى هي أن المؤتمر العام أكثر عرضة “للهرج والمرج”، بما يعني أنه أقل رشداً من مجلس الشورى الذي، كما وعدنا، سيحيي سنة الإسلام في الجرح والتعديل، هذا رغم أن الدستور قد أثبت في نصّه أن المؤتمر العام هو السلطة العليا للحركة، ويفترض أن صاحب السلطة الأعلى هو الأولى باتخاذ القرارات المصيرية في شأن الحركة. المنطق المستخرج من هذه الحجة يستوجب أن يلغى المؤتمر العام من الدستور أو أن يجعل في درجة أدنى من مجلس الشورى في الترتيب.
المادة الخلافية الثانية تناولت فقرة جديدة وغريبة للغاية. تلك هي المادة التي نصّت على تكوين “قيادة عليا للحركة” من الأمين العام وعدد من القيادات التنفيذية، على اعترافنا بفضلهم كأفراد، إلا أنهم لم ينتخبوا من قواعد الحركة بل انتخبوا من كليات أخرى ليست من جسم الحركة. على سبيل المثال سيكون من بين هؤلاء بالضرورة السيد رئيس الجمهورية ونوابه ورئيس المجلس الوطني. وكما هو واضح فإنه بهذا الترتيب اندرجت أجهزة الدولة وقياداتها في جسم الحركة وقيادتها دون أن تنتخب من مؤسسات الحركة وعبر نظمها. وبذلك تكون الحركة قد التحمت بالحكومة بأشد مما حدث في أي وقت مضى. وفي ظل هذا الوضع الذي أصبح فيه الأمين محاطاً بثلة من الرجال الذين يفوقونه قوة ونفوذاً، لن يستطيع الأمين أن يتبنى أية مبادرة دون إذن من القيادة العليا التي أصبحت الآن مستوىً تنظيمياً يقيّد الأمين العام يحول بينه ومجلس شوراه. المشكلة الرئيسية في هذا المقترح تكمن في الخلط بين وظائف الحركة المستقلة والدولة والاعتقاد الخاطئ بحتمية الصدام بين الحركة والحكومة إذا لم يحكم دمجهما، وهو اعتقاد ليست له أسباب موضوعية تبرره.
من ناحية أخرى فإن فكرة القيادة العليا تثير أسئلة قانونية وأخلاقية شائكة، خاصة وأنه قد أعلن رسمياً الآن أن رئيس الجمهورية قد أصبح رئيساً للقيادة العليا للحركة الإسلامية. المشكلة تكمن في أن الحركة الإسلامية غير مسجلة قانونياً حتى الآن. وقد جرى جدل مطول داخل الحركة حول هذه المسألة في وقت سابق وكان الاتجاه الذي يرى ضرورة تسجيلها قانوناً هو الاتجاه الغالب. الآن، بحسب هذه المادة، فإن رئيس الجمهورية، وهو الحارس الأول للدستور وللقانون ورمز وحدة البلاد الذي انتخبه الشعب السوداني وأعطاه بيعته، سيصبح رئيسا لجماعة غير مسجلة قانوناً. وهذا يعني، نظرياً على الأقل، أن الباب مفتوح لجماعات أخرى كي تنشئ حركات فكرية وثقافية، إسلامية وغير إسلامية، غير مسجلة قانوناً وتدعوا السيد رئيس الجمهورية ليكون رئيساً لقيادتها العاليا. وسيكون غير مبرر إطلاقاً أن يرفض الرئيس طلبها إلا إذا أردنا أن نضعف واجبه الأخلاقي الذي يجعله حكماً عدلاً وقائداً محايداً لمواطنيه. ولا يستطيع المرء أن يحيط بالتعقيدات التي تتسبب فيها هذه المادة. على سبيل المثال كيف تكتسب الحركة، غير المسجلة قانوناً، شخصية اعتباريه؟ وهل يمكن لها دون هذه الشخصية الاعتبارية أن تقاضي، وتتعاقد، وتفاوض، وتتفق، وتفتح حسابات عامة في البنوك خاضعة للمساءلة والمراجعة القانونية؟ إني لأعجب، كيف خفيت هذه المسائل على قيادات الحركة ومن بينهم قانونيون كبار! إن هذه المادة لا شك تنشئ وضعاً قانونيا لا نظير له في أي بلد في العالم. وبمقابل هذا المثال نجد المثالين المصري والتركي حيث تخلى الرئيس المصري محمد مرسي، والرئيس التركي عبد الله قل عن انتماءاتهما الحزبية والتنظيمية لأول انتخاب كل منهما لرئاسة الجمهورية.
ثالثاً، المادة الثالثة تتعلق بالنص على أن من اختصاصات الحركة أن تنشئ حزباً سياسياً وفق القانون. وهذه المادة أيضاً تثير مشكلات قانونية وأخلاقية مشتجرة. أولا لأن قانون الأحزاب ليس فيه نص على أن الأحزاب تنشأ بإرادات أحزاب أو جماعات أو تنظيمات أخرى، حتى ولو كانت تلك الأحزاب والجماعات والتنظيمات مسجلة قانوناً. قانون الأحزاب ينصّ على أن الأحزاب تنشأ بإرادة المؤسسين دون وسيط أو وكيل أو كفيل. أي أن أصحاب الحزب المسئولين عنه قانوناً هم مؤسسوه. والمؤتمر الوطني حزب قد تأسس منذ أكثر من عشر سنوات فما المعنى لأن يدرج في دستور الحركة ما يتضمن الإشارة إليه وإن لم يذكر نصاً. كان يكفي أن يقال إن الحركة ستمنح ولاءها للحزب الذي يخدم أهدافها، وتبقى مسألة تحديد ذلك الحزب، الذي لا يشك أحد في أنه المؤتمر الوطني، مسألة تفاهم أهلي بينهما. وعندئذ، واحتراماً لحقوق الثمانين بالمائة من أعضاء المؤتمر الوطني، الذين هم ليسوا أعضاءً في الحركة الإسلامية وربما لا يرغبون في أن يكونوا أعضاءً فيها، يجب على الحركة الإسلامية أن تتقدم هي بمبادرتها وعرضها للتأييد للمؤتمر الوطني ثم يوافق هو عليها. أما أن يعلم هؤلاء الثمانون بالمائة من أعضاء المؤتمر الوطني أن حزبهم قد أنشئ في الحقيقة بإرادة جماعة لا ينتمون هم إليها، وأن رئيسهم، رئيس المؤتمر الوطني، هو في ذات الوقت رئيس بحكم منصبه لتلك الجماعة التي أنشأتهم، فإن هذا مما يضعف ثقة أعضاء المؤتمر الوطني بحزبهم ويضعف مشروعية المؤتمر الوطني نفسه في الساحة العامّة.
كل هذه الاعتراضات قائمة في حالة ما إذا كانت الجماعة مسجلة قانوناً، أما أن تكون كل هذه الاعتراضات الشائكة قائمة ومصوبة نحو جماعة لا يراها القانون ولا يعترف بها، فإن المشكلة تصبح أعقد.
عندما خاطبت الحاضرين من منصة المؤتمر العام لم استفض في نقد تلك المواد لأنني رأيت الأولوية هي لأن أقول كلمات توحد الصف وتلأم الجراح. كنت أحاول أن أدعو الجميع لأن يتطلعوا إلى حركة مستقلة حرة واثقة بنفسها ترفع رأسها عاليا لتفخر مع نظيراتها من الحركات الإسلامية في دول الربيع العربي. ولقد استشهدت بعبارة السلف: “رأيي صواب يحتمل الخطأ” وأنني مستعد لأن أسلم للرأي الآخر إذا صدر من ضمير يقظ ودون تأثيرات جانبية ترغّب وترهّب.
برغم ذلك تواترت شهادات قوية، من الجمع الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب، بأن بعض الأجهزة التنظيمية تدخلت للتأثير على نتائج التصويت للقرارات والأشخاص، وأنها مررت توجيهات من قيادتها العليا بالتصويت للدستور جملة دون تعديل، وبالتصويت لأشخاص بعينهم دون آخرين. وقبل انعقاد هذا المؤتمر العام ثبت من أخبار متواترة، أكدتها رسالة مشهورة من رئيس اللجنة التحضيرية، أن لجان تنسيق تجتمع على مستوى الولايات فما دونها لتتبنى باسم القيادة قرارات ومرشحين بعينهم يصوت لهم الأعضاء. وقد عزز تلك المخاوف من تدخل الأجهزة التنظيمية في اختيارات الأعضاء أن حكمين فعليين بتجميد نتائج الانتخابات قد صدرا في شأن ولايتين جرت فيهما تلك الممارسات.
هذه المخالفات تستوجب الوقوف عندها والتصدي لها لأنها تشير إلى خلل جوهري في المفاهيم المؤسسة والممارسات، وتوضح مدى ما اعترى الحركة من علل وأزمات بسبب غيابها –أو تغييبها- المتطاول. إنها علل وممارسات نزعت الروح من عبارات ربعي بن عامر الرنانة ومن وعود الإسلام التحريرية وجعلتها محض صدىً يأتي من خارج المكان والزمان. إن الوشيجة الأقوى التي تربط أية جماعة تناصرت على دعوة هي الثقة. وشيوع الثقة في الجماعة مرهون بإقامة العدل فيها وتكافؤ الفرص وانتفاء التمييز بين أعضائها. هذه هي القيم التي تجمع، فإذا انتفت انتفى الإجماع وحل التفرق والشتات. لقد قلت في مناسبات سابقة إن الوظيفة الأساسية للحركة الإسلامية هي أنها سلطة ومرجعية أخلاقية، فإذا فقدت هذه الوظيفة فقدت مبررات وجودها، والله –سبحانه- قادر على أن يستخلف لدعوته آخرين.
لقد استفسرني كثيرون عن سبب إعلاني عدم الرغبة في الترشح لمنصب الأمين العام في اجتماع مجلس الشورى رغم أن معظم أعضاء المؤتمر كانوا يؤيدون ذلك الترشيح، ووعدتهم بأن أجيبهم في الوقت المناسب. وهذه لحظة مناسبة لأوضح أنني عزفت عن الترشح لسببين. الأول هو لأن إثبات صيغة القيادة العليا التي شرحت اعتراضاتي عليها هي في نظري مخالفة واضحة لدستور البلاد وقوانينها، كما أن الأمين العام في ظل تلك الصيغة لن يملك سلطة حقيقية تمكنه من أن يقود مبادرات الإصلاح؛ لأنه لن يتحرك إلا بهموم السلطة وأدواتها. والسبب الثاني هو أن مناخ الشحن والتعبئة داخل اجتماع مجلس الشورى الذي أحدثته الأجهزة التنظيمية المذكورة بقبضتها وتوجيهاتها، لم يطمئن إلى إمكانية إجراء انتخابات عادلة ونزيهة تعبر تعبيراً حقيقياً عن ضمير الحركة وإرادتها.
إن الحركة الإسلامية الموالية للمؤتمر الوطني تمر الآن بمنعطف حرج في مسيرتها الخاصة يواقت منعطفاً مماثلاً في مسيرة السودان كله. لقد تقسمت الحركة الإسلامية التي نشأت قبل أكثر من ستين عاماً إلى جماعات، من بينها حركة الإخوان المسلمون، والمؤتمر الشعبي، والحركة الإسلامية السودانية، وبعض الجماعات السلفية. وتقع على الحركة الإسلامية السودانية بصورة خاصة، بسبب امتلاكها مقاليد السلطة، قيادة جهود التوفيق بين هذه المجموعات في سياق سعيها لتوحيد الساحة السودانية الوطنية العامة. لكنها كي ما تؤدي هذه المهمة بنجاح عليها أن تسترد مشروعيتها وعافيتها بأن تشيع الثقة والعدالة داخل صفها أولاً، وأن ترمم مصداقيتها التي اهتزت بشدة بسبب ما جرى في المؤتمر. وإن نصيحتي للقائمين عليها، بل مطالبتي لهم هي:
أولا: التحقيق في الاتهامات التي وجهت لأجهزتها بخرق عهود الحيدة والعدل بين أعضائها مما أوردنا طرفاً منه أعلاه. ويجب أن تتولى ذلك التحقيق لجنة يقوم على اختيارها إجماع. إن إثبات أن تلك الخروقات قد حدثت أو أنها لم تحدث سيكون له وقع مصيري على مستقبل الحركة وكفايتها ونظرة أعضائها إليها.
ثانياً: إجراء دراسة قانونية مدققة عاجلة تتناول ما أوردته من مخالفات قانونية ودستورية في شأن المادتين الثانية والثالثة المذكورتين أعلاه في الدستور الذي أجازه المؤتمر العام بإجراءات إيجازية، وذلك حتى لا نضع السيد رئيس الجمهورية في موضع مخالفات دستورية وقانونية
برغم أنني خصصت هذا البيان للحديث عما جرى في المؤتمر العام للحركة الإسلامية، إلا أنني أؤكد أن القضية التي ينبغي أن توحد السودانيين الآن هي الأزمات والفتن التي تحيط بالبلاد، وهو ما يدعوا المؤتمر الوطني والحكومة أكثر من أي وقت مضى لقيادة الإصلاح وتوحيد الصفوف، الشئ الذي لن يتاح لهما بغير تأكيد مصداقيتهما السياسية والأخلاقية. إنني أؤكد إلتزامي الشخصي بالعمل إيجابا لما فيه مصلحة البلاد. وسواء أوضحت آرائي من منصة حزبية، أو منطلقاً من علاقاتي في الساحة العامة، فإنني سأكون أجهر تعبيراً وأوضح بياناً عن رؤاي في الإصلاح السياسي، والوحدة الوطنية، والحكم الراشد.