ضد جهاز الأمن !!
خالد عويس
17 فبراير 2011 — الثورات التي انتظمت المنطقة واقتلعت نظامي الرئيسين التونسي، زين العابدين بن علي، والمصري، محمد حسني مبارك، وتقض مضاجع الحكام في اليمن والأردن والبحرين وإيران وليبيا هذه الأيام خلّفت رُعباً هائلاً لدى قادة ومناصري ومؤسسات الإنقاذ.
قادة الإنقاذ يدركون جيداً أن ثورة الشعب السوداني قادمة، ولا سبيل أبداً إلى مجابهتها خاصةً بعد أن شاهد الشعب السوداني أجهزة أمنية أكثر مراساً وأشد بأساً تتهاوى في غضون ساعات أمام غضب الملايين. تعيّن على الإنقاذيين أن يحاولوا شراء الوقت بفتح قنوات حوارٍ مع بعض القوى السياسية وهم يعلمون أنهم لن يقدموا تنازلاتٍ مؤلمة ومطلوبة، ويدركون أن القوى السياسية تعي تماماً أن الحوار مع الإنقاذ، في مثل هذا المناخ الاستبدادي مضيعة للوقت.
الإنقاذ ترغب في كسب مزيدٍ من الوقت وهذا واضحٌ للغاية في سلوكها الحواري هذه الأيام، لكن هذه النزعة الطارئة، متزامنة مع هجمة شرسة على الحريات العامة والصحافية، ومع تنكيل بالغٍ من قبل جهاز الأمن بالخصوم السياسيين، يطرح سؤالاً كبيرا: لماذا ترغب الإنقاذ في كسب الوقت؟
الإجابة المنطقية الوحيدة هي أنها ليست مهيأة بعد لأي احتجاجات كبيرة في الشارع. الأكيد أنها لن تقوى على مواجهة الملايين إذا امتلأت الشوارع بهم. فالحكومة السودانية تدرك أنها أهانت الجيش ومرّغت كرامته في التراب بتنحيته جانباً حين دخلت قوات د. خليل إبراهيم الخرطوم، وبتجاهل ضباطه وجنوده الذين سقطوا في الجنوب في مقابل الإعلاء من شأن قتلى مليشيات الجبهة الإسلاموية، وبمعاملة جرحى العمليات الحربية على نحوٍ مزرٍ.
وهي تعي أن الشرطة أو على الأقل قسماً كبيراً من ضباطها وجنودها تابعوا ما جرى في مصر وتونس، ولن يكونوا كباش فداء لقادة النظام إذا ما ثار الشعب السوداني. الإنقاذ تدرك أن الشرطة السودانية ستفرط في استخدام القوة، لكن غالبية أفرادها لن يتجاوزوا الهراوات والغاز المسيّل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين إلى استخدام الرصاص الحي. فهم ليسوا معنيين بالدفاع عن نظام يرفضه الشعب السوداني، وهم ليسوا بأحسن حالاً من أقربائهم الذين يعيشون بأقل من دولار في اليوم.
والإنقاذ تعي أن مليشياتها المسلّحة لا أمان لها في ظلِّ الانشقاق الذي جعل من العسير تمييز (العدو) من (الصديق). لكنها على أيّ حال ستحاول حشد ما أمكنها من هذه المليشيات بعد غربلة دقيقة لئلا يصوّب هؤلاء بنادقهم إلى صدور الإنقاذيين عوض تصويبها إلى صدر الشعب السوداني.
لم يتبق إذن سوى قوات جهاز الأمن لتتولى مهمة إخماد الثورة. لكن، كم يبلغ عدد هذه القوات؟ وما هو توزيع عديدها على ولايات السودان ومدنه التي تغلي كالتنور؟ كم يبلغ عدد أفراد الأمن ومليشيا المؤتمر الوطني في الخرطوم أو مدني أو الأبيض مثلا؟ 100 ألف؟ 200 ألف؟ 500 ألف؟ وكم يبلغ عدد المتظاهرين؟ هذا هو مربط الفرس. فالأرجح أن الإنقاذيين يقدرون أن الثورة متى اشتعلت فسيكون ملايين السودانيين في الشارع في كلِّ مكان. والقوة المفرطة التي ستُستخدم ضد المظاهرات السلمية ستستفز الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي. وستواجه الخرطوم ضغطاً هائلا، ربما ينطوي على تهديدٍ بإحالة مسؤولين آخرين إلى محكمة الجنايات الدولية. وسيكون من العسير التوقع بأن تمضي واشنطن قدماً في بناء علاقات جديدة مع السودان، وهو ما يعوّل عليه الإنقاذيون كثيراً هذه الأيام.
لكن، ما السبيل إلى عرقلة الثورة والحال، حال الإنقاذ تُغني عن السؤال؟
أولاً: الحوار مع بعض الأطراف المؤثرة في المعارضة لكسب الوقت.
ثانياً: تأهيل وتجهيز أكبر عددٍ من القوات والمليشيات لن تكون كافية لصدِّ الشارع، لكنها ستحول دون سقوط الحكومة على نحوٍ سريع، وفي المقابل ستكون كلفتها على الصعيدين المحلي والدولي باهظةً جداً. والمتوقع أيضاً أن تجري عمليات إعداد نفسي و(ديني) هائلة لهؤلاء خاصةً في ضوء انحسار الخطاب الجهادي والتعبوي خلال السنوات الماضية، وخسارة المؤتمر الوطني لعددٍ من رموز الشباب الذين كانوا قادرين في الماضي على حشد مئات الشباب الإسلامويين. المتوقع أيضاً أن تواجه مثل هذه الخطة برفضٍ واسع من قبل الشباب لأنها مكشوفة، وهؤلاء الشباب يعلمون أنهم سيكونون تروساً ليس إلا في آلة المؤتمر الوطني، وكروتاً محروقة من أجل بقاء الكبار في السلطة.
ثالثاً: محاولة محاصرة (الوسيلة الجديدة) في المعارضة، وهي مواقع الإنترنت، والشباب اللا منتمون سياسياً، أولاً، وكما وجه (غوردون) بالاستفادة من الإنترنت للرد على المعارضين، وثانياً بتعقبهم واعتقالهم وتعذيبهم وهذا ما سنتطرق إليه تفصيلاً، وثالثاً بإلهاء الشباب بأماسي الخرطوم وأمدرمان وفي الطريق بحري، ورابعاً بالحديث عن توظيف العاطلين عن العمل، وخامساً ببرامج رياضية وفنية أخرى في الطريق !!
رابعاً: ستشرع الحكومة في إجراء حوارات مع مثقفين وصحافيين وقانونيين ونشطاء سيكون من بينهم مدونون وناشطون في الإنترنت، من أجل إشاعة إحساس بأن الإنقاذ جادةٌ في التغيير.
ونأتي إلى الدور الذي يضطلع به جهاز الأمن هذه الأيام في محاولة كسر إرادة الشباب والشابات وتخويفهم.
يروي صلاح (نجل السيد مبارك الفاضل، نائب رئيس حزب الأمة) أنه كان محتجزاً مع العشرات في مكانٍ ضيق وتمّ ضربه خلال اليومين الأولين، وتعرض لإهانات مستمرة. صلاح، بحسب موقع (حريات) أشار إلى أن المعتقلين الآخرين الذين أُعتقلوا ضمن مجموعته ولم يُخل سبيلهم بعد، ويبلغ عددهم نحو 20 معتقلاً وتتراوح أعمارهم بين 17 و27 يجري تعذيبهم بالصعقات الكهربائية وبالسكر المغلي الذي يُسكب على جميع أجزاء الجسد، هذا إضافة إلى التهديد بـ(الاغتصاب) بصورة مستمرة !!
موقع (حريات) ينقل عن سماح محمد آدم، وهي طالبة منتمية لحزب البعث، تم اعتقالها في 30 يناير:
( قالت سماح بأنهم أخذوها بالقوة، وقام عنصر من الأمن بجذبها من ملابسها (لحد انفتحت معه بلوزتها من الأمام وانخلعت كل الأزرار، وصارت مكشوفة الصدر)، ثم ألقوا بها بكل قسوة فى داخل بوكس الأمن حيث جلس بقربها والآخرين حوالى 14 من عناصر الأمن فى بوكس دبل كابينة ضيق المساحة، وتعمد أحد عناصر الأمن ان يلتصق بها بصورة تحرش جنسي، وعندما اعترضت قال لها ان لم تكن تردن ذلك فما الذى خرج بكن الى الشارع، كان الأجدر بكن الجلوس فى منازلكن ثم أخذوهم لمكاتب الأمن السياسي قرب موقف شندى ببحرى، حيث استقبلهم عدد من عناصر الأمن الآخرين بالضرب مباشرة.
وقالت إنها كانت (خائفة تمسك ببلوزتها المنزوعة الأزرار وتحاول إخفاء صدرها بطرحتها، فجاءها احدهم وقال : الليلة ….بس) ! ومن شدة فظاعة المفردة بكت سماح، حيث لم تسمع بهذه المفردة النابية تجاهها طيلة حياتها. وذكرت بأنها (خافت جداً بأن يتم إغتصابها). وظلت هناك حتى الثانية صباحاً ولم يتم سؤالها عن المظاهرة، التى يفترض انها سبب إعتقالها، ولكن ظل التعذيب والتخويف هما الذان يمارسان عليها، وعلى الشابات الأخريات معها، وقالت بأن أكثر ماكان يتردد هو التخويف بالإغتصاب. وكانوا (يضربونهن بالخراطيش السوداء وبمجرد ان تصرخ الواحدة كانوا يضحكون عليها بشكل جماعى) وظلوا يهددون كل واحدة بأنها ستصرخ بعد قليل من أمر آخر، فى إشارة الى الإغتصاب).
انتهت شهادة سماح.
أما سعاد عبدالله جمعة، وهي الأخرى طالبة، وتنتمي لحزب الأمة، فقد قالت لـ(حريات):
( تم اعتقالها يوم الخميس 10 فبراير من داخل حافلة المواصلات العامة..فبعد ان إلتقطت بعض الصور التى اخذتها بصعوبة من بعيد لتجمع أسر المعتقلين أمام مبانى رئاسة جهاز الأمن بالخرطوم شعرت بأن الوضع لم يعد متاحاً للتصوير لأن عناصر الأمن بدأوا فى اعتقال الموجودات وأخذوا ينتزعون الصور التى تخص ذويهم المعتقلين. فقررت ان تذهب لمنزلها هى وصديقتاها.. وعندما شرعت بركوب الحافلة شعرت بشخص خلفها يحاول مسك طرف طرحتها لكنها تجاهلته وصعدت للحافلة.
وعندما وصلت الحافلة لبحرى، وبالقرب من منطقة ممنوع فيها الوقوف توقفت الحافلة بأمر من بعض عناصر الأمن الذين اعترضوا مسار الحافلة بعربتهم ودراجة نارية. وصعد أحدهم للحافلة وطلب منها ان تنزل معه الا انها تمسكت بمقعدها وقالت له انها لن تنزل معه ان لم يثبت لها انه رجل أمن لانه يرتدى ملابس مدنية، ولكنه رفض ان يريها بطاقته وبدأ فى الصراخ عليها، وصعد رجل شرطة آخر الحافلة وأمرها بالنزول، فنزلت معهم هى وصديقتيها ورفضت ان تذهب معهم لأى مكان غير قسم الشرطة ظناً منها انها ستكون بمأمن أكثر داخل قسم الشرطة ! الا ان ظنها خاب بمجرد دخولها القسم الشمالى اذ توالى عليها عدد من عناصر الأمن وهم يسمعوها التهديدات والبذاءات وظلوا يخوفونها لإخراج ذاكرة الموبايل ولكنها تمسكت بموقفها بأنها لاتحمل ذاكرة الموبايل وانها لم تقم بتصوير شىء..عندها أمر احدهم بأخذها لمكتب آخر حيث تقدم نحوها حوالى أربعة من عناصر الأمن على مرأى من ضباط وعساكر الشرطة، وبدأ هؤلاء فى ضربها بالتناوب حيث يقوم أحدهم بسؤالها عن الذاكرة وهو يضربها على خدها (كف) ويقوم الآخر بلكمها على كتفها..
وأضافت سعاد : (…عندما رفضت ان اقوم بفتح موبايلي والذى لديه رمز سرى اغتاظ أحدهم وقام بضربي بشدة وجري على الأرض لمكتب آخر وكنت ابكى من الألم، وألقى بي على الأرض وتبعه الآخرون الذين إزداد عددهم وتحلقوا حولي وانا احاول ستر جسدي اذ ان (اسكيرتي) كان قد ارتفع فى اثناء جري واستمروا يضربونني بقسوة…).
وعندما ظلت صامدة أخذها احدهم ودفعها لطرف الغرفة حيث كان هناك مقعدين ملتصقين بحركة يبدو واضحاً منها التحرش، فخافت ووقفت خلف الكرسيين ولم تجلس حيث دفعها هو ورغم ضيق الزاوية التى وقفت بها الا انه (جاء ووقف قربي وبدأ فى الإقتراب مني رويداً رويداً الى ان وجدت نفسي التصق بزاوية الغرفة وانا ابكى خوفاً من نظرته الشهوانية وإشاراته البذيئة وكلامه مثل : عاملة فيها بت ناس لوكنت بت ناس ماكان خشيتى القسم انتى (شكش) ساكت. وغيرها من المفردات النابية جداً..وفى لحظة محددة صار محشوراً معي بزاوية الغرفة وأنفاسه تلفح وجهي، ويده تلتصق بجسدي، وقال لعناصر الأمن الآخرين معه أتركونى معها ثلات دقائق فقط وستعترف بمكان الذاكرة وتخرجها وحدها وهو ينظر لي بطريقة مُقرفة).
عندها قالت انها شعرت بخوف كبير ورعب من ان يغتصبها فاعطته الذاكرة التى كانت تخفيها فى طرف طرحتها وبمجرد ان استلمها (قام بصفعي بوجهي بقوة حتى سقطت.. وتركوني هناك أكثر من ستة ساعات بدون اى تحقيق ودون ماء او طعام) وظلت من الواحدة وحتى الثامنة دون اى ماء ولا طعام داخل قسم الشرطة. فقط كان يدخل اليها بعضهم شاتمين بصفات كلها تطعن فى شرفها وانها (صعلوكة) و (لافة) وخلافه من المفردات النابية، وعند الثامنة مساء جاء احدهم وقال لها انها لن تخرج الا بعد ان تُوقِّع على إقرار بأنها لن تخرج لأى مظاهرة ولن تقوم بتصوير اى شىء، وبعد ان وقعت أطلقوا سراحها) !!
ويواجه الصحافيون ملاحقات مستمرة، إذ تمت مصادرة أعداد من صحف (الصحافة) و (أجراس الحرية) و(الميدان) واعتقل جهاز الأمن عدداّ من الصحفيين أثناء تغطيتهم تظاهرات 30 يناير، ثم حاصر صحيفة الميدان يوم 2 فبراير وإعتقل 12 من صحفييها والعاملين بها، كما إعتقل يوم 13 فبراير 8 صحافيين من أمام مجلس الصحافة حين حاولوا تقديم مذكرة للتضامن مع معتقلي صحيفة الميدان.
الحقيقةُ أن الإنقاذ ربما رغبت من خلال هذه الممارسات (تخويف) الناس وكسر إرادتهم، لكنها في واقع الأمر تثير في نفوسنا مشاعر مختلفة للغاية. هذه الممارسات تشعرنا بالغضب الهائل والقرف من أيّ شيء يتعلق بالإنقاذ. ولئن كانت سمعة جهاز الأمن منذ مجيء الإنقاذ في غاية السوء نتيجة ممارسات اعترف بها (غوردون) ذاته حين ذكر (بيوت الأشباح)، فإن الممارسات الحالية كفيلة بجعل هذا الجهاز ومنسوبيه سبباً في خراب ما تبقى من السودان.
لا يُمكن لأي سوداني مهما تدنت مروءته وتحطمت قيمه بل وكرامته أن يقبل بمثل هذه الممارسات. تهديد رجال بالاغتصاب، والشروع في اغتصاب فتيات، وسكب السكر المغلي على أجساد المعتقلين، وصعقهم بالكهرباء. هذه الأمور لا تُخيف الشعب السوداني، بل تعبئه غضباً عارماً، وتجعل منه كرة لهب عملاقة تسحق أيّ شيء في طريقها.
ممارسات جهاز الأمن هذه تُسقط آخر أوراق التوت عن الإنقاذ، وتسقط آخر ورقة للمزايدة باسم الدين والأخلاق. إنها تعريهم وتفضحهم وتدينهم، وتقدم للشعب السوداني استفزازاً كامل الدسم لكرامته ومروءته ونخوته وشجاعته، وهي يرى شعوباً لم تجرّب في تاريخها الثورة، وهي تثور وتنتصر وتجبر عسكرها على الهروب كالجرذان بعدما كان وزراء الداخلية يهددون ويتوعدون، اختبئوا وبلعوا ألسنتهم، الشعب السوداني يرى كل ذلك، ويشعر بأسى عميق إذ سبقته شعوب إلى استرداد كرامتها وحريتها وهو ما يزال يرسف في الأغلال كالعبيد، وتُهان فتياته وتتحرش بهن جنسياً، وتشرع في اغتصابهن أجهزة الدولة، ويُسكب السكر (غالي الثمن) على أجساد شبابه الذين هم أمله في المستقبل، وتحاول الأجهزة الرسمية كسر إرادة من بإرادتهم يُصنع مستقبلنا.
أجهزة السلطة التي أعيتها الحيلة تلجأ الآن إلى آخر أوراقها في التعذيب الجسدي والنفسي، وهذا أكبر دليل على الانكسار والخوف، الانكسار أمام إرادة أبطالٍ مثل ثروت سوار الذهب ومحمد عادل ويوسف مبارك الفاضل، وبطلات مثل سماح وسعاد.
إن السيد محمد عطا، بل و(غوردون) ذاته وحكومته، كلهم مطالبون اليوم قبل الغد بتفسير ما يحدث في المعتقلات هذه الأيام. عليهم تقديم صلاح مبارك الفاضل وسماح وسعاد إلى المحاكمة بتهمة الكذب وتشويه السمعة، أو تفسير ما حملته شهاداتهم التي تدمغ أي سوداني أو سودانية – اليوم – بالصمت الجبان والعيش الذليل.
نعم، نحن شعبٌ جبان لا فائدة تُرجى منه ولا أمل فيه، ومن الأفضل أن يُسكب علينا الوقود ونُحرق جميعاً لأننا عالة على البشرية وعالة على الحضارة وعالة على أيّ قيمة إنسانية إذا كانت حكومتنا تعمل كل هذا ونحن نكتفي بالفُرجة ونكتفي بالصمت ولا نُحرك ساكناً !!
سنستحق كل ذلك، بل وأكثر، أن تُغتصب بناتنا فعلاً أمامنا، ويُجرد أولادنا من شرفهم أمامنا، ويبصق الجنود على وجوه آبائنا وأُمهاتنا، ويمشي العسكر على رؤوسنا المنكسرة المطأطئة من الخزي والعار، إن مرّ كل ذلك مرور الكرام، وخرجنا في الصبح لابتياع الصحف، وتوجهنا بشكلٍ طبيعي لأعمالنا، وسألنا جارنا في المواصلات عن نتيجة مباراة الأمس، ومن كان يغني في أماسي أمدرمان، وإن سألنا ببلاهة عن البديل لنظام الإنقاذ، وإن أغلقنا متاجرنا وبيوتنا كالفئران حين يخرج الطلاب والطالبات، وإن عُدنا آخر النهار لنتناول الطعام بشكلٍ طبيعي، وننام وكأننا لسنا عبيداً أرقاء لهذه السلطة التي جوّعتنا وأفقرتنا وجعلت الآلاف من آبائنا وأُمهاتنا شحاذين وهجّرت أبناءنا لتستقبلهم فيافي الخليج كرعاة وسائقين خاصين وسُفرجية وهم يحملون شهادات الجامعات، هذه السلطة التي جعلت متوسط دخلنا في اليوم أقل من دولار، وحرمتنا مجانية التعليم ومجانية العلاج، وجعلت التعليم الراقي حكراً على أبناء الطبقة العليا من الحكام، وحرمتنا من حقنا في التعبير السلمي عن الرفض والاحتجاج، وأطلقت يد أجهزتها لا لضرب أبنائنا وبناتنا، بل وصل الأمر حد الاغتصاب. إذا جرى كل ذلك ونحن صامتون وكأن الأمر لا يعنينا، فنحن شعبٌ ميّت لا يحس ولا يشعر، شعبٌ لا كرامة له، ولا نخوة، ولا شجاعة، تاريخه من بيعانخي إلى أبريل 1985 مزوّر، وأبطاله العظام من تهارقا إلى المهدي إلى الشريف حسين الهندي والأمير نقدالله مستوردون لا يمتون لنا بصلة، إذا فعلوا فينا كلّ ذلك ونحن صابرون، فنحن نستحق أن يضعونا تحت أحذيتهم، نحن نستحق من هو أسوأ منهم، ونحن نستحق هذا العقاب الجماعي، لأن الحيوانات، حتى الحيوانات تثور لكرامتها، فالجمل لا يغفر لصاحبه الإهانة، والقط إن حاصرته قفز عليك، والنعامة، حتى النعامة تحمي صغارها وتموت وهي تدافع عنهم، فهل أصبحنا شعباً أجبن من النعامة، وأقل كرامة من جمل؟
لا أظن، والأيام بيننا، إما ستُثبت للإنقاذيين صدق اعتقادهم بأنهم قهروا هذا الشعب و(أدبوه) وداسوا تماماً على كرامته، أو ستُثبت لنا صدق إيماننا بأننا أحفاد الكوشيين الذين نوّه (العهد القديم) بشدة بأسهم وبسالتهم، وأننا أحفاد الخليفة عبدالله وعلي دينار وعلي عبداللطيف وعثمان دقنة، أحفاد رابحة الكنانية وعبدالفضيل الماظ والنجومي وودحبوبة !
الكاتب روائي وصحافي سوداني يمكن الاتصال به على [email protected]