Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

أحاديث في العلن مع دعاة الدستور الاسلامي

شمس الدين الأمين ضوالبيت

الدساتير تُصنع في الهواء الطلق

“لعنة الله على الوحدة الوطنية إذا كانت ستأتينا بالعلمانية”. بهذه الكلمات الرهيبات لخص المرحوم الشيخ أبو زيد محمد حمزة, في مقابلة معه نشرتها صحيفة التيار يوم 22/10/2009, موقفه وموقف جماعته – جماعة أنصار السنة المحمدية – وجماعات أخرى قريبة منها, من قضية الوحدة الوطنية. وهي جماعات يمكن أن نطلق عليها إجمالاً, وفي هذه المرحلة من المقال, إسم الجماعات السلفية. غير أنه سيتضح لاحقاً أن هذا الموقف ليس هو فقط موقف الجماعات ذات الإسناد الوهابي – السعودي, وهو ما يتبادر إلى الذهن السوداني عند الإشارة لـ(لجماعات السلفية), وإنما يتعدى هذه الجماعة إلى قطاع أعرض من السلفيين, سنأتي على تعريفهم وتفصيلهم فيما بعد.

سيتضح كذلك أن اللعنة المصبوبة على الوحدة الوطنية لا تتصل بالعلمانية, فحسب, فمن قبل تصريح المرحوم الشيخ أبوزيد, ثم من بعده, تعددت هذه اللعنات على الوحدة الوطنية من أشخاص وجماعات أخرى, لتشمل: “..إذا كانت ستأتينا (بالحزبية) أو (بالدولة المدنية) أو حتى (بالديمقراطية)”, لا فرق, تظل اللعنة على الوحدة الوطنية قائمة !

ثمّ سيتضح أيضاً في سياق هذه السلسلة من المقالات أن هذه اللعنات لم تكن مجرد دعوات غاضبة مرفوعة إلى السماء, ولا زفرات اعلامية تٌطلق في ميادين المنافسة الحزبية, بل إنعكاس لرؤى وتوجهات مدروسة ومحددة. وأن ما أصاب الوحدة الوطنية بانفصال الجنوب لم يكن استجابة السماء لهذه التضرعات واللعنات, وإنما مصيبة أصابت البلاد مع سبق إصرار وترصد البعض من أبنائها, لأن الإنفصال إنما كان, في الواقع, النتيجة المنطقية لبرامج وسياسات موضوعة ومطبقة بعناية واقتدار.

والآن ومع انتهاء الفترة الانتقالية ومعها الدستور القومي الانتقالي واتفاقية السلام الشامل, فيبدو أن معركة صامتة ولكنها شرسة قد بدأت حول الدستور القادم, والذي يفترض أن يكون هو دستور السودان الدائم. وهي معركة لا زالت خفية المعالم, أولاً لأنها تدور في الخفاء, لا تظهر منها إلا قمة جبل تغوص بقيته الهائلة في مياه معتمة, وثانياً, لأن جمهور السودانيين وإن كان يعلم أن هناك عدد من المبادرات لابتدار حوار يهدف إلى الإتفاق على الأسس والمبادئ التي ستحكم صناعة الدستور, والأطراف التي ستشارك في صياغته وكيفية مشاركتها, إلا أن هذا الجمهور لم يكن يعلم أن جهة ما سبق وأن شرعت في إعداد هذا الدستور (الدائم) وتفصيل مواده, وذلك إلى أن أطل علينا الاستاذ اسحاق أحمد فضل الله في جريدة المشاهد يوم 14/4/2011, لينقل إلينا خبر “الحدث الأعظم في الأسبوعين الأخيرين الذي لم يلتفت إليه أحد .. أن الخرطوم تضع الآن دستوراً جديداً..ولكن الناس ما جايبين خبر”..!

قبل هذا الخبر المباشر لاسحاق أحمد فضل الله خرجت تسريبات غير مباشرة تضمّن إحداها مقال يتيم من سلسلة لم تظهر بقيتها, للشيخ ياسرعثمان جاد الله, أمير جماعة الأخوان المسلمين – الإصلاح, نشرته جريدة التيار يوم 3/4/2011, بعنوان: (قضية الهوية الإسلامية بين ثوابت الشريعة ودعاة التمييع والدغمسة..1/3), ذكر فيه الشيخ ياسر إن الذي دفعه لكتابة المقال هو:” بعض كلمات ومفاهيم خطيرة وردت على لسان أحد قادة هيئة العلماء في السودان أثناء الحوار حول المبادئ والملامح الأساسية للدستور الإسلامي المقترح, والتي اراد بها نفر كريم من بعض تيارات العمل الإسلامي.. أن يؤطروا..للدستور الإسلامي”.

ولأن المقال يحتوي إشارات من طرف خفي, ليس فقط لحدث الدستور الذي يتم إعداده من وراء حجاب, ولكن ايضاً لتفاصيل محتواه النصي, وللجهات التي تقوم باعداده, ولطبيعة الخلاف الذي يدور بينها حول ‘مفاهيم خطيرة‘ يحملها بعضهم لملامح هذا الدستور, مما سيكون جميعه موضوع هذه السلسلة من المقالات, فأرجو أن يسمح لي القارئ والقارئة أن أقتبس المزيد من مقال الشيخ ياسر جادالله.

يقول الشيخ ياسرالذي كان ينقل من محضر اللقاء المذكور جزءاً خاصاً بـ(هوية البلاد), إن (النص عليها في الدستور الإسلامي المقترح جاء..واضحاً, على النحو الآتي “بلاد السودان دار إسلام, تتحدد هويتها وطبيعة الانتماء إليها على هذا الأساس”). ويستطرد ليبين أن مفهوم (دارالإسلام) هذا هو المقابل لـ(دار الحرب), لأن “جميع فقهاء الإسلام قسموا المجتمعات إلى مجتمعين: دار إسلام ودار حرب”, وأن لكل واحدة من هاتين الدارين أحكامها المتعلقة بها التي فصّلها هؤلاء الفقهاء. هذا ما أورده المقال فيما يخص محتوى الدستور الإسلامي المقترح في موضوع الهوية, وما ستترتب عليها من نوعية الأحكام التي سستطبق على البلاد عندئذٍ, ويدخل في ذلك علاقتها بـ(ديار الإسلام) , و(ديار الحرب) الأخرى, كما فصلها الفقهاء.

أما موضوع الخلاف, فيوضح الشيخ يأسر أن هناك مجموعة من بين (تيارات العمل الٍاسلامي), كما أسماها, من بينها الشيخ ياسر جاد الله نفسه, تعترض على موقف مجموعة أخرى من ذات التيارات, عبر عنه, بحسب الشيخ جاد الله, أحد قادة هيئة علماء السودان (ولم يذكر اسمه), إذ يرى هذا القائد عدم النص على هوية البلاد بهذه الصورة الدقيقة والواضحة التي وردت بها في الدستور الإسلامي المقترح (لأن من السياسة الشرعية أن نقول أشياء ونضمر أشياء أخرى, لأننا عشنا ردحاً من الزمن في ظل ثقافة وافدة ومن الأفضل أن نسكت عمّا يمكن السكوت عليه ثمّ يُفصّل [ذلك] في سياسة الدولة [فيما بعد])..؟!(علامات الإستفهام والتعجب من عندي).

وعلى الرغم مما يظهر من بين هذه الأسطر من أن الخلاف ليس خلافاً في المبدأ, وإنما هو خلاف إجرائي حول كيفية إخراج المتفق عليه, بين مجموعة ترى النص صراحة على كل شئ, ومجموعة أخرى ترى أن الناس لا يحتملون ذلك لحداثة عهد به, وأن الأوفق هو قول شئ مخفف نوعاً ما في الدستور, ولكن عند ممارسة الحكم وسن القوانين فيُطبق شئ آخر هو ما يقوله الأولون, على الرغم من ذلك يستعين الشيخ ياسر بخطاب رئيس الجمهورية الشهير في القضارف, ليتهم أنصار هذا التيار الثاني بالسعي لـ(التمييع والدغمسة..والتواري خلف العبارات), وليعلن بأن معركتهم حول الدستور الإسلامي لن تكون مع العلمانيين بل ستكون مع هذا النفر من “الذين يحملون لواء الدستور الإسلامي” ولكنهم لا يريدون التعبير عن ذلك صراحة, ممن “يلبس كلامهم لبوس العلماء ويوهم الناس أنه الصواب, خاصة الحكام الذين هم أهل القرار..!!” (التعجب للشيخ ياسر).

فمن جملة القرائن الظرفية والنصية والسياسية الواردة في مقاليّ اسحاق فضل الله وياسر جاد الله يتضح أنهما يتحدثان عن الدستور الإسلامي ذاته. فالظرف الزماني لبدء العمل في الدستور يكاد يكون واحداً: نهايات شهر مارس وأوائل أبريل, كما أن الجماعة الموصوفة بـ(تيارات العمل الإسلامي), التي تعد هذا الدستور هي جماعة مشتركة بين الكاتبين, ومما لاشك فيه أيضاً أن المحتوى النصي المذكور لهذا الدستور, حتى إذا كان هناك اختلاف حول صياغته, هو محل اتفاق قوي بينهما. هذا بالاضافة لإشارة وردت في مقال الشيخ ياسر يضع فيها بعضاً ممن لهم “أقلاماً وأبواباً ثابتة مقرؤة في أشهر الصحف السودانية”, في جملة المنادين بـ(فقه التواري) – إذا جاز التصرف في كلمات الشيخ ياسر- مما يمكن أن يكون المقصود به هو اسحاق أحمد فضل الله نفسه..! وما يلجئني إلى هذا الجهد في التحليل إلا الغموض وغياب المعلومة حول هذا الموضوع الذي يهم, فيما استقرت عليه الأعراف الدستورية السليمة, كافة أهل السودان, مما كان يستوجب أن تكون فعالياته معروفة, مبذولة أخبارها لهذه الكافة, وليس لفئة قليلة معدودة مهما كان موقعها في الدولة, أو قربها من الحكام. هذا من جانب.

من جانب آخر ينسف هذا (الحدث الأعظم), كما أسماه فضل الله, والمتمثل في وضع دستور بليل, في غرف مغلقة, جهوداً ومبادرات أخرى تعترف بالحاجة, في هذه المرحلة, إلى إيجاد آليات وطرائق تضمن المشاركة, والشفافية, والشمول في إعداد الدستور, من بينها: مبادرة المؤتمر الوطني للحوار حول الدستور, مع ما يكتنفها من شكوك, ومبادرة مستشارية الأمن القومي, (التي تم القضاء عليها أثناء كتابة هذه المقالات), وجهود جامعة الأحفاد, ومركز الأيام للابحاث, ومركز طه الذي ابتدر اسبوعاً للحوار حول الدستور من بين جهود أخرى, على سبيل المثال.

كذلك, وكعادة المجتمع المدني السوداني في القضايا الوطنية فقد ابتدرت مجموعة من المنظمات الوطنية الديمقراطية, بقيادة معهد تطوير المجتمع المدني بجامعة شرق النيل, جهداً أسمته المبادرة السودانية لصناعة الدستور, يهدف من خلال التثقيف المدني, والمناصرة, والرصد إلى المساهمة في تمكين السودانيين والسودانيات, داخل وخارج السودان من المشاركة في صناعة الدستور. بحيث “تكون عملية صناعة الدستور شفافة, وشاملة, وتشارك فيها كل الأطراف”, وتفضي إلى دستور (دائم) حقيقة لا إسماً, مقبول من الجميع, ويحترمه الجميع. فهذه الجهات جميعاً تعلم أن الطريقة التي يتم بها إعداد الدستور لا تقل أهمية عن محتوى الدستور, وأن أي دستور لن يكون أفضل من الأسلوب الذي وُضع به, وأن الدساتير التي لا تأبه بهذه المبادئ والإجراءات لن يكون حظها في الإستدامة أكثر من درج مغبر في أرشيف الوثائق, مهما تطاول فرضها, بإضفاء القدسية, أو بسياسة الأمر الواقع.

غير أنه قد وضح من المقالين موضع النظر في الأسطر الماضية أن الجهات التي تقوم الآن بوضع (دستور السودان) هي “نفر كريم من بعض تيارات العمل الإسلامي”. ويبدو من “فرحة الظفر المخفي” التي تطفر من خلف كلمات اسحاق أحمد فضل الله, ومن ثورة الشيخ ياسر جاد الله, أن هذه الجهات تتمتع بالنفوذ وبالقرب من (الحكام الذين هم أهل القرار), كما أشار إلى ذلك الشيخ ياسر. وهنا لابد من الإشارة إلى أن من حق كل جماعة سودانية أن يكون لها تصورها ومبادئها عن دستور السودان, وأن تسعى في إطار دستوري معين لتضمين هذه المبادئ والتصورات في دستور البلاد. ولكن ليس من حق مجموعة واحدة, أياً كانت صفتها, أن تحتكر الحديث باسم السودانيين أجمعين, ولا أن تفرض عليهم دستوراً بهذه الطريقة كأنهم غير راشدين. هذه الأولى.

أما الثانية فمما رشح حتى الآن من محتويات هذا الدستور, ومما ورد في مقال فضل الله, عن أن هذا الدستور الإسلامي الجديد هو الامتداد لدستور نميري الإسلامي, على ما في هذه الجملة من غرابة, (لأن نميري لم يفعل أكثر من إضافة أربعة حدود للقانون الجنائي), أن ذلك يعيدني إلى ما بدأت به هذه الأسطر حول الرؤى والتوجهات, وحول البرامج والسياسات التي قادت إلى إنفصال جنوب السودان. فهي ذات الرؤى وذات التوجهات, وذات البرامج والسياسات التي تٌفصل الآن دستور السودان.

فالغاية من هذه المقالات هي إلقاء بعض الضوء على هذه الرؤى والتوجهات, والبرامج والسياسات المشار إليها, واختبارها على واقع السودان, وإماطة اللثام عن الخيط السميك الذي يربط بينها, على الرغم مما يبدو من اختلاف في مصادرها أو تباعد وصراع بينها. كذلك أرجو أن تكون هذه المقالات دعوة لفتح حوار قومي في الهواء الطلق حول الدستور القادم مع جماعات العمل الإسلامي والمنتسبين إليها الذين يعدّون الآن الدستور الجديد, حول رؤاها ومنطلقاتها الدينية التي تبغي تضمينها في الدستور, من زاوية آثارها على السودان, ومدى محافظتها على مصالح البلاد والعباد, ومن ثمّ على مقاصد وغايات الدين نفسه,وما إذا كانت تصلح بالتالي أساساً للدستور الجديد, وذلك إنطلاقاً من القاعدة الجليلة لإبن قيم الجوزية, أحد كبار أئمة السلفيين, من أن “الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد, وهي عدل كلها, ورحمة كلها, ومصالح كلها, وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور, وعن الرحمة إلى ضدها, وعن المصلحة إلى المفسدة, وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل” (إعلام الموقعين).

السودان ..(دار صلح)

ذكرتُ في الحلقة السابقة إنه قيل لنا إن الخرطوم تُعد الآن دستورها الإسلامي الدائم, وإن مادة الدستور التي تحدد الهوية تُقرأ, في أحد موقفين, على النحو الآتي: “بلاد السودان دار إسلام, تتحدد هويتها وطبيعة الانتماء إليها على هذا الأساس”. أما الموقف الآخر فيرى: عدم النص على هوية البلاد بهذه الصورة المكشوفة التي وردت بها في المقترح “لأن من السياسة الشرعية أن نقول أشياء ونضمر أشياء أخرى, لأننا عشنا ردحاً من الزمن في ظل ثقافة وافدة ومن الأفضل أن نسكت عمّا يمكن السكوت عليه ثمّ يُفصّل [ذلك] في سياسة الدولة [فيما بعد]”, كما عبر عن ذلك أحد قادة الموقف الثاني.

وسواء انتصر الجناح الأول بتضمين نصه في الدستور, ثم تفصييل مقتضياته المتعلقة بأحكام الدارين (دار الإسلام ودار الحرب)- كما بينها الفقهاء- في القانون والممارسة الحياتية السودانية, أم شقت طريقها المجموعة التي ترى أن الناس لا يحتملون ذلك لحداثة عهد به, وأن الأوفق هو قول شئ مخفف نوعاً ما في الدستور, ولكن عند ممارسة الحكم وسن القوانين فتُطبق حينئذٍ أحكام الدارين (دار الإسلام ودار الحرب), كما بينها الفقهاء, أياً كان الأمر فالنتيجة واحدة, وهي: أن الدستور قيد الإعداد محكوم بتصورات أهلنا السلفيين ومفاهيم الفكر السلفي للإسلام, وليس بالروح التي شكلت عبر التأريخ الوجدان السوداني الشمالي في غالبه الأعم: روح وتعاليم الصوفية.

ذلك أن تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب, نصاً أو ممارسة, لهو أحد القواعد الأكثر أصالة وتعبيراً عن مفاهيم وتصورات المذهب السلفي المبنية على (فقه الفتح). ولكنه في الوقت ذاته أضعفها بمقاييس العقل والتجربة الإنسانية المعاصرة, وفوق ذلك بمقاييس التجربة التاريخية السودانية. فقد صالح عبد الله بن أبي سرح, في (اتفاقية البقط), أهل النوبة من السودانيين القدامى, على عهد بتبادل المنافع وعدم الاعتداء, وذلك بعد أن أيأسه (رماة الحدق) عن فتح بلادهم. وبهذ أدخل أهل السودان رافداً جديداً ثالثاً في فقه العلاقات الدولية, لم يكن معروفاً قبلهم, هو (دار الصلح), بعد أن كان الأمر يقتصر من قبل على (دار الإسلام) و(دار الحرب). وقد طبع هذا الوصف وجدانهم ومسيرتهم التأريخية, بأن كان دخول الإسلام إليهم من باب الرضا؛ بالمجاورة, والمصاهرة, والمعاشرة, والتمازج. فهذه جملة مفارقات تستوجب اختبار مدى صلاحية تصورات ومفاهيم السلفية أساساً للدستور القادم, من باب ملاءمتها وقدرتها على إعطاء إجابات لإشكالات الواقع السوداني.

ومعلوم أن تصورات ومفاهيم السلفيين تقوم على الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة, والإقتداء بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار, وتابعيهم من السلف الصالح – ومنها اسمهم الذي سموا به أنفسهم- والعمل عل استعادة صورة الإسلام النقية, وتطهيره مما علق به من البدع والعادات الشركية, ويستندون في ذلك على العديد من الأحاديث النبوية, مثل حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم, قالت: (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: القرن الذي بُعثت فيهم؛ ثم الثاني؛ ثم الثالث), ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم, حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ, وإيًاكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة), وهم يرفعون شعار: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

وتشتمل التصورات والمفاهيم السلفية على جوانب تتعلق بالعقيدة وأخرى بالشريعة, أحياها أئمة السلفيين, في ظل تحديات كبرى واجهتهم وواجهت المجتمعات الإسلامية في أزمانهم, من لدن الإمام أحمد بن حنبل, مروراً بأبي حامد الغزالي (ت 1111م), وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ت 1328م), ثم محمد بن عبد الوهاب (ت 1792م), إلى أبوأعلى المودودي (ت 1979م), وحسن البنا (اغتيل 1949م), وسيد قطب (أعدم 1966م).

وقد دخلت التصورات والمفاهيم السلفية السودان في صيغتها الأزهرية مع جيوش محمد علي في القرن التاسع عشر, و في صيغتها الإخوانية في الأربعينات, وفي صيغتها الوهابية بدءاً من السبعينات من القرن الماضي, وتطورت من هاتين الأخيرتين صيغة تحالفية إخوانية قطبية- وهابية هي التي تقود اليوم العمل الإسلامي في السودان, وهي التي تعكف على وضع دستوره الآن. وتجب الاشارة هنا إلى أن هذه المحاورات لا تناقش أهداف هذا التوجه الفكري, وإنما تصوراته للوصول إلى هذه الأهداف, ولا تتناول جوانب العقيدة التي ترتبط بالإيمان, فلا كبير خلاف حولها, وإنما تتناول جوانب الشريعة المرتبطة بالدستور, وبالوعي الجمعي, وبالعقل والعلم, ومصلحة الأمة.

في هذا الجانب التشريعي فإن القاعدة الأبرز لدى السلفيين هي التمسك بحرفية نصوص الأحكام, وبصلاحيتها لكل زمان ومكان. وتبلورت من هذه القاعدة خصائص أساسية للفكر السلفي, هي أولاً, التقليد خلفاً عن سلف؛ وثانياً, رفض الإجتهاد وإعمال العقل والتأويل؛ وثالثاً, الإكتفاء ورفض الإنفتاح على المجتمعات الأخرى؛ ورابعاً, اعتبار أنفسهم أهل الحل والعقد, بهم تناط الأحكام, وتحفظ العقيدة. وقد رأينا في الحلقة الماضية أنهم يرون أن لا أحد غيرهم جدير بوضع دستور البلاد. أما السمة الخامسة فهي لجوء بعض من فصائلهم لإستخدام القوة والعنف المادي واللفظي لنشر فكرهم و فرضه على الآخرين.

وإذا أرجعنا هذه المنظومة الفكرية السلفية إلى جذورها الأولى نجد أن فكرة واحدة – ثبت خطؤها – هي التي تحكمت في مسارها, وأفرزت نتائجها, ألا وهي الفكرة القائلة بتوقف التطور, وانتهاء التغيير المجتمعي, ونهاية التاريخ, باختتام البعثة المحمدية. هذا هو المبدأ المفتاحي والركيزة العمدة التي تأسس عليها البنيان السلفي.لا ينكر مفكروا السلفية الذين تناولوا هذه المسألة أن الواقع الإجتماعي هو واقع متغير, وأن التغيير هو سمته اللازمة, حتى إبّان تنزل القرآن, ولكن لأسباب شديدة الإلتباس تنقطع سنة التغيير هذه عند السلفيين, مع وفاة الرسول عليه أفضل الصلاة السلام.

فحسن الترابي, على سبيل المثال يوضح السبب في اختلاف الشرائع التي يأتي بها الرسل, فيقول: “إنما تقع الحركة في شرع الله حين يكون الحكم الأول حقاً للزمن المخصوص والظرف المعين, لا حقاً أزلياً”, ويضيف د. الترابي إن الرسالات الجديدة تأتي “مصدقة لما بين يديها لتحيي موات الدين, أو مصدقة ومهيمنة لتحيي شرع الدين وتكيفه لتطوير جديد.. بصور تَديٌن ظرفية تكون هي الحق الزماني النسبي, بعد أن غدت الصور التي كانت مشروعة غير وافية بمقصد العبادة لله بسبب تحول قاعدتها الظرفية”, وأن ذلك استمر “حتى بعث الله الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم” ( الرفاعي, مقاصد الشريعة, ص 179).

كذلك يرى سيد قطب أن تنزًل القرآن يراعي التجربة والواقع, لذلك لم ينزل جملة واحدة “وإنما نزل وفق الحاجات المتجددة, ووفق النمو المطرًد في الأفكار والتصورات, والنمو المطرًد في المجتمع والحياة, ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية” (معالم في الطريق, ص 19). وهذا هو أيضاً ما يقول به حسن البنا الذي يرى أن الآيات القرآنية وردت تبعاً لأوضاع معينة وأحداث ملموسة في حيزها الزماني والمكاني..كأنها إجابات محددة جزئية, عن أحوال محددة فردية أيضاً. (سعد, الأصولية الإسلامية, ص 139).

ويمكن الإسترسال في مثل هذه الأمثلة لصفحات, ولكن خلاصة القول إنه مع إعتراف مفكري السلفية بـ(تحول القواعد الظرفية), و(تجدد حاجات البشرية), و(نمو الأفكار والتصورات والمجتمعات), مما يتطلب قوانين وأحكام جديدة, تلبي متطلبات القواعد الظرفية المتحولة, وحاجات البشرية المتجددة, ونمو المجتمعات المطرًد, فيما أضحى معروفاً بالإستجابات التاريخية, مع إعترافهم بكل هذا, إلا إنهم ينكرون أن أياً من هذا الذي اعترفوا به يحدث بعد ختم البعثة المحمدية..!

ويقدم البروفيسور أحمد علي بابكر, الأمين العام السابق لمجمع الفقه الإسلامي, ورئيس مجمع اللغة العربية , في كتاب له صدر حديثاً بعنوان: “الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم”, تفسيراً لهذا الموقف بقوله إن “هناك حقائق في التشريع القرآني توجب أن يكون هذا التشريع صالحاً لكل زمان ومكان وحال”, أجملها في ثلاث, هي: أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل والأنبياء؛ وأن رسالته جاءت لكافة البشر إلى نهاية الحياة الدنيا؛ وأن رسالة الإسلام قد اكتملت وتمت ورضيها الله تعالى للناس ديناً, وأورد الكاتب مع كل واحد من الأسباب الآيات القرآنية التي تؤيده (ص 107). في الواقع أجمل الكاتب تفسيرات وردت متفرقة لدى الآخرين, خاصة من الطرف الإخواني للسلفيين, وهم أكثر من تناولوا هذه المسائل, لأن جلّ جهد الطرف الوهابي انحصر في حدود العقيدة, ولم يتطرق إلا لماماً للشريعة.

مع ذلك يظل التساؤل قائماً, لأن الحقائق التي يوردها بروفيسور بابكر تتعلق بختم النبوة, وبأن الرسالة المحمدية جاءت لكافة البشر, وبها اكتملت رسالة الإسلام: معرفة الله, ومكارم الأخلاق, ومنهج التشريع. وليس في هذا, تصريحاً أو تلميحاً, حقيقة أم مجازأ, ما يشير إلى توقف عجلة التطور, أو إختتام عمليات التغيير المجتمعي. ما تؤكده هذه الأسباب والآيات التي أوردها بروفيسر بابكر هو حتمية اشتمال المنهج التشريعي القرآني على آلية أو قانون للحركة مع الواقع والتأريخ, يعالج الحاجة القائمة لقوانين وأحكام جديدة, تلبي متطلبات القواعد الظرفية المتحولة, وحاجات البشرية المتجددة, طالما أن القوانين والأحكام التي جاءت مع البعثة المحمدية قد جاءت لتلبية حاجات مجتمعها الظرفية, وفقاً لما يقوله السلفيون أنفسهم.

هذه المفارقة لأسس العلم المستقر هي التي أدخلت الفكر السلفي في الأزمة التي يمر بها اليوم, وعلاماتها عنت شديد في تطبيق الأحكام, وسكوت عن بعضها, وحرج شديد مع بعض آخر, ولجوء لاستثارة العاطفة الدينية والعنف لإنفاذها, بعد أن عزً المنطق, وصعُب الإقناع بالعلم والعقل. وهي أزمة لا مناص واجدة طريقها إلى الدستور, ثم إلى السودان.

أما المفارقة الأخرى فهي لنهج السلف الصالح أنفسهم, الذين لم يكونوا سلفيين مذهباً, فهم لم يتمسكوا بحرفية النصوص, وإنما تقصوا غاياتها ومقاصدها. ولم يجتهدوا فيما هو ظني الثبوت,أو ظني الدلالة, أو ظني الدلالة والثبوت من النصوص, فحسب, بل أيضاً فيما هو قطعي الدلالة والثبوت. ولم يقفوا عند حدود الفهم والاستنباط والتفريع والترجيح والتبرير للأحكام المستنبطة من النصوص قطعية الدلالة والثبوت, كما درج علي ذلك السلفيون من بعدهم حتى يومنا هذا, وإنما تعدوا ذلك الي تعطيل, أو ترك أو استبدال هذه الأحكام.

وتزخر كتب التراث بأمثلة كثيرة علي هذا النوع من الاجتهاد, فقد منع عمر بن الخطاب طائفة المؤلفة قلوبهم ما كان لها من نصيب في الزكاة على عهد الرسول ومن بعده أبو بكر, وقال لهم: ( إن الله أعز الإسلام وأغني عنكم), وتجاوز بذلك حكما لنص قرآني قطعي الدلالة والثبوت.

كذلك كانت السنة النبوية التي لم يخالفها أو يجتهد معها أحد علي عهد الرسول وخلال عهد الصديق تقضي بتوزيع أربعة أخماس الأرض المفتوحة علي مقاتلة جيش الفتح, غير أن عمر ابن الخطاب رأي أن (علة الحكم) التي اقتضت التوزيع قد تغيرت. لذلك رفض توزيع الفيء علي المقاتلة, وترك الأرض لأهلها.

أيضا كانت الجزية قانونا قائما وحكما ثابتا علي الكتابيين الذين يطيقون حمل السلاح, ولكن عندما أراد عمر أخذ الجزية من نصارى بني تغلب, قيل له: “إنهم عرب وقد أعلنوا نفورهم من دفع الجزية وألمحوا إلى أن فرضها عليهم سيغير من ولائهم الذي محضوه للدولة “, فقبل عمر حجتهم وأسقط عنهم الجزية, لأن مقصودها هو هذا الولاء. وهناك أمثلة أخري عديدة لمسائل واجتهادات مماثلة, تؤكد أن كبار المشرعين من السلف الصالح نهجوا نهجاً مختلفاً (هو, فيما أرى, منهج الكتاب والحكمة, وقد بسطتُ في شرحه كما أراه في ورقة قُدمت لورشة الدين في المجتمع المعاصر, يناير 2004, وفي مقالات نشرتها صحيفتا الأيام والسوداني, عام 2006 ).

الشاهد هو أن أهم مواد الدستور الإسلامي المقترح, المتعلقة بالهوية, تستند إلى رؤية وفقه يناقض العلم والتجربة الإنسانية, ولا يتفق, لدى التدقيق, مع موروث السلف في ارتباط الأحكام بمقاصدها, وليس له أساس في الوجدان والتربة السودانية. هذا فيما يتعلق بطبيعة الفكر.

إجابات الماضي لا تحل اشكالات الحاضر

ذكرتُ في المقالين الماضيين إن الخرطوم تُعد الآن دستورها الإسلامي الدائم, وإن هذا الدستور عرًف البلاد على أنها (دار إسلام), وفقاً لتقسيم الفقهاء الديار إلى دار إسلام ودار حرب. وأوضحتُ أن هذا التعريف بصيغته التي جاء بها ينتسب إلى المدرسة السلفية, وأن هذه المدرسة لا تعبر عن الوجدان السوداني الإسلامي لأنه نشأ على الصوفية, ولأن السودان تأريخياً (دار صلح), ولكن بالإضافة إلى ذلك تعاني هذه المدرسة من اشكالات معرفية وتطبيقية, ستنتقل إلى الدستور, بوصفه مرآة للمدرسة الفكرية والسياسية التي تصنعه.

أود أن أذكٍر بأنني عندما أشير إلى السلفية هنا فإنني أقصد البنيات الفكرية العميقة, والإرث الثقافي والتأريخي الذي شكل المنظور والوعي السلفي, والذي يدور حول محور واحد هو نهاية التأريخ والتطور بنهاية البعثة المحمدية. ولكن هذه الدائرة السلفية, وإن كان مركزها واحداً, إلا أنها تضم أقطاراً متعددة, فهناك مجموعات من المنتسبين إليها تدور قريباً من محورها, ويشكلون نواتها الصلبة (hard core), وهم في الغالب من المنتمين للتحالف القطبي – الوهابي والسلفية الجهادية. وهناك مجموعات تدور في قطرها الخارجي الأقصى, يلتقون مع الآخرين في صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان, ولكنهم يعتمدون أساليب (مدنية) في تطبيقها, وهذه هي السلفية الإصلاحية. بين هاتين المجموعتين سلفية متشددة تتفق في الأكثر مع النواة الصلبة ولكنها قد تأخذ من الأخرى.

ويقوم هذا التعريف على المقياس الخماسي التصاعدي لخصائص السلفية الذي أشرتُ إليه في المقالة الماضية, ومكوناته هي: التقليد؛ ورفض الاجتهاد؛ والإكتفاء بالذات؛ وولاية علماء الدين؛ واللجوء للقوة والعنف وسيلة لأخذ الناس إلى الشريعة. كلما انتقل المرء من أول هذه القائمة نحو آخرتها, وكلما اتصف بالمزيد من مكوناتها, كلما انتقل من السلفية الاصلاحية, إلى المتشددة, إلى الجهادية المتطرفة.

وهذه التيارات الثلاثة ممثلة وفاعلة في الساحة السودانية, فيسعى التيار السلفي الاصلاحي إلى تحقيق صيغة معاصرة للشريعة, ويلتزم بالديمقراطية وسيلة لذلك, ويرفض العنف, وولاية علماء الدين. ويقف على رأس هذا التيار الطيب زين العابدين, وعبد الوهاب الأفندي, والتيجاني عبد القادر, وحسن مكي, ومحمد محجوب هارون, وعثمان ميرغني, وخالد النور التيجاني, ومن الشباب مكي المغربي, من بين آخرين لم تتح صرامة الأطر التنظيمية تعريف الرأي العام بهم.

أما التيار السلفي المتشدد فهو المدرسة الفكرية للانقاذ, وعلى رأسها حسن الترابي, وعبد الرحيم علي, وغازي صلاح الدين, وأمين حسن عمر, وابراهيم أحمد عمر, ومعهم شخصيات مثل جعفر شيخ إدريس, من بين آخرين, ويدعو هذ التيار للحاكمية في صيغتها القطبية, ويجيز استخدام القوة لأخذ الناس إلى الشريعة, ولكنه يتحفظ على ولاية علماء الدين, على الأقل حسن الترابي. وهو قابل للتحالف مع التيار السلفي الجهادي.

ويشمل التيار السلفي الجهادي تنظيمات: هيئة علماء السودان, وجماعات أنصار السنة المحمدية, والرابطة الشرعية للعلماء والدعاة, ومنبر السلام العادل, ولجان تزكية المجتمع, ومجمع الفقه الاسلامي, وحزب التحرير, وجماعات الأخوان المسلمين السودانية ( جماعة الاخوان المسلمين المصرية صارت أقرب إلى التيار الاصلاحي اليوم), من بين جماعات أخري. ويقود هذا التيار علماء دينين من بينهم, أحمد علي الإمام,الأمين العام لمجمع الفقه الاسلامي, ومحمد عثمان صالح, الأمين العام لهيئة علماء السودان, وعبد الحي يوسف, نائب الأمين العام لهيئة علماء السودان, والأمين الحاج محمد أحمد, رئيس الرابطة الشرعية, ومحمد عبد الكريم أمينها العام, ضمن آخرين.

وعلى الرغم مما قد يظهر على بعض هذه المجموعات من طابع دعوي إلا أنها جميعاً تشارك في العمل السياسي بأشكاله المختلفة, بما في ذلك تسيير المواكب وتنظيم المظاهرات والليالي السياسية, وعقد المؤتمرات الصحفية. وقد برزت معظم هذه الجماعات والتنظيمات إلى الواجهة بعد المفاصلة التي أبعدت الترابي, حيث سعت لأن توفر للمجموعة الحاكمة السند السياسي الديني, ولقياداتها السند النفسي الذي كان يوفره الترابي. وتنطبق على هذه الجماعات مكونات المقياس الخماسي جميعها. وهذا التيار الأخير هو الذي يتولى الآن اعداد دستور السودان.

ولذلك فإن المسائل لن تتوقف عند اعتبار السودان دار إسلام, وحسب, وإنما سيعكس الدستور والقوانين والممارسات التي ستترتب عليه أيضاً الإشكالات المعرفية والعملية الأخرى لهذ التيار السلفي, وأهمها الجمود الإجتماعي, والتبعية الحضارية. فوسيلة السلفية للرجوع للكتاب والسنة وإحياء تراث السلف الصالح تقوم على استرجاع وإعادة انتاج نموذج دولة المدينة بحذافيره. دون اعتبار لأن ذلك النموذج يعكس وجه مجتمعه هو, بأسئلة وقته ومكانه. والدليل على ذلك الآيات القرآنية التي تفيد هذه الأسئلة, ومنها: “يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج” (189البقرة)؛ و”يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه” (217 البقرة)؛ و”يسئلونك عن الخمر والميسرقل فيهما إثم كبير” (219 البقرة)؛ و”ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن” (127 النساء) .. إلى آخر الآيات.

فالشريعة هي جملة الإجابات على هذه الأسئلة, المطروحة بالمقال أو بواقع الحال, وهي مرآة لاهتمامات وقضايا عصرها. وبتحليل الموضوعات التي عالجتها أحكام الشريعة يتضح أن قضايا المجتمع آنذاك تركزت حول نشر عقيدة التوحيد الجديدة؛ ومحاربة الجريمة والإقتتال القبلي؛ وتنظيم مسائل الأحوال الشخصية؛ وضبط المعاملات المتعلقة بسبل كسب العيش السائدة.

وقد كانت إحدى النتائج الخطيرة لإنكار تأريخية المجتمعات, وتأريخية الأحكام التي تتناول قضاياها, أن العلماء السلفيون أوقفوا جهودهم على بحث قضايا المجتمع الاسلامي الأول, وتفصيل موضوعاته, وتقديم ذات الاجابات على أسئلته الأولى للمجتمعات اللاحقة. فكتب الأحكام تشرح قضايا نشر العقيدة, بدءاً بكتاب الفرائض من صلاة وزكاة وصيام واعتكاف وأدعية, وحتى كتاب الجهاد وأحكامه. ثمّ تتناول مسائل الأحوال الشخصية من نكاح, وطلاق, ورضاع, ولباس, واستئذان, ووصية, وعتق, وما شابهها. ثم تنتقل إلى الحدود من زنا وقذف, وسرقة, وقطع طريق, وشرب خمر, إلى الديات والقصاص. ثم تتناول شئ من مسائل القضاء مثل المكاتبة ومثلها من البيوع.

وقد كانت هذه الموضوعات هي كل أو جلّ ما عالجه, على سبيل المثال, الإمام مالك بن أنس في (الموطأ), والإمام الشافعي في (أحكام القرآن).وعلى الرغم من أنهما كانا ينقلان بهذه الموضوعات مجتمعات القرن الثاني الهجري إلى مستويات ارفع في أنماط تنظيم المجتمع ووسائل ادارته, وإلى مراقي أعلى أخلاقياً وسلوكياً. ولكن هذه الموضوعات هي التي ظلت تشغل مفكري التيارات السلفية جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا.

على سبيل المثال يتناول إثنان من الكتب الثلاثة التي حصلت عليها للدكتور أحمد علي الإمام, الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي, موضوع الجهاد. ويقدم الدكتور للكتاب الذي حمل عنوان: “نظرات معاصرة في فقه الجهاد” والذي قال إن أصله رسالة بعنوان “المرشد إلى الجهاد”, كان تداولها المجاهدون, يقدم للكتاب بقوله: “أما بعد فهذه نظرات معاصرة في فقه الجهاد في سبيل الله, أوجزنا فيها ما تمس الحاجة إليه من أحكام الجهاد مع بيان فضائله .. وقد آن الأوان وأذن مؤذن الفلاح يدعو المخلصين للجهاد, بعدما أنقذنا الله تعالى وولى علينا خياراً منا من رجال الإنقاذ الوطني” (ص 8).

وللشيخ الأمين الحاج محمد, رئيس الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة انتاج غزير من الكتب يتناول أيضاَ الموضوعات ذاتها, وتحمل كتيه عناوين مثل, “دليل الأئمة والمؤذنين..”؛ و”أحكام الرهن”؛ و”لباس المسلم رجالاً ونساء”؛ و”أحكام الذبائح في الإسلام”؛ و”التجسس متى يحل ومتى يحرم”؛ و”الأضحية: تعريفها وما يُجزى فيها”؛ و”حكم البيع بالتقسيط”..الخ. وله كتاب بعنوان: “العلم.. فضله – طلبه” يقول فيه إن “العلم الواجب على المرء تعلمه هو ما يحتاجه المسلم من العلوم الشرعية وما يتعلق بها من معرفة اللغة العربية” ويورد في هذ الموضع أبيات الإمام الشافعي: “كل العلوم سوى القرآن مشغلة/ إلا الحديث وعلم الفقه في الدين/ العلم ما كان فيه قال حدثنا/ وما سوى ذلك وسواس الشياطين” (ص 38)

وتحمل ستة من كتب عبد الحي يوسف التسعة التي صدرت عن “شبكة المشكاة الإسلامية” العناوين التالية: “فتاوي العقائد والمذاهب”؛ “فتاوي المعاملات”؛ “فتاوي الأسرة والزواج”؛ “فتاوي الطهارة والصلاة”؛ “فتاوي الآداب والعادات”؛ و”فتاوي الصيام”. وله ثلاثة عناوين في السياسة أحدها: “الدولة في الإسلام” سأتناول بعضاً مما جاء فيه في حينه.

وهذه الأمثلة تؤكد صحة مقولة للترابي نقلها الصحفي السر سيد أحمد, في ندوة عامة في مركز الخاتم عدلان, يوم 20/4/2011, ذكر فيها إن الترابي في زيارة له إلى لندن أوائل التسعينات قال, إن الإجابات التي يقدمها الفقه الإسلامي لا تخاطب أكثر من 25% من مشاكل الدولة السودانية المعاصرة. فإذا كان ذلك هو حال السلفية المتشددة, في دائرتها الأوسع قليلاً من السلفية الجهادية, فمن المؤكد أن الحال أضيق مع هذه الأخيرة.

وللمقارنة, ولتبيان الفجوة بين حياة المسلمين السودانيين, كما تتصورها السلفية, وبين الإطار المعاصر المتاح لهم نظرياً, أورد هنا بعضاً من عناوين مواد الباب الثاني من دستور جمهورية السودان الإنتقالي, التي جاءت على النحو التالي: الحياة والكرامة الإنسانية/ الحرية الشخصية/ الحرمة من الرق والسخرة/ المساواة أمام القانون/ حقوق المرأة والطفل/ الحرمة من التعذيب/ المحاكمة العادلة/ الحق في التعليم/ المجموعات العرقية والثقافية/ الخصوصية/ حرية العقيدة والعبادة/ حرية التعبير والإعلام/ حرية التجمع والتنظيم/حرمة الحقوق والحريات.. الخ.

إلى هذه الموضوعات يمكن إضافة قائمة طويلة أخرى من قضايا (العولمة) التي تواجه الدول والمجتمعات المعاصرة, من التي تقع خارج اهتمامات السلفية ولكنها تؤثر تأثيراً بالغاً على حياة المسلمين, كالإحتباس الحراري, والتحديثات التقنية المتسارعة؛ وثورة المعلومات؛ والأشكال الجديدة من الانتاج المرن للسلع عبر العالم؛ والتمدين الفائق؛ وانهيار نظام بريتون وودز؛ وبروز الثقافة إلى الواجهة, من بين قضايا عديدة أخرى.

وللتعامل مع هاتين القائمتين الأخيرتين ومع القضايا الأخرى التي لاتدخل في المجالات التي عالجتها الشريعة يستخدم الفقه السلفي أداة (القياس), وهو الشكل الوحيد من أدوات المعرفة السلفية الذي يمكن أن يتجلى فيه الرأي والعقل. ويقوم القياس على إلحاق المستجد من الأمور بالمنصوص عليه منها, بعد استنباط العلة الكامنة في المنصوص, والتأكد من وجودها في هذا الأمر المستجد.

ولكن القياس يعاني إشكالاته المنهجية أيضاً, وأولها التبعية, بمفهومها الحضاري وليس بالضرورة السياسي. لأن القياس لا يشتغل إلا بأثر رجعي, ينتظر النوازل, والمحدثات,واختراعات الآخرين ليلحقها, بأشباهها. وبالتالي بدلاً من أن تكون مهمة النصوص سبق الواقع, وتوجيه حركة التأريخ, جعلت المجتمع حبيس الماضي. وبدلا من التحفيز على الابتكار والإبداع تحولت إلى أداة للإتباع.

بهذه الطريقة “تم تمرير وتسويق المفاهيم الرأسمالية”, وانسدت “المنافذ لأي محاولة جادة لبلورة مذهب إسلامي أصيل في التنمية الاقتصادية”, كما يقول الدكتور التيجاني عبد القادر ( الأحداث 16/4/2011). ولهذه الأسباب صار من المألوف أن يكتشف لنا الأوربيون القرآن الكريم ! على سبيل المثال لما طالب الإمام محمد عبده الخديوي توفيق باشا بـإنشاء مجلس نيابي وتعميم التعليم في القطر المصري, قال محمد رشيد رضا ” لولا اختلاطنا بالأوربيين لما تنبهنا من حيث نحن أمة أو أمم إلى هذا الأمر العظيم, وإن كان صريحاً جلياً في القرآن الكريم”!

هذه الفجوة بين التصور السلفي والإطار المعاصر لحياة المسلمين, كانت لها تبعات أخرى, فانتهت أحياناً إلى إثارة أوتضخيم مشاكل ليس لها هذا الحجم إلا في التصور, بينما تًركت مشاكل أخرى حقيقية لأنها خارج التصور. فيتم التركيز, مثلاً, على قضايا عفة النساء, برغم أن المجتمع السوداني ككل مجتمع محافظ, بينما لا تجد أثراً أو جهداً في قضايا الفقر.

فهذه جملة من الإشكالات المعرفية العامة, تطرح فيها السلفية إجابات الماضي حلولاً لمشكلات الحاضر, وتحكم علي المجتمعات الإسلامية بالجمود والتبعية لغيرها, وتضعها في دائرة التأزم, وتعرضها بالتالي لخطر الإبادة الثقافية بسنن الهجر والتغيير.

الحرية .. شرط النهضة والتقدم

تناولتُ في المقالات الماضية الأخبار التي تتناقلها دوائر واصلة عن دستور يتم اعداده الآن, يُعرِّف السودان على أنه: (دار إسلام, تتحدد هويتها وطبيعة الانتماء إليها على هذا الأساس), وذكرتُ إن هذا التعريف ينتسب بجذوره الفكرية إلى المذهب السلفي الجهادي, وناقشتُ الإشكالات المنهجية العامة المرتبطة بذلك الفكر, وتبعاتها التي ستنتقل, بصلة القربى, إلى الحياة الدستورية والقانونية. وسأتناول في هذا المقال تعامل هذا الفكر مع قضايا السودان على وجه الخصوص.

فقد أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي, في عام 2004, “تقرير التنمية العربي الأول”, الذي أعدته, بناءاً على دراسات ميدانية متعمقة, مجموعة مرموقة عالية التأهيل من المتخصصين في قضايا التنمية. وأثارالتقرير لدى صدوره ضجة ودوياً هائلا, واستقبلته الحكومات العربية والإسلامية المحافظة بامتعاض واستياء شديدين. كان السبب في الدوي, من جهة, والامتعاض والاستياء, من الجهة الأخري, أن التقرير عزى التخلف في العالم العربي لثلاث نواقص: الحرية, والمعرفة وحقوق المرأة.

والحقيقة أن التجربة الانسانية أكدت على مدار التاريخ أن البشر لا يتطلعون في حياتهم فقط للرفاه والنعيم المادي, وإنما يسعون بذات القدر أيضاً لإشباع الجوانب المعنوية والروحية الكامنة في الحرية والاحترام, واكتساب المعرفة بالحياة, والتمتع بالجمال, وتحقيق الاعتراف بالذات من خلال المشاركة الفعالة في كافة مناحي الاجتماع البشري.

وأكدت التجربة أيضاً ألا بديل للحرية إطاراً لبناء المجتمعات, ولتقدمها الاجتماعي والاقتصادي, فهي المحفز الأول لزيادة الامكانات, والمفجر الأهم لطاقات وقدرات الإنسان. وهي التي ترفع من درجة مشاركة الناس, وتعزز دورهم الأيجابي على كافة المستويات. .

وخبرة التأريخ البشري القديم والمعاصر تعيد التأكيد مرة بعد أخرى أن الأنظمة والمجتمعات التي تسلب الناس حرياتهم, تحكم على نفسها, في الواقع, بالدمار. لأنها تسلبهم مكامن القوة وينبوع الإبداع والابتكار, فلا يعودون قادرين على الحفاظ حتى على المنجزات التنموية التي حققوها. وما حلّ بمشروع الجزيرة, وسكك حديد السودان, وصناعة النسيج .. لهو أبلغ دليل.

مع كل هذا الذي ذكرتُ من التجارب التي هي تجليات لسنن أودعها الله في خلقه, ومع كل الآيات القرآنية القطعية في دلالتها على الحرية : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر), مع كل هذا إلا أن الحرية بمعناها المتعارف عليه اليوم, بوصفها منظومة حقوق الانسان, أي الحريات المدنية والسياسية, والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية – ليست أصلاً في الإسلام لدى معظم مفكري السلفية.

بالطبع لم يستطع القادة المعاصرين لهذا التيار تجاهل قيمة بهذا القدر من التأثير. فنشر الترابي في كتابه (قضايا الحرية والوحدة, الشورى والديمقراطية, الدين والفن), محاضرة كان قدمها من قبل, اعتبر فيها الحرية “أكثر الأسئلة إلحاحاً في عملية البناء الحضاري” .. “لأن الحرية في أصل العقيدة الدينية هي قدر الإنسان الذي تميز به عن كل مخلوق سواه” (ص 10).

كذلك تناول الدكتور عبد الحي يوسف قضية الحرية في كتابه: (الاستبداد السياسي في ضوء القرآن والسنة) قائلاً: “إن المتأمل في تعاليم الإسلام ونظمه يرى أنه لا يمكن أن تتحقق كرامة الأنسان إلا من خلال إقرار حريته”, ويضيف, “والحرية التي يقررها الإسلام .. هي حرية تامة تشمل جميع أوجه نشاط الإنسان وكافة أحواله”, ثم يقدم نماذجاً من المجالات التي تشملها الحرية فيقول إنها تشمل: الحرية الشخصية, وحرية الاعتقاد, وحرية التفكير, وحرية النقد والمعارضة, بما في ذلك الحرية السياسية والمشاركة في اختيار الحاكم” (ص 253 – 273).

ولكننا سنرى أن د. الترابي ود. عبدالحي حتى بعد أن اعتبرا الحرية أصلاً في الإسلام, فقد فهماها وقدماها للناس, (وطبقها الترابي), بصورة تنسف أركانها التي ذكرناها من الأساس. لانهما معاً يشترطان تطبيق الشريعة إطارأ لها (سأعود لصيغتهما من الشريعة بعد قليل). بمعنى أنهما وجماعتيهما يتخذون مسبقاً قراراً (لا خياراً) يفرضونه (لا يعرضونه) على الناس بوسائل أخر, وهوسنفرض عليك الشريعة لتحصل على حريتك.

ويشرح كاتب سلفي آخر هذه المسألة, في تبسيط شديد, بقوله “إن الحكم في الإسلام يقوم عل الاختيار, نعم, ويقوم على الانتخابات, ويقوم على معايير واضحة تحقق العدالة للأمة, لكن عرض كل شئ على الشعوب, حتى مبدأ الإسلام وتطبيق الشريعة, هذا ليس من الإسلام في شئ, فما دام المسلم قد اختار الإسلام, ورضي أن يكون مسلماً فليس له اختيار أن يقبل بدين الله يحكم أم لا, ليس له اختيار بعد ذلك أيحكمه القرآن أم يحكمه القانون الفرنسي ولا الهندي, ليس له اختيار” ..!؟ (د. الشيخ محمد عبدالكريم, جريدة المحرر. 4/4/2011, علامات التعجب من عندي). ما لم يقله الشيخ محمد عبد الكريم إنه بهذا يحتكر الخيار لنفسه, ويفرض مايختاره على الآخرين.

وهذا الذي يقوله الكاتب, هو الموقف الفكري والسياسي الرسمي لكل طبقات السلفيين المتشددين والجهاديين, وهو المثال الكلاسيكي لتجربة ظلت تتكرر عبر التأريخ: فدائماً ما كانت أبشع أنواع الإستبداد نتيجة لما يفرِضه على أخوته البشر من يعتقد بأنه الأعرف بما ينفعهم.

فإذا انتقلنا خطوة للأمام وفحصنا صيغة هذه الشريعة (المفروضة) لدى الترابي, لما وجدنا أصدق من فترة السنوات العشر 1989 – 1999, التي كان فيها الترابي هو عرّاب النظام وعقله المدبر, بدءاً بالإعداد للانقلاب, لتعطينا نموذجاً لمعنى الحرية الذي يعنيه. فهذه السنوات, بسجل حقوق الإنسان, هي الأسوأ في تاريخ السودان في المئتي سنة الماضية, وتأتي, في تقديري, مباشرة بعد حملات الدفتردار, حوالي منتصف القرن التاسع عشر.

ولكن الدستور الذي يجري إعداده الآن هو ,كما سبق ورأينا, أقرب لفكر الشيخ عبد الحي منه للشيخ حسن. وقد فصّل د. عبد الحي تصوراته للحريات التي اعتمدها (وأوردتُها في الفقرة قبل السابقة), في كتبه العديدة, والتى سنتعرف منها على ما يعنيه بحرية الإعتقاد والحرية السياسية. يقول د. عبد الحي في كتابه: (الدولة في الإسلام), إن من واجبات الدولة الإسلامية “منع العقائد الباطلة” ويدخل فيها “القول بعدم حجية السنة والاستغناء عنها بالقرآن .. وبدعة التشيع والرفض .. واستكتاب القساوسة في [الجرائد السيارة] لنشر باطلهم بين عوام المسلمين” (ص 59).

ويضيف في كتبه الأخرى لما سبق: “أنه لا يجوز لعبد يؤمن بالله واليوم الآخر الإنضمام للحركة الشعبية”, وأن “الجمهوريين فرقة مارقة من دين الإسلام لا يحل لمسلم أن يتزوج من نسائهم”, وأن الدعوة للتقارب بين الأديان هي مساواة بين الحق والباطل, ونهى عن مصادقة غير المسلمين.

ويحرِّم د. عبد الحي عمل السودانيين بالأمم التحدة, وتأجير المنازل للعاملين بها. ويحرِّم الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال, ولباس المرأة للبنطال (لأنه تشبه بالنساء), والاختلاط, والاستماع للموسيقى والمعازف, (بما في ذلك نغمات الموبايل), وكرة القدم (ما لم تتخلص من اللباس الذي يظهر معه الفخذ, ومن صفارة الحكم, لأن الصفير منكر يتنزه عن مثله العقلاء).

في الواقع انصب معظم الجهد الفكري والعملي لدائرتي السلفية الجهادية والمتشددة, في السودان, ليس على محاربة الفقر, أو التصحر, أو النزاعات المسلحة, وإنما على محاربة الحرية والديمقراطية والداعين لها. فمنذ أن رفع أستاذا الجامعة الإسلامية: الأمين داؤود محمد, وحسين محمد زكي, للقاضي توفيق أحمد الصديق قضية حِسبة ضد الاستاذ محمود محمد طه في عام 1968, أضحت الأدوات الدينية هي وسيلة هاتين الدائرتين في الصراعات السياسية. وبينما كانت هذه الممارسات محدودة متفرقة, لطابع الدولة المدني أنذاك, اتسعت دائرة استخدامها مع حلول التسعينات لكي تشمل قطاعات واسعة من المجتمع.

فبعد إعدام الأستاذ محمود محمد طه في الثمانينات, دخلت, في عقد التسعينات, مادة (الردة) إلى القانون الجنائي, والتي كان أقل ما فعلته أن دفعت كثيرين نحو رقابة ذاتية مكبلة للفكر والقول, وأغتيل الفنان خوجلي عثمان، وجرت محاولة لاغتيال الفنان عبد القادر سالم، كما تمَّ تكفير وقتل مصلين من أنصار السُّنة في مساجد مختلفة. وفي يونيو 2003 أصدر د. الحبر يوسف نورالدائم, الاستاذ المعروف بجامعة الخرطوم, وصادق عبدالله عبدالماجد, واثنتا عشر آخرين من بينهم قادة تنظيمات سياسية, اصدروا فتوى بتحريم الإنضمام للجبهة الديموقراطيَّة بالجامعات، أو لأي من “أحزاب ومعتنقي الديمقراطيَّة والإشتراكيَّة والموالين للنصارى”.

وفي العام ذاته أهدر متطرفون دم المرحوم د. فاروق كدودة (استاذ جامعي ماركسي), والنيل أبوقرون (قانوني, مايوي), والحاج وراق (كاتب وصحفي), والشيخ عبدالله (صوفي, اتحادي), ود. حيدر ابراهيم (أستاذ جامعي وكاتب), وعصمت الدسيس (ناشط سياسي, حزب الأمة), وكمال الجزولي (قانوني وكاتب, شيوعي), ومحمد فريد (وكيل النيابة), وايلي حداد (رجل أعمال قبطي), والطاهر حسن التوم (إعلامي إسلامي). وكُفر فيما بعد ياسر عرمان (الحركة الشعبية), وحسن الترابي نفسه.

وقال الطاهر حسن التوم في لقاء اجرته معه جريدة الصحافة, “إنه كتب عن الجماعات المتطرفة والتطرف بصورة عامة, وعن حرق معرض الكتاب المقدس”, ومما كتبه أن “بعض هذه الجماعات تستغل شعبية بعض علماء الدين و[تمارس] الإرهاب على المجتمع من تحت عباءات هؤلاء العلماء”. وقال “إنه كان يشير بالتحديد إلى د. عبد الحي يوسف”.(الصحافة 17/6/2003). وقال فاروق كدودة إن مما لاحظه أن القائمة, التي قالت الجماعة إنهم “سبب بلاء الأمة”, تضم كافة ألوان الطيف السياسي والاجتماعي, وترقى إلى تكفير المجتمع بأكمله.

وامتدَّت ظاهرة التكفير في السنوات الأخيرة، لتتتجاوز الأفراد، ولتشمل تنظيميَّات وتوجهات فكرية بأكملها. فأصدرت الرابطة الشرعية بياناً حرمت فيه الانخراط في الأحزاب الشيوعية والعلمانية والديمقراطية لأي غرض من الأغراض.. سواء في الجامعات أو المعاهد العليا.. أوفي الأحزاب الجماهيرية.. مشيرة إلى أن من انتسب لحزب علماني .. فقد ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام ولا تقبل له صلاة أو صيام” (المحرر 21/3/2011).

ليعذرني القارئ والقارئة إن أطلتُ في تفاصيل الظاهرة, أردتُ بعرض هذا السجل المؤسف للحريات أن أقول فقط إن الفكر الذي يعد الدستور الآن يقف على النقيض من وظيفة الدستور. فالهدف الرئيسي والأهم من كتابة الدستور, أي دستور, هو حماية حقوق وحريات المواطنين أمام الاستخدام المتعسف للسلطة من قبل الحكام الذين فوضهم هولاء المواطنين للحكم نيابة عنهم, بالحد من هذه السلطة وتنظيمها. ولكن بمثل هذا الدستور تصبح الحرية مستهدفة من سلطتين: سلطة الحكام وأجهزة الدولة غير الديمقراطية, من جهة, وسلطة السلفية المتدثرة بالأحكام الدينية, من الجهة الأخرى.

لنعد إلى قائمة النواقص التي بدأتُ بها هذا المقال, وقلتُ إن تقرير التنمية وجد أنها السبب في تخلف بلداننا. فقد ذكر التقرير نقص المعرفة تالياً, وهو لصيق الصلة, رديف لأوضاع الحرية, لأن الحرية هي ايضاً الشرط الأساسي والأول لقيام مجتمع العلم والمعرفة, الذي لن تكون بدونه نهضة ولا تقدم ولا تنمية. والحديث هنا ليس عن حرية البحث العلمي, فحسب, ولا عن استقلال الجامعات وديموقراطيتها, فقط, ولكن عن حريات الرأي والتعبير والتنظيم أيضاً.

كذلك لن تطمح النساء في بلادي – في ظل دستور سلفي – أن يحصلن على الحقوق التي نص عليها حتى الدستور الانتقالي القومي لعام 2005, وحتى إذا كان القانون سيأخذ بالشمال ما يمنحه الدستور الجديد باليمين, كما فعل مع الدستور الآيل إلى الانتهاء. فالدستور الانتقالي يتحدث عن المساواة بين الرجال والنساء وذاك تابوه (taboo) من عيار ثقيل على السلفيين. إذ تُقرأ المادة (31-1) من الدستور: “تكفل الدولة للرجال والنساء الحق المتساوي في التمتع بكل الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية..). وتُقرأ المادة (31) “الناس سواسية أمام القانون.. دون تمييز بينهم بسبب العنصر أو اللون أو الجنس..).

فهذه حزمة أولى من قضايا التنمية في السودان, تتصدرها الحرية وحقوق المرأة, لم يملك الفكر السلفي في التعامل معها إلا الحبس. ولكن “الحبس يفتك بالغث والسمين على حدٍ سواء, ولا يقل عن انتحار جماعي, فكرياً وأخلاقياً” كما قال جون ستيوارت ميل.

التنوع .. ينبوع الفرادة والابتكار

أذكر القراء بأنني تناولت في مقالي السابق موقف الفكر السلفي من نواقص التنمية في بلادنا, كما جاءت في تقرير التنمية العربي الأول الذي حصرها في مجالات الحرية والمعرفة وحقوق المرأة, وخلصت إلى أن (تيارات العمل السلفي) التي تقوم الآن بإعداد الدستور, والتي عرّفت السودان بأنه (دار إسلام, تتحدد هويتها وطبيعة الانتماء إليها على هذا الأساس), لا تمتلك رؤية إيجابية للتعامل مع هذه المجالات التي تُعتبر شروطاً لا بديل لها للنهضة والتقدم. واليوم انتقل إلى حزمة أخرى من قضايا السودان هي المتعلقة بالتنوع في مجالاته المختلفة, الثقافية والعرقية والدينية .. وتدور هذه أيضاً حول مجالات ثلاثة هي: الهوية, والمساواة, والمشاركة.

فقد نشأتُ في منطقة في جنوب الجزيرة كان سوقها الريفي هو سوق (ود الحداد) الحالي, كنت أذهب إلى ذلك السوق, مع غيري من الأطفال, حتى من قبل أن نلتحق بالمدرسة الأولية, التي لم تكن تبعد كثيراً عنه. وبرغم حداثة السن لم يكن ليغيب عن الأعين (تلوّن) ذلك السوق. كان (يوم السوق) يبدأ باكراّ بالسودانيين من أصول غرب أفريقية, فيمتلئ بنساء وطفلات يبعن (الطعمية واللقيمات والدكوة), ورجال يحملون صفائح الطماطم, تسيطر سحناتهم ولغاتهم على طابع السوق حتى حوالي التاسعة صباحاً, حينما يمتلئ السوق فجأة بأهلنا من (الحلب) الحدادين.

كان هولاء فيما مضى قوم متنقلون, يصنعون ويبيعون أدوات الزراعة من (طواري وجرايات) وغيرها, ثم استقر بعضهم في البلدة, يمارسون ذات المهنة وأيضاً التجارة في سوق المواشي خاصة (الحمير). في تلك الساعة كانوا يبدأون يومهم التجاري, فيمتلئ السوق بهم, بلونهم المميز, و(عراريقهم الساكوبيس), والطواقي الحمراء و(المراكيب) الجلدية, وضجيج نسائهم..

ولكن بحلول الساعة الحادية عشر تكون لواري (الضهرة) وبنطون الشرق قد وصلت, فيفور السوق بـ(عرب الضهاري) وأهلنا الكواهلة الريفيين. ويتميز هولاء الأخيرين بقاماتهم الفارعة, و(عراريق) الدمورية السميكة, والسراويل الطويلة, والطواقي, وجميعها يعلوها الغبار. يضعون على كتوفهم, في العادة, (شوال) مطبق بالطول, للتسوق, ويستكشفون ما حولهم بنظرات (طويلة), حذرة, من أثر الحياة في البادية..

ثم يأتي (المستخدمون), كما كان يُسمى الموظفون, حوالي الثانية. خليط من كل أنحاء السودان, يملأون السوق بـ(الافرولات), والكاكي, والبنطلون والقميص العادي, من عمال الري والسكة حديد والمدرسين.., يحملون (نوتة الجرورة لآخر الشهر) في جيوبهم..وشيئاً من علامات الرضا (آنذاك), والسلطة, والاعتداد بالذات, في وجوههم.

ويكمل المشهد, نهاية يوم السوق, أهلنا الدينكا, الذين يقطنون حياً كاملاً في البلدة يُسمى (ابيي), يأتون في ذلك الوقت المتأخر من النهار, بعد أن يكونوا أكملوا (يومياتهم) في المعمار أو الزراعة, مستفيدين من جزع البائعين من بوار ما تبقي من سلعهم القابلة للتلف, فيبيعونها لهم بأي سعر..!

ولكن عندما ذهبنا إلى المدرسة اختفى كل أثر لهذا الصورة البديعة في المنهج الذي كنا ندرسه, ثم اختفى من تصوراتنا أيضاً. لم نعد نعلم إلا أن السودان بلد عربي مسلم. ثمّ على أعتاب الجامعة عرفنا أنه لازالت هناك (جيوباً) أو (فراغات) غير مسلمة, يعمل حكامنا البررة على تعريبها وأسلمتها, لتحقيق الوحدة الوطنية الكاملة..! وقد احتاج الأمر لحروب أهلية استمرت عقوداً لاستعدال التصور المقلوب, واستعادة الصورة الأولى, صورة الواقع السوداني المتنوع كما في سوق ودالحداد, ولكن, كما اتضح الآن, بعد فوات الآوان, وأيضاً لفترة قد تكون قصيرة.

منذ ذلك الوقت تكاد الدراسات السودانية, سواء تمت على يد السودانيين أنفسهم, أو لمهتمين بالشأن السوداني من غيرهم, تكاد تجمع على أن مشكلة المشاكل في السودان تكمن في الفشل في إدارة تنوع السودان الثقافي. يقول الدكتور الطيب حاج عطية في محاضرة نظمها, 2010, معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم, بعنوان: خيارات للمستقبل عند مفترق الطرق, “لقد تضافرت مسببات مختلفة ومتعددة في أن تفشل الصفوات المركزية في إدارة التنوع والتعدد, أحد أهم المسببات الجذرية للنزاعات في السودان .. وتأتي على ذروة [المسببات] المفاهيم الخاطئة والظالمة أحياناً. فقد اتبع البعض مقولات نظرية البوتقة الاجتماعية التي تذيب الثقافات والمفاهيم المختلفة في مزيج عرقي وثقافي واحد”. أما المفهوم الخاطئ الآخر, بحسب عطية, فـ”يأتي من عدم اعتبار حق الجماعات الأخرى في الاختلاف”.

وفي محاضرة أخرى للمعهد, بعنوان “السودان في افريقيا: رؤية للمستقبل” قدمها, في يناير 2011 , ثابو امبيكي, قال المحاضر: “جزء من مأساة [السودان] طوال سنوات الاستقلال, وحتى التوقيع على إتفاقية السلام الشامل في 2005.. هو أن المجموعات الحاكمة في هذا البلد فشلت متتابعة في حل الاستقطاب القائم بين مركز وحيد والعديد من المناطق المهمشة”.

لم يكن هذا الفشل في إدارة التنوع لغياب المعارف, أو لعدم وجود طرائق في التجارب العالمية, فقد أدارت العديد من الدول تنوعها الثقافي بنجاح أوصلها إلى مصاف الدول العظمى, بعد أن اكتشفت أن كل واحدة من ثقافاتها المختلفة تعبر عن طريقة متفردة ليكون الإنسان إنساناً, ومن ثمّ منحتها الاحترام والتقدير والحماية كلما كانت موضع تهديد.

ومن تجارب هذه الدول وتجارب أخرى تبلور ما يلزم من مبادئ أساسية لتفجير الطاقات الخلاقة الكامنة في التنوع: أولها هوية وطنية تسع الجميع, ومساواة لا تظلم أحداً, ومشاركة في الشأن العام, بلا استثناء. بما يدخل في ذلك من ديمقراطية, وعدالة اجتماعية, وحريات ثقافية,. فإذا كان التطلع للحرية هو النزوع الطبيعي للمجتمعات الإنسانية, فإنه يصبح أكثر إلحاحاً إذا كانت هذه المجتمعات متنوعة ثقافياً.

وقد تبلور أيضاً ما لا يجوز في إدارة التنوع الثقافي: أول المحظورات هنا هي: أي نوع من الإيحاءات, في الدستور أو في غيره, بالشمولية أو العرقية أو المركزية الدينية أو الإثنية, وجميعها تعني تلك النظرة الاجتماعية التي ترى ’أن مجموعتنا الخاصة, الدينية أو الإثنية, هي مركز الأشياء كافة, والباقي يُقاس عليها’. لأن إدعاء أي ثقافة في دولة متعددة الثقافات بأن الله أو التأريخ قد خصها بميزات معينة على مساكنيها – كما بدا من الدستور قيد الإعداد- يقضي على أي أمل في تعايش مستقبلي بينها.

لكن الفكر السلفي, سواء في شكله التقليدي الذي كان سائداً في المناهج المدرسية, أو في أشكاله المتشددة والجهادية المتطرفة المتمكنة الآن, لا يعرف ولا يعترف بالتنوع الثقافي أو الديني أوغيره. يقول سيد قطب عن الأمة إنها “المجموعة من الناس تربط بينها آصرة العقيدة, وهي جنسيتها. وإلا فلا أمة .. والأرض والجنس, واللغة والنسب, والمصالح المادية القريبة, لا تكفي واحدة منها ولا تكفي كلها لتكوين أمة إلا أن تربط بينها رابطة العقيدة” (سعد, الأصولية العربية المعاصرة, 248).

والدولة, كما يرى السلفيون, هي شكل انتظام هذه الأمة (الإسلامية) في “سلطة قائمة بتطبيق نظام الشريعة في المجتمع الإسلامي” كما يعرفها حسن البنا (سعد, 168), لا تنفصل البتة عن الدين والشريعة. لذلك يعرِّف الدكتور عبد الحي يوسف الدولة “تعريفاً شرعياً” على “أنها ترادف في معناها الخلافة والإمامة”, ويستطرد “إذا كان أهل العلم يقولون: ’الخلافة, والإمامة العظمى, وإمارة المؤمنين, ثلاث كلمات معناها واحد..فلا بأس أن نضيف كلمة الدولة لتكون أربع كلمات بمعنى واحد” (الدولة في الإسلام, ص 15).

وبالطبع لا مجال للحديث في هذه الدولة عن ديمقراطية المشاركة, أو الحريات الثقافية, أو حقوق الأقليات, بل تصبح من واجبات هذه الدولة, كما يقول عبد الحي يوسف, حماية ثغورها ومن بين ذلك “جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة .. ببذل الجزية والاستسلام” (الدولة في الإسلام, ص 63).

ويحذر د. عبد الحي من التفريط في الدين بسبب الضغوط قائلاً “بفعل الدعايات الصليبية اليهودية .. على بلاد المسلمين المستضعفة وحكامهم المساكين حصل أهل الكتاب على ما لا ينبغي لهم من حقوق .. من ذلك بناء الكنائس في كل مكان بغير حساب [علمت من أصدقاء أقباط أنه لم يتم التصديق ببناء ولا كنيسة واحدة طوال سنوات الإنقاذ,وهذه إشارة من كاتب هذا المقال ليست في الأصل] وضرب النواقيس ساعة صلاة الجمعة, والمطالبة بعدد معلوم من المناصب القيادية في الدولة, وبنصيب مقدر في أجهزة الإعلام لبث باطلهم ونشر ضلالاتهم على جماهير المسلمين” (ص 161).

غير أن التأريخ والتجربة الإنسانية لا تسند مقولة سيد قطب أو عبد الحي من أن الدين هو أساس الأمم والأوطان. صحيح أن للدين تأثيراً في نشأة الأمم, ولكن هناك أمم, كالأمة الهندية, مثلاً, تتبع أدياناً مختلفة من بينها الإسلام, أما الذي يجمعها فهو الأرض, بما هي قوام الحياة ومرتكز التكوُّن النفسي والثقافي والتأريخي.

كذلك لم يكن الدين شرطاً لنشأة الأوطان أو الوطنية, لأن رابطة الدين لا تحل مكان رابطة الأرض. والدليل تصويت المسلمين الجنوبيين بما يصل للإجماع للإنفصال, منحازين لأبناء جلدتهم في الأرض والثقافة, بدلاً من إخوانهم في الدين في الشمال. كذلك من المعلوم أنه في غياب الحياة المدنية, وعندما يدرك الناس انكشاف ظهورهم, كما قال غازي صلاح الدين عن إخوته في الدين والحزب, في ورقة بعنوان “دعوة لإحياء العمل الإسلامي, يتجاوزون رابطة الدين سريعاً, ويهربون إلى قبائلهم وجهاتهم. (الصحافة 20/3/2005).

وهكذا نعود لما بدأنا به هذه المقالات, ولما أشار إليه د. الطيب حاج عطية حول “المفاهيم الخاطئة والظالمة أحياناً.. [و] نظرية البوتقة الاجتماعية التي تذيب الثقافات والمفاهيم المختلفة في مزيج عرقي وثقافي واحد”. ولكن حتى في هذه الحالة فإن البوتقة السلفية مواجهة بقضايا لا قبل لها بها, وبطبيعة فكرها لم تكن يوماً من أولوياتها, ولم تتوافر على دراستها. كما أن ما لديها من أطروحات لم يعد مقبولاً اليوم ولن يكون مقبولاً في المستقبل.

فلم يعد مقبولاً اليوم ولا ممكناً, ولن يكون مقبولاً مستقبلاً ولا ممكناً جباية (الجزية) من مواطن لأنه غير مسلم, كما يطالب بذلك عبد الحي يوسف, ولم يعد مقبولاً ولن يكون مقبولاً مستقبلاً منع المواطنين من اختيار أحزابهم الديمقراطية أو الإنضمام إليها, كما تدعو لذلك الرابطة الشرعية وآخرون, ولا أن تُفرض على أهل السودان هوية مجموعة واحدة دون مشاركة الآخرين ورضاهم, كما يريد ذلك منبر السلام العادل .. كل الذي يمكن أن تحققه مثل هذه المساعي هو تنفير الناس من الإسلام, وتقديم صورة لا إنسانية لدين اليسر والعلم و التفكُّر.

كما أن دستوراً منفصل عن سياقه الثقافي والإنساني, ولا يعبر عن واقعه المكاني والزماني, هو كائن بلا روح ولا فائدة. لقد كان شيوخ الصوفية الزاهدين وأتباعهم الخلوقين هم الذين نشروا الإسلام في سلطنات هذ المكان وأرجائه القصية, ونسجوا البلاد التي صار اسمها االسودان من حبات مسابحهم, بالتقوى والتسامح والتآلف والتآخي والتعافي والتراضي .. وحافظوا عليها (دار صلح), مكاناً للإلتقاء الإنساني العفوي, مفتوحة للجميع بالحسنى, دياراً للتجارة, والمجاورة, والمصاهرة, والمعاشرة, والتمازج بالرضا.

فالسلفية, سواء الجهادية المتطرفة أوأختها المتشددة, والتي تزعم لنفسها الحق في صياغة الدستورالدائم للسودان لم تقدم, بالحساب, للإسلام في السودان شيئاً, لا رقعة ولا عدداً, بل يشهد انفصال الجنوب على العكس من ذلك. ولن يزيد دستورها قيد الإعداد الواقع السوداني إلا خبالاً وتفرُّقا.

بينما يمثل وضع الدستور الجديد فرصة نادرة لاختيار أسلوب حياة كامل يرتقي بالوجود السوداني في كل جوانبه. والدستور الذي يؤطر (لـلدولة المدنية) هو المعادل الموضوعي (لدار الصلح) التي كانت عليها وجهة السودان التأريخية, وبنائه الوجداني, وليس الدولة الدينية التي يسميها فقه الفتح (دار إسلام), أو الشمولية العسكرية الكامنة في (دار الحرب).

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *