رواية “إعدام جوزيف”: مرآة لأزمات السودان ومادة لسجال لا ينتهي (١)
الصادق علي حسن
حظي الكتاب الذي أصدره د. ضيو مطوك، والذي حمل عنوان “حكاية إعدام جوزيف”، باهتمام في الأوساط الأدبية والمدنية والسياسية السودانية، لتناوله قضايا من المسكوت عنه في الممارسة السياسية العامة بالبلاد. وحينما يتحول الخلاف في الرأي أو التباين في وجهات النظر إلى منصة حوار ودّي أو جدل موضوعي في المنابر العامة أو الوسائط، فهذا هو المدخل السليم لتصحيح الأخطاء بالوسائل الصحيحة، ولترسيخ لغة الحوار السلمي الموضوعي بدلاً من سيادة ثقافة الحرب وممارسة القتل والخراب والدمار والتعبير عن المطالب عبر فوهات البنادق.
النقد ليس من أجل الاستقباح:
ترسخ في أذهان العوام أن الغرض من النقد هو استقباح الشيء وإبراز عيوبه ومثالبه، وقد لا يكون الأمر كذلك في كل الأحوال، خاصةً في قضايا الرأي والرأي الآخر. إن تناولي لكتاب “حكاية إعدام جوزيف” لكاتبه د. ضيو مطوك (في ١٥ مقالاً)، كان منطلقه قيمة الكتاب وأهميته. وقد تناول الكتاب وقائع حقيقية بأسلوب أدبي رفيع لتصحيح الممارسات الشائنة في دولة السودان منذ إعلان تأسيسها. وقد وُلدت الدولة وهي مُحملة بالأزمات، كما أن الممارسات غير الرشيدة ساهمت في تفاقم وإنتاج المشاكل والأزمات المستفحلة، حتى أوصلت البلاد إلى مرحلة الحرب الدائرة التي باتت تهدد وحدة البلاد ومستقبلها.
في مقالاته الأربعة المنشورة تحت عنوان “سجال ودي مع نقاد رواية إعدام جوزيف”، كتب د. ضيو مطوك في المقال الرابع (٤/٤) بأن أحد النقاد، عقب تدشين الكتاب بالمنتدى الثقافي المصري، قال له الآتي: “بختكم يا جنوبيين، جوزيفكم قُتل وانفصلتم، لكن ما يزال جوزيفنا يُقتل”. وواصل ضيو قوله: “مثل هذه التصريحات تدعو للقلق على مستقبل وحدة السودان، وهي محل اهتمام الكل بمن فيهم كاتب رواية ‘إعدام جوزيف'”. أحد النقاد الذين أثرت مقالاتهم الرأي العام السوداني هو الأستاذ الصادق علي حسن المحامي، وأجزم بأن انطلاقه كان لسببين اثنين:
السبب الأول: هو خلفيته القانونية التي تملي عليه واجب التصدي للظلم والاضطهاد والتمييز العنصري أينما حل، سواء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أو قتل وتشريد أطفال الفلسطينيين وهدم منازلهم، أو العدوان غير المبرر على أوكرانيا، أو قتل وتجويع وتشريد الأبرياء في السودان.
لذلك، أعتقد بأن الصادق علي حسن ليس وحده الذي ينازل المعتدين، فكثير من المدافعين عن الحريات وحقوق الإنسان يجدون أنفسهم في الخندق معه ضد السلوك غير الإنساني، ورواية “إعدام جوزيف” خرجت من هذا الرحم.
الأستاذ الصادق شعر بخطر قادم للسودان وقرر قرع الجرس، لأن السكوت في مثل هذه القضايا يهدد وحدة البلاد التي يتطلب التصدي لها بصرامة من قبل المفكرين السودانيين حتى لا يخرج عليهم جنوب سودان آخر في الغرب أو الشرق أو حتى الشمال. فمطالبته بعدم الانشغال بمقالات تتناول قضية دولة أخرى، هو تقدير خاطئ من الأستاذ جدو مقدم.
السبب الثاني – وأتمنى أن أكون مخطئاً فيه – هو ميول الأستاذ الصادق علي حسن الواضحة لحزب الأمة ومحاولاته الحثيثة لمواجهة كل ما يُردد عن دور حزب الأمة فيما يحدث في البلاد من تدهور للعدالة. ظل الأستاذ الصادق يكرر في مقالاته أهمية تنفيذ ما يُعرف بالقواعد التأسيسية للدولة السودانية، كمرجعية لوحدة السودان بعد خروج المستعمر الإنجليزي-المصري، وهي أربع قواعد، على رأسها: “استحقاق الفيدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث وإقرار لمبدأ الحكم الفيدرالي في السودان تؤطر بواسطة الجمعية التأسيسية”. وهي قواعد تم تجاهلها تماماً من قبل الأحزاب في السودان مقابل برنامج ضيق يخاطب مصالح فئة محددة في البلاد.
هذه القاعدة الرئيسية التي جعلت أبناء جنوب السودان يقبلون بالاستقلال داخل البرلمان، لم تُحترم من قبل السياسيين الشماليين، بل وُصفت المطالبة بها لاحقاً بالخيانة العظمى. إذن، أين موقف حزب الأمة الذي نال ثقة أهل السودان في أربع انتخابات عامة من هذا التخاذل؟
ما رأي حزب الأمة في اتفاقية أديس أبابا التي حاولت إنقاذ وحدة السودان بتطبيق القاعدة الأولى من قواعد التأسيس – الحكم الإقليمي في جنوب السودان – خاصة بعد توقيع الصادق المهدي وثيقة المصالحة الوطنية مع جعفر محمد النميري عام ١٩٧٧؟
عُرف السياسيون السودانيون بعدم احترام المواثيق، وعبر عن ذلك السياسي الجنوبي أبيل ألير كوي المحامي في كتابه “جنوب السودان: التمادي في نقض المواثيق والعهود”. وأبيل ألير هذا تقلد أرفع المناصب الدستورية في عهد نظام مايو بقيادة المشير جعفر محمد نميري، بما في ذلك منصب نائب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الإقليمية في جوبا.
لم يكن انفصال جنوب السودان عابراً، فقد منح الجنوبيون إخوانهم الشماليين فرصة ستة عقود بعد الاستقلال لتصحيح أخطائهم، لكن دون جدوى.
لحزب الأمة برئاسة الإمام الصادق دور أكبر في تأزيم الأوضاع بجنوب السودان، وهناك أمثلة كثيرة، أقلها أحداث مدينة الضعين التي قُتل فيها حوالي مئتي مواطن جنوب سوداني حرقاً داخل عربات السكك الحديدية. وعندما قام اثنان من أبناء السودان الشرفاء – الدكتور سلمان بلدو والدكتور عشاري أحمد محمود – بتوثيق هذا الحدث الشنيع، تعرضا لمضايقات جعلتهما يخرجان من السودان بأسرتيهما خوفاً على أرواحهما. ولذلك، لا أرى مجالاً لتبرئة حزب الأمة والإمام الحبيب الراحل الصادق المهدي من مأساة أهل جنوب السودان، ودفعهم للانفصال عن السودان.
الأستاذ الصادق علي حسن لم يتعرف على حقيقة “المجاهدين” أو “قوات الدفاع الشعبي” في عهد البشير. هذه القوات كانت موجودة قبل انقلاب الإسلاميين على السلطة، لكن باسم آخر هو “المراحيل”، خاصة في جنوب دارفور وغرب كردفان، ولكن تم تطويرها بعقيدة قتالية جديدة تضع الجهاد في الصدارة في عهد الإسلاميين، وقد تناولنا هذا الأمر في المشهد الثاني لرواية “إعدام جوزيف”.
في المقال القادم، سأتناول ما أثاره د. ضيو مطوك في سجاله الودي، من منطلق التفريق بين تعطيل تنفيذ القواعد الدستورية التي تم إقرارها في ١٩ ديسمبر ١٩٥٥م بواسطة سلطة تشريعية منتخبة ديمقراطياً من كل أقاليم السودان (وقد صارت القواعد الدستورية نافذة في مواجهة الكافة)، وبين مثالب وعيوب الممارسة السياسية منذ إعلان استقلال السودان في الأول من يناير ١٩٥٦م.