Saturday , 17 May - 2025

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

رواية “إعدام جوزيف”: مرآة لأزمات السودان ومادة لسجال لا ينتهي (2)

الصادق علي حسن

الصادق علي حسن

نقلتُ في مقالي السابق (١) ما ذكره د. ضيو، كاتب رواية “إعدام جوزيف”، في سجاله الودي مع نقاده. وقد أشار ضمن هذا السجال إلى ما يلي، وهو ما تناولته عن الرواية بالنقد. وقد احتفى د. ضيو بكل مساهمات نقاده ولم يتبرم منها، وهذه في حد ذاتها محمدة. وفيما يلي ذكر الآتي: “(أجزم بأن انطلاق الأستاذ الصادق علي حسن مرجعه سببان؛ أولهما خلفيته القانونية بحيث يمليه الواجب للتصدي للظلم والاضطهاد والتمييز العنصري أينما حل، ورواية جوزيف خرجت من هذا الرحم). والسبب الثاني – وقال عنه إنه يأمل أن يكون خاطئاً فيه – هو (ميول الصادق علي حسن الواضح لحزب الأمة ومحاولاته العنيفة لمواجهة كل ما يرد عن دور حزب الأمة فيما يحدث من تدهور للعدالة. ظل الأستاذ الصادق يكرر في مقالاته أهميةَ تنفيذ ما يعرف بالقواعد التأسيسية للدولة السودانية كمرجعية لوحدة السودان بعد خروج المستعمر الإنجليزي المصري، وهي أربعُ قواعد من ضمنها استحقاق الجنوب للحكم الفيدرالي). ثم تحدث عما لحق بالجنوبيين من (تجريم ووصف بالخيانة العظمى)، وقال في تساؤل استنكاري: (إذن، أين موقف حزب الأمة؟). وذكر عدة وقائع، منها اتفاقية أديس أبابا والحكم الإقليمي، وتوقيع الصادق المهدي المصالحة مع النميري في ١٩٧٧م، وأحداث الضعين التي قُتل فيها حوالي مائتي مواطن جنوبي سوداني حرقاً في عربات السكك الحديدية. وعندما قام اثنان من أبناء الشرفاء، الدكتوران سليمان بلدو وعشاري، تعرضا لمضايقات جعلتهما يخرجان من السودان بأسرتيهما خوفاً على أرواحهما. ويرى د. ضيو بأنه لا مجالَ لتبرئة حزب الأمة والحبيب الراحل الصادق المهدي من مأساة أهلِ جنوب السودان ودفعهم للانفصال عن السودان”.

بالنسبة للسبب الأول، لا أود أن أتناول حيثياته، وأُقدر له ما قال عني، وأعتقد بأن مناهضة التمييز بكافة أشكاله وأنواعه من واجبات الكافة، وليس العاملين بالمهن القانونية وحدهم، وهي مسؤولية على عاتق كل صاحب ضمير إنساني حي، وخاصةً لمن يرفع شعارات العمل في مجالات حقوق الإنسان.

بالنسبة للسبب الثاني، لم أُظهر في قراءاتي النقدية لكتاب “حكاية إعدام جوزيف” ميلاً لحزب الأمة، مع أنني نشأتُ في حزب الأمة، ووجدتُ هذا الحزب بمنزل الأسرة، وكان بعض من أعمدته هم من أسسوا هذا الحزب بمدينة نيالا وشيدوا مسجد الأنصار الأقدم بمدينة نيالا في مقر المسجد العتيق الحالي بنيالا، والذي كان خلاوة للفقيه الأنصاري الفكي محمود. كذلك، أحفاد هذا الفقيه ساهموا في نشر تعاليم الدين بمدينة الفاشر وأسسوا مسجد الأنصار الرئيسي بمدينة الفاشر. ويعتز الكاتب بفترة نشاطه في حزب الأمة؛ هذه الفترة التي أكسبته علاقات اجتماعية متعددة. مع أن الكاتب نفسه تخلى عن حزب الأمة منذ أكثر من (١٥ سنة)، وكتاباته عن القواعد التأسيسية المنشئة للدولة السودانية لا علاقة لها بانتمائه السابق لحزب الأمة، فقواعد التأسيس المذكورة هي قواعد تأسيس الدولة السودانية وليست قواعد تأسيس حزب الأمة. ولو فحص د. ضيو بتدقيق ما كتبه الكاتب (الصادق) في مقالاته، لأدرك ما يعنيه بماهية قواعد التأسيس. لقد شكل الحاكمُ العامُ للسودان السير روبرت هاو لجنة دولية للخروج بتوصيات حول مستقبل الأراضي الخاضعة لدولتي الحكم الثنائي، والتي أخذت اسم السودان بعد إجازة قواعد التأسيس الخمس (أربع منها في ١٩ / ١٢/ ١٩٥٥م، والخامسة في ٣١/ ١٢/ ١٩٥٥م). لم يكن في السودان وقتذاك أي خبير في الفقه الدستوري، كما أن الذين عملوا من الوطنيين، من قضاة ومحامين، كانوا خبراء في القانون الجنائي والمدني المأخوذ من القانون الهندي والمتأثر بالقانون الإنجليزي. لذلك، حينما باشرت اللجنة الدولية برئاسة ستانلي بيكر أعمالها، كان من ضمن أعضائها من اعتقدوا بأن نتائجها لن تفضي إلى استقلال السودان، واستقال منها القانوني الأشهر محمد أحمد محجوب، وأحدُ أهمِّ رواد الصحافة السودانية أحمد يوسف هاشم (أبو الصحف)، والذي كتب بأن الحاكم العام يريد من خلال توصيات اللجنة المذكورة تنصيب نفسه ملكاً على السودان.

إن وضع الدساتير يحتاج إلى خبرة ومعرفة من جهة الصياغة الفنية، أما إقرارها لتكون ملزمة، فهو من شأن الإرادة الشعبية الوطنية متى أقدمت على إقرارها عن علم بمضامينها. وكان الأفذاذ من جيل المحجوب وزروق وأحمد يوسف هاشم وغيرهم لم تُتَحْ لهم فرصة اكتساب الخبرة في الفقه الدستوري، والذي كان يقوم على اتفاق صلح وستفاليا ١٦٤٨م والمعاهدات الأوروبية المنشئة للشخصية القانونية للدولة القطرية المحمية بالقانون الدولي. وكان ما تم وضعه بواسطة لجنة ستانلي بيكر عبارة عن توصيات حول كيفية تأسيس دولة في الأراضي الخاضعة لدولتي الحكم الثنائي. وكان هنالك تنازعٌ بين هويتين: هما هوية الولاية العثمانية في مصر، والتي تمثل مرجعية الأوضاع القانونية التي نشأت في عام ١٨٢١م والمحمية بالقانون الدولي القديم القائم على توازن القوى خارج نطاق القانون الدولي الأوروبي من جهة، وهوية الدولة المهدية التي نشأت بعد انضمام الدولة العثمانية لاتفاقية دول المعاهدة الأوروبية بباريس في عام ١٨٥٦م إيذاناً باندماجها في منظومة القانون الدولي المعاصر، واكتسبت بذلك الشخصية القانونية الدولية، ووفقها تكون جميع الأراضي التابعة لها بعد هذا التاريخ ضمن الإقليم الجغرافي المحمي بالقانون الدولي. وهوية الدولة المهدية تكونت بالوجود الفعلي منذ انتصار المهدية ومقتل غردون باشا (١٨٨٥- ١٨٩٩م) – تاريخ سقوط الدولة المهدية – ولكنها كدولة قامت داخل نطاق الإقليم الجغرافي للدولة العثمانية، لم يكن لها أي وجود قانوني طوال حياتها وإلى حين سقوطها، رغم وجودها الفعلي، وذلك وفقاً لمفهوم القانون الدولي المعاصر القائم على سيادة الدولة ذات الشخصية القانونية الدولية التي انضمت لاتفاقية دول المعاهدة الأوروبية.

في ظل الاستعمار الثنائي، نشأت النخب التي كانت تعبر عن نفسها من خلال الهوية العثمانية التي ظلت سائدة لعدة قرون في مصر. وفي جنوب مصر، فإن الحركات الوطنية التي نشأت، مثل ثورة اللواء الأبيض، كانت في إطار هوية الخديوية المصرية. إن تعقيدات تقرير مصير الأراضي الخاضعة لدولتي الحكم الثنائي كانت تحتاج إلى خبرة دولية ومعرفة وإلمام بالقانون الدولي. ونجح ستانلي بيكر ولجنته في وضع أفضلِ مشروع لتأسيس دولة في الأراضي السودانية، وصدر القانون المنشئ لبرلمان ١٩٥٣م. وكانت توصيات لجنة ستانلي عبارة عن أسس لكيفية التعاقد الحكمي بين السودانيين، مثل المحامي الذي يقوم بصياغة مذكرات التعاقد بين الأطراف وليس بالضرورة متابعة إبرامها. وحتى لو ساعد المحامي في مباشرة إبرام العقود، فإن الخبرة الفنية في الصياغة لا تمثل إرادة المتعاقدين ولا تحل محلها. وفي عهد الدولة الحديثة، استعانت دولٌ عند تأسيسها بمن لهم خبرة ودراية بالقانون الدستوري. وليس بالضرورة أن يشارك الخبراء في كتابة الدستور، بل قد يكون دورهم للإشهاد عليه كوثيقة سامية تمثل التعاقد الحكمي للأجيال المتعاقبة في الدولة، مثلَ مشاركة د. حسن الترابي في الإشهاد على وضع دستور دولة الإمارات، كالعديد من حملة شهادات القانون الدستوري. فالمشاركة قد لا تكون بالضرورة للصياغة، ولكن المشكلة في الشعب السوداني الذي يعتمد على المشافهة والحكي.

ذكر د. ضيو بأن “(الأستاذ الصادق علي حسن لم يتعرف على حقيقة “المجاهدين” أو “قوات الدفاع الشعبي” في عهد البشير. وأن هذه القوات كانت موجودة قبل انقلاب الإسلاميين على السلطة باسم آخر هو “المراحيل”، خاصة في جنوب دارفور وغرب كردفان، ولكن تم تطويرها بعقيدة قتالية جديدة تضع الجهاد في الصدارة في عهد الإسلاميين. وقد تناولنا الأمر في المشهد الثاني لرواية “إعدام جوزيف”)”.

سأواصل الحديث حول ما أثاره د. ضيو، وعن ربط المراحيل بحزب الأمة، وعدم الدقة في ذلك الربط. ليس ذلك من أجل تبرئة حزب الأمة، ولكن من أجل الحقيقة المجردة؛ فالقبائل الرعوية في حزام التماس، ظلت تحمل السلاح وتتسلح وهي تتنقل في حلها وترحالها. وحتى إذا كانت هنالك مجموعات من الرحل تم توظيفها في القتال مع الجيش في عهد الديمقراطية الثالثة، فهذه مسؤولية المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، وليست مسؤولية حزب الأمة أو رئيسه الصادق المهدي.