رواية “إعدام جوزيف”: مرآة لأزمات السودان ومادة لسجال لا ينتهي (4)
الصادق علي حسن
حزب الأمة وتكوين المليشيات القبلية:
يمكن مساءلة حزب الأمة وقيادته عن التفريط في الديمقراطية وعدم المحافظة عليها، سواء بالانفراد أم بالتضامن مع القوى السياسية الأخرى. ويشمل ذلك خاصةً تلك القوى التي نالت التفويض في الانتخابات الديمقراطية العامة الأولى والثانية والثالثة. فقد كان حزب الأمة هو الحزب صاحب الثقل الانتخابي الأول في التفويض الشعبي لإدارة الدولة منذ إعلان استقلال البلاد عام ١٩٥٦م. وقد حدثت الانقلابات العسكرية في عهود توليه السلطة مع شريكه الحزب الاتحادي. ولكن، بصورة عامة، فإن مسؤولية الحفاظ على الديمقراطية هي مسؤولية الكافة، وتمتد المسؤولية إلى المواطن الذي تخلى عن مسؤوليته في اختيار النائب الذي يحافظ على الدولة، ولو بالامتناع عن الإدلاء بصوته. كما تشمل هذه المسؤولية حتى من لم يبلغ سن الرشد الانتخابي في نطاق المسؤولية الجماعية والفردية. ذلك أن مسؤولية الحفاظ على الديمقراطية هي في جوهرها محافظة على الدولة وهياكلها الدستورية القائمة بموجب قواعد تأسيسها.
في ١٧ نوفمبر ١٩٨٦م، وقعت كل القوى السياسية والمدنية والحزبية، وممثلون من القوات المسلحة، بميدان المدرسة الأهلية بالقرب من منزل الزعيم إسماعيل الأزهري، على ما أسمته (باستثناء الجبهة القومية الإسلامية) “ميثاق الدفاع عن الديمقراطية”. ألزم هذا الميثاق كل القوى السياسية والمدنية السودانية والقوات المسلحة بالدفاع عن الديمقراطية. ولكن، في الممارسة الفعلية، انشغلت القوى السياسية والأحزاب بالتنافس والكيد السياسي، مما أضعف الديمقراطية الثالثة بسبب الممارسة السياسية غير الرشيدة. وحينما تحركت دبابات الجبهة الإسلامية القومية المتربصة بالحكم واستولت على السلطة، كانت التنظيمات والأحزاب السياسية في قمة خلافاتها، وقد تناست ميثاق الدفاع عن الديمقراطية الذي وقعته جميعها عام ١٩٨٦م، باستثناء حركة الإسلام السياسي التي قامت بالانقلاب وقوّضت النظام الدستوري.
وهكذا، دخلت البلاد في نير الدكتاتورية الغاشمة لثلاثة عقود، وتحولت إلى دولة الحزب والحركة الواحدة. كما فشلت الأحزاب في حماية مكتسبات ثورة ديسمبر المجيدة عام ٢٠١٨م، وتقاسمت السلطة مع الجيش بنظام المحاصصة، ومنحته لأول مرة في تاريخ البلاد خلال فترة انتقالية -عقب نجاح ثورة شعبية ضد نظام قوّض الدستور الشرعي- حق ممارسة السياسة وشؤون الحكم، وذلك بالمخالفة لقواعد تأسيس الدولة التي قصرت ذلك على العهود الدكتاتورية. حدث أمر مشابه في انقلاب مايو ١٩٦٩م، حين تم الزج بالجيش والأمن كمؤسسات دستورية في الباب العاشر مما سمي بدستور ١٩٧٣م الدائم، بعد أن كانتا مؤسستي خدمة عامة عسكرية تخضعان لإشراف مؤسسات الحكومة المدنية الدستورية وتأتمران بأوامرها. ولا تزال الأحزاب تائهة، لا تدرك أن قواعد التأسيس قد كفلت الديمقراطية والحكومة المدنية واستحقاق الفيدرالية. وبدلاً من ذلك، لا تزال تتحدث عن إقامة موائد ومؤتمرات دستورية، مما يدفع بالبلاد من أزمة إلى أخرى، حتى صارت حبلى بالفتن المتكاثرة و ولوداً لها.
اتهام حزب الأمة بتكوين المليشيات المسلحة
من الضروري مساءلة حزب الأمة عن أي تقصير تثبت مسؤوليته عنه، وهناك شواهد على التقصير الحزبي في الممارسة السياسية والحكم، ولكن ليس هذا مجال تناوله الآن. فنحن هنا بصدد ما تناوله وأورده د. ضيو مطوك في كتابه “حكاية إعدام جوزيف” وفي سجاله الودي مع نقاد كتابه. فقد ذكر مسؤولية حزب الأمة عن تأسيس المليشيات المسلحة في مقاله الرابع من سلسلة سجاله، قائلاً ما يلي: (الأستاذ الصادق علي حسن لم يتعرف على حقيقة “المجاهدين” أو قوات الدفاع الشعبي. هذه القوات كانت موجودة قبل انقلاب الإسلاميين على السلطة، لكن باسم آخر هو “المراحيل”، خاصة في جنوب دارفور وغرب كردفان. ولكن تم تطويرها بعقيدة قتالية جديدة تضع الجهاد في الصدارة في عهد الإسلاميين، وقد تناولنا هذا الأمر في المشهد الثاني من رواية “إعدام جوزيف”).
الروايات والأقوال:
في القانون، ليست للروايات السماعية والأقوال قيمة قانونية، ولا تُعتبر بيّنة. فالبينة في القانون تبدأ بشهادة الشهود أو المستندات الرسمية التي لا يجوز الطعن فيها إلا بالتزوير. أما الوقائع التاريخية فتُذكر مدعومة بأسانيدها. وما ورد بشأن علاقة حزب الأمة بالمراحيل هو عبارة عن روايات وأقوال. فلم تكن لحزب الأمة أو غيره من الأحزاب القدرات التنظيمية الكافية في فترة الديمقراطية الثالثة لتنظيم نفسها، ناهيك عن تنظيم المراحيل. كما يجد الباحث أن “المراحيل” هي وصف لمجموعات الرعاة الذين يشكلون فيما بينهم مجموعات لحماية قطعانهم. وكانت هناك مجموعات منها تقوم بغارات على الأهالي من المجموعات المستقرة، مما يؤدي إلى نشوء احتكاكات وصراعات قبلية محدودة. وكانت ارتباطات المراحيل تقوم على أساس العشيرة، ولم تكن حتى الإدارات الأهلية للقبائل التي تنتمي إليها هذه العشائر تستطيع السيطرة عليها، إذ كانت قيادتها محصورة في إطار العشيرة أو “خشوم البيوت” (فروع القبيلة)، وليست القبيلة الأم.
وقد استشهد د. ضيو مطوك في المقال الأول من سجاله بأنه هو نفسه تأثر بالممارسات التي كانت سائدة لقرنين من الزمن، وننقل قوله بالنص الآتي: (هذا يجسد واقعنا لأكثر من قرنين، حيث كانت حملات الرق في مناطق الدينكا، وكاتب هذه الرواية واحد من ضحايا هذه الحملات، حيث تم اختطاف جدته ومعها توأم إلى اتجاه دارفور، ولا أحد يعرف عنهم شيئًا إلى يومنا هذا). فبشهادته هذه، كانت تلك الممارسات موجودة قبل نشأة حزب الأمة وقبل قيام الدولة السودانية بموجب قواعد التأسيس عام ١٩٥٥م.
الديمقراطية والرقابة على الممارسة العامة:
قال د. ضيو: (الأستاذ الصادق علي حسن لم يتعرف على حقيقة “المجاهدين” أو قوات الدفاع الشعبي. هذه القوات كانت موجودة قبل انقلاب الإسلاميين على السلطة، لكن باسم “المراحيل”، خاصة في جنوب دارفور وغرب كردفان. ولكن تم تطويرها بعقيدة قتالية جديدة تضع الجهاد في الصدارة في عهد الإسلاميين).
نفى د. ضيو علم الصادق بالمراحيل، مع أن المراحيل معروفة ويندرج العلم بها ضمن المعرفة العامة. ولكن لم يقدم د. ضيو أسانيد تثبت علاقة حزب الأمة بتنظيم وتسليح المراحيل. وما لا جدال فيه هو أن صناعة المليشيات القبلية هي صناعة “إنقاذية” خالصة، وقد اكتسبت الصفة القانونية عام ٢٠١٧م فيما يخص قوات الدعم السريع.
إن الممارسة الديمقراطية لم تكن تسمح على الإطلاق بأي ممارسات خارج سلطة الأجهزة التشريعية المنتخبة، التي كانت تمارس الرقابة على كل كبيرة وصغيرة. بل إن وسائل الإعلام كانت تراقب حتى النواب. ففي الديمقراطية الثالثة، على سبيل المثال، نُقِل أن حديثاً خاصاً (ونسة) بين عضو بالجمعية التأسيسية وزميله في أحد مقاهي أديس أبابا، حيث قال له إن مثل حديثهما هذا يمكن أن تنشره الصحف، لتنقل صحيفة “ألوان” في اليوم التالي: (يا نائب، الخبر وصل!). وفي ظل الديمقراطية أيضاً، ظل الجيش مؤسسة خدمة عامة تحتفظ باستقلاليتها التامة في شؤونها العسكرية. وفي عهد الديمقراطية المذكور، رفع قادة الجيش مذكرة إلى رئيس الوزراء في ٢٠ فبراير ١٩٨٩م، تضمنت تحميل رئيس الوزراء المسؤولية تجاه ما لحق بالجيش من سوء وتراجع في الأداء. ولم تتضمن هذه المذكرة الشهيرة في أي بند من بنودها أن حزب الأمة أو غيره قام بتجييش المراحيل أو القبائل. فهل يمكن تصور أن قيادة الجيش، التي تتقدم بمذكرة شديدة اللهجة كهذه إلى رئيس الوزراء المنتخب بشأن أوضاع الجيش، كانت لتسمح لقيادة حزب الأمة بتجييش المراحيل، أو أن تغض الطرف لو أن ذلك الحزب نحا ذلك الاتجاه؟
ومن الأمثلة الناصعة على سلامة الممارسة الديمقراطية، دعوة “تضامن قوى الريف” بقيادة الأستاذ عبد الله آدم خاطر وصحيفة “النهضة” وقتذاك، إلى موكب “أمان دارفور” جراء ما حدث من انفراط في الوضع الأمني وتمدد الحروب القبلية في دارفور. وفي حادثة أخرى، ذهب وزير شؤون الرئاسة، صلاح عبد السلام، إلى مكتب رئيس القضاء آنذاك، محمد ميرغني مبروك. ونشرت الصحف في اليوم التالي أن وزير شؤون الرئاسة خرج غاضباً، وكادت حركة الباب خلفه أن تؤدي إلى ملاحقة صلاح عبد السلام قضائياً، لولا أنه أوضح أنه لا صلة له بالباب الذي تحرك خلفه وأحدث صوتاً. لقد كانت أجهزة الدولة مستقلة في ظل الديمقراطية الثالثة، وما كان الجيش ليسمح بمثل ما ذكره د. ضيو عن حزب الأمة والمراحيل. وهو يعلم تماماً، من موقعه داخل القصر الجمهوري، أنه في عهد الإنقاذ تحولت الدولة إلى دولة الحزب الواحد وحركة الإسلام السياسي.
وفي ختام هذا الجزء من تناولي لسجال د. ضيو مطوك مع نقاده، أود أن أشير إلى أنني سأتناول في الجزء التالي من ردودي عليه ما أسميه (متلازمة حزب الأمة والسندكالي).