Monday , 9 December - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

ملف السودان وأولويات إدارة دونالد ترامب فى السياسة الخارجية

حسين اركو مناوي

حسين اركو مناوى

 

السياسة الخارجية الأمريكية كالأخطبوط لها أذرع تحيط بمعظم دول العالم وربما كل دول العالم البالغ عددها 193 دولة ذات السيادة والعضوية فى الأمم المتحدة.  لذلك نجد الشعوب في بلدانها المختلفة أكثر آطّلاعاً على السياسة الأمريكية من سياسات حكوماتها لأنّ الشعوب تدرك تماماً من الممكن الولايات المتحدة الأمريكية تزعزع عروش البلدان التي لا تتماشى مع مصالحها مهما كانت قدراتها كما يحدث الآن مع روسيا. الامريكان يتفننون فى تقديم برامجهم السياسية لشعوب العالم فى شكل ملامح عامة فى كل فترة انتخابية حتى يتسنى للناس معرفة سياسات الحكومة القادمة وخاصة ملامح السياسة الخارجية إلا أنّ أكبر تناقض فى  السياسة الأمريكية هو الخلاف الجوهري بين القيم الديمقراطية التي تمارس داخل الولايات المتحدة وتلك التجاوزات فى السياسة الخارجية .  بالرغم من أنّ الولايات المتحدة الأمريكية فى مقدمة الديمقراطيات الكبرى فى العالم إلا أنها ديمقراطية ذات معايير مزدوجة ما بين السياسة الداخلية والخارجية. فى السياسة الداخلية، الشعب الامريكى يمارس حقوقه فى الدولة بقوة القانون والشفافية بينما فى السياسية الخارجية، الحكومة الأمريكية تحافظ على مصالحها بقوة الاستخبارات دون مراعاة أخلاقيات الممارسة السياسية ومعايير الشفافية فقط الذى يتحكم على السياسة الخارجية هو لعبة شديدة القسوة تعرف بالعصا والجزرة أو دبلوماسية البوارج الحربية  Gunboat diplomacy التى تترجمها الأساطيل الحربية المنتشرة في أرجاء العالم .  فى الواقع سياسة العصا والجزرة هى جوهر السياسة الخارجية الأمريكية إلا أن الحكومة الأمريكية قلّما تستخدم مباشرة بل تتستر تحت غطاء قائمة طويلة من مبررات مثل التبشير بالديمقراطية فى العالم، محاربة الإرهاب، السلم والأمن الدوليين، حقوق الإنسان والطوارئ الإنسانية ومحاربة الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية. كل حالة من هذه العناوين الحرجة يمكن أن تسمح للولايات المتحدة تحريك  آلتها الاقتصادية والعسكرية لفرض عقوبات على الأنظمة في العالم وقد تمتد العقوبات إلى تدخل عسكرى . إذاً  العالم الخارجي تهتم كثيراً بالسباق الرئاسي الى البيت الأبيض لدرء مخاطر تدخل العصا الامريكية، فكلما تحتدم معركة السباق إلى البيت الأبيض تتزايد مخاوف انظمة سياسة كثيرة من السياسة الخارجية الأمريكية تجاه بلدانهم وبالطبع فى ظل الظروف التى تمر بها السودان لا بد من أن تتعاظم اهتمام السودان بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وفى هذا السياق تبرز أسئلة مهمة بالضرورة الإجابة عليها ومن بين الأسئلة التى تهم السودان، ما هي أولويات السياسة الخارجية لأمريكا فى فترة الرئيس دونالد ترامب؟  بل النقطة الجوهرية بالنسبة للسودان هى الى اى مدى تولى  إدارة الرئيس ترمب اهتماماً للازمة السودانية وهل أولويات الإدارة الامريكية فى الجبهات الساخنة للأزمات الدولية  تنسيها القضية السودانية أوعلى الأقل هذه الأزمات تكون سبباً فى أن يُصبح الملف السودانى عند إدارة ترامب في مرتبة ثانوية؟

كل هذه التساؤلات تجعلنا قبل كل شئ نفكر فى نقطة مهمة هي إلى اىّ مدى تجربة دونالد ترامب فى الملف السوداني  فى فترة رئاسته الأولى تؤثر على سياسته القادمة تجاه السودان؟

في  الدورة الثانية لدونالد ترامب فى البيت الأبيض نتوقع رؤيته ومنهج إدارته لبعض الملفات وخاصة الملف السوداني تختلف عن رؤية ومنهج الرئيس السابق جو بايدن ولا يساورني شك فى أنّه لن يبدأ هذا الملف من الصفر ومن الارجح عودة الرجل إلى البيت الأبيض للمرة الثانية تجعله أول ما يفكر هو ما فى جعبته من نجاحات واخفاقات التجربة السابقة وبالتالى  يمكن التنبؤ بأن ترامب المنتخب للمرة الثانية قد لا ينزلق هذه المرة بسهولة فى الأخطاء السابقة وعودته إلى سدة الحكم ايضاً فرصة لإعادة القراءة والتقييم للملفات القديمة المتجددة وعلى رأسها الملف السودانى وبالتالى سياسته تجاه السودان إلى حد ما تقوم على ما سبقت من تجربته فى ملف السودان وإن كان تعامل إدارة الجمهوريين للملف السودانى لن يكون مطابقاً للتجربة السابقة لأنّ مياه كثيرة جرت تحت الجسر في فترة إدارة الرئيس بايدن وخاصة حرب 15 أبريل 2023 وتداعياتها والدور الطليعي الذي لعبته الولايات المتحدة ما بعد الانقاذ في هندسة السياسة السودانية جنباً إلى جنب مع جهود قوى إقليمية ودولية أخرى فيما عرفت بالرباعية التي ساهمت بقوة في صناعة الاتفاق الإطاري.  من الملاحظ  في الفترة الماضية إدارة بايدن الديمقراطية رمت بثقلها فى التعامل مع الملف السوداني ، ففى عهده تولى ملف السودان فريق رفيع المستوى من شخصيات لهم قرار فى الخارجية مثل بلنكن ومولى فى والمبعوث الرئاسي توم بريللو ولكن المعضلة فى إدارة هذا الملف بالنسبة للأمريكان وحلفائهم فى فترة ما بعد الإنقاذ أنهم تبنوا رؤية لا علاقة لها بالواقع السودانى لا فى الفكرة ولا المنهج ولا من الناحية الإجرائية . من حيث الفكرة الساحة السياسية السودانية تعج بتيارات وقوى سياسية وعسكرية متناحرة البعض منها اجتماعية لا يستطيع احدُ أن يجمع هذا الشتات السياسي الاجتماعي إلا من خلال فكرة الوفاق الوطني التى تهزم كل فكرة إقصائية.  أما المنهج المطلوب فى المرحلة الانتقالية هو التمثيل العادل للقوى الاجتماعية والسياسية في إدارة الفترة الانتقالية. للاسف من الوهلة الأولى تعاملت إدارة بايدن مع الأزمة من منظور أحادي أىّ أنها تبنت رؤية طرف من أطراف القوى المدنية والسياسية التى لا ترغب في مشاركة الآخرين فى الفترة الانتقالية وحاولت الإدارة أن تعالج الخطأ بخطأ آخر بشكل متعمد أقرب إلى فكرة إدخال جسم مكعب فى فوهة دائرية أو كما يقال  فى المثل الانجليزى To fix a square peg in a round hole  ومن الملاحظ اللجنة الرباعية  طيلة تعاملها مع الأزمة لم تبرح محطة  الانحياز الواضح لطرف سياسي دون الأطراف الأخرى النشطة في الساحة السودانية، فى الوقت الذى كانت الساحة السياسية تعاني من انقسام عميق حول برنامج الفترة الانتقالية وكان من المفترض أو لنقل من المصلحة العليا للسودان وقتئذ وللان ان تكون الاولوية هى إيجاد صيغة للمشتركات الحد الأدنى يقوم عليها وفاق وطنى دون أن يقصي طرفٌ طرفاً آخر. الادهى والأمر كانت الأطراف الإقليمية والدولية مصممة على إرغام معظم أصحاب الشأن لقبول برنامج فترة انتقالية يُعطى الأفضلية لمجموعة سياسية واحدة من بين عدد كبير من مجموعات سياسية تطرح نفسها فى الساحة ومما زاد الطين بلة مع هذا الاصرار تطورت الأمور الى الأسوأ عندما فكرت الرباعية بمنتهى اللامبالاة فى خلق آلية تعمل بحدين مزدوجتين، سياسية وعسكرية من قوى مدنية (قحت )  وقوة عسكرية (الدعم السريع) لتنفيذ مشروع جديد للمرحلة الانتقالية تحت مسمى الاتفاق الاطارى. الإدارة الجديدة  فى البيت الأبيض أى إدارة ترامب لم تكن غائبه عنها كل ذلك النشاط المحموم الذي ادخل السودان فى ورطة لأن الجمهوريين فى المؤسسة التشريعية كانوا يراقبون ما يجرى فى السودان من بعيد، بل عدد من النواب الجمهوريين تصدوا لمنهج الرئيس بايدن في إدارة الازمة فى السودان وعندما يستأنف الرئيس ترامب مهامه فى البيت الأبيض لن يبدأ ملف السودان من الصفر كما ذكرت من قبل إنما غالباً يستند على ما أسسه الجمهوريون فى فترة المعارضة.

الملاحظة الأخرى الرئيس ترامب فى هذه المرة لم يفز على الصعيد الرئاسة فحسب إنما أصبح له شبه السيطرة على مجلسي الشيوخ والنواب مما يعنى إدارته قد تعمل دون قيود أو عراقيل قد تنتج جراء مماحكات ومكايدات سياسية من خصومه الديمقراطيين داخل أروقة مجلسى الشيوخ والنواب ولو حاولنا ربط هذا الوضع البرلمانى المريح بما يجري من الانتهاكات فى السودان بسبب الحرب من المرجح كتلة الجمهوريين فى المؤسسات التشريعية اغلبهم لهم مواقف صارمة ضد الانتهاكات التي ترتكب ضد المدنيين فى السودان بل ذهبوا أبعد من إعلان موقف إلى مطالبة تصنيف الدعم السريع منظمة إرهابية.

لن يكون هناك خلاف كبير بين المراقبين للسياسة الامريكية بأنّ أولويات السياسة الخارجية لإدارة الرئيس ترامب سوف تحدد مستوى تدخل أمريكا فى الأزمة السودانية وطريقة التعامل معها.

فى يونيو 2024 وفى إطار السباق إلى البيت الأبيض أعلن ترامب أنه فى حال فوزه سوف يعمل على إنهاء كل الأزمات التي خلفتها الإدارة السابقة فى مناطق النزاع المختلفة فى العالم .

قد لا يختلف اثنان فى إنّ هذا خطاب سياسي لن يتم تنفيذه كما يجب أو كما يتمناه أصحاب الشأن لكن من المؤكد الادارة الجديدة سوف تبذل جل الوقت والطاقة في الجبهات قد تؤثر سلباً على درجة الاهتمام للقضية السودانية ومن أهم هذه الجبهات :-

الحرب الروسية الأوكرانية ودور أوروبا فى حلف ناتو. فى هذه الجبهة غالباً ترامب يسير فى اتجاه التسوية يعنى، الإسراع فى الوصول إلى اتفاق بين روسيا وأوكرانيا، وإذا نجح ترامب فى التسوية تلقائياً احدث اختراقاً كبيراً فى الجمود الذي يسود الآن داخل أروقة مجلس الأمن  بشأن تمرير قرارات المجلس وبذلك سوف يستعيد لمجلس الأمن ديناميكيته فى اتخاذ القرارات، وهنا يتطلب من الحكومة السودانية أن تستعد من الآن لمواجهة تداعيات مثل هذه المستجدات والمطلوب من الناحية الدبلوماسية هو أن تدرك الحكومة اهمية كسب الأطراف التي تتمتع بحق الرفض ( فيتو).

فيما يخص أزمات السودان التى تثير اهتمام الولايات المتحدة نستطيع أن نقول الأزمات والصراعات المتراكمة فى السودان ساهمت فى تدخل امريكاً بشأن السودان منذ وقت مبكر من هذا القرن، ومعظم المخاوف الأمريكية تجاه الوضع فى السودان سواء كانت ذات الصلة بالوضع الداخلي أو بالعلاقات الخارجية لا زالت تنتظر تسويات جريئة .  مثلاً البحر الأحمر جزء منه يشكل  جغرافية السودان وأهم ممر مائي تتصارع فيه قوى دولية مختلفة بل على امتداد البحر الأحمر بدءً من باب المندب إلى قناة السويس كانت ولا زالت من المناطق التى تؤثر مباشرة على استقرار منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقى وحركة مرور التجارة الدولية بل ومنذ زمن ليس بقصير أصبح البحر الأحمر بؤرة للأنشطة ذات الصلة بالأمن والسلم الدوليين لذا بعض القوى الدولية والاقليمية ترى من الضرورة لديها نفوذ فى هذا الممر المائي الاستراتيجي ومن هنا جاء اهتمام بعض الدول بالمنافذ البحرية فى السودان وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. القوى الدولية والإقليمية المهتمة بالبحر الأحمر الجزء الخاص بالسودان هى الولايات المتحدة وروسيا والإمارات العربية و بدرجة أقل، إيران وتركيا والسودان فى تعاملها مع هذا الصراع الدولى تجد نفسها فى وضع لا يحسد عليه وكل طرف قد تستغل أزمة الحرب الجارية لفرض نفسه بديلاً لخصمه وأبرز صراع حول الوجود فى البحر الأحمر هو بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وبالتالى نتوقع من دونالد ترامب موقفاً متشدداً فى إدارة ملف السودان فيما يخص البحر الأحمر.  أما من ناحية تعامل الرئيس دونالد ترامب مع القضايا الأخرى ذات شأن بالسودان مثل الديمقراطية والهجرة الدولية والإرهاب لن تكون مكان اهتمام كبير مثل ملف البحر الأحمر ومن المحتمل منهجه فى التعامل بخصوص الفترة الانتقالية والحكومة المدنية فى السودان قابل للتسوية أكثر من منهج حكومة بايدن، وفى شأن الحرب الجارية سبق أن اتخذت كتلة الجمهوريين  فى المؤسسة التشريعية مواقف صارمة تجاه انتهاك حقوق الإنسان، وهي مواقف سبقت وصول  دونالد ترامب  إلى البيت الأبيض ومن الأرجح الادارة الجديدة لن تتهاون في التعامل مع الانتهاكات التى ترتكب ضد المدنيين فى الحرب الجارية ولن تتردد فى رفع العصا في وجه الدعم السريع كمنظمة إرهابية.

مشكلة الشرق الأوسط بصفة عامة مع التركيز حول ملف حرب غزّة وملف النووي الإيراني قد لا تكون لها تأثير كبير على مجريات الاحداث فى السودان ولكن هناك خيط رفيع  يربط العلاقات الاستراتيجية لبعض دول الخليج النشطة فى الأزمة السودانية مثل الإمارات مع الولايات المتحدة من جهة وعلاقاتها مع إسرائيل من جهة أخرى مع وضع فى الاعتبار العلاقة التقليدية بين إسرائيل وأمريكا هذا الخيط الرفيع قد يشكّل عاملاً محتملاً يؤثر على طريقة تفكير الإدارة الأمريكية فى الملف السودانى ،اضافة ملف الشرق الأوسط بصفة عامة سوف يمتص معظم الوقت والتفكير للإدارة الجديدة على حساب القضية السودانية.