اكتشاف أثري لقلعة شنان.. تعويض مبكر لسرقة آثار السودان
محمد التهامي شندي 8 نوفمبر 2024 – في أحدث اكتشاف أثرية، أعلن فريق سوداني عن اكتشاف موقع أثري وتاريخي بقلعة شنان، شمالي السودان، يضاف إلى مئات المواقع الأثرية في البلد الممزق حاليا بحرب داخلية منذ أبريل 2023، لم تسلم منها الآثار.
وتم الاعتداء على الآثار وتخريبها وسرقتها وبيعها بأثمان بخسة داخل وخارج السودان، ليكون اكتشاف موقع قلعة شنان، تعويضا عن كل ذلك، حسب مهتمون بالآثار.
وضم فريق المكتشفين أساتذة وطلاب من قسم الآثار والسياحة بجامعة شندي وركز الفريق جهده بقلعة شنان حيث أسفرت الحفريات عن اكتشافات أثرية لحياة تعود لآلاف السنين، حياة غنية ومعقدة تشتمل على أدوات حجرية بدائية وبقايا معابد ومدافن، تعكس ثقافة ومعتقدات شعوب المنطقة قرونئذ.
عندما بدأ الطلاب والباحثون بقيادة الدكتور عثمان سليمان، أستاذ قسم الآثار والمتاحف بجامعة شندي، عمليات التنقيب، لم يكن هدفهم مجرد العثور على قطع أثرية، ولا تعليم طلاب كلية الآثار، بل هدفهم إحياء قصص شعوب قديمة.
ويقول الدكتور سليمان: “الأدوات الحجرية التي عثرنا عليها تظهر آثار استخدام متكرر، ما يدل على مهارة صانعيها وتفاعلهم مع الطبيعة حولهم. ربما كانت هذه الأدوات تُستخدم في الصيد وجمع الغذاء، ما يعكس حياة يومية متصلة بشكل وثيق بموارد الطبيعة”.
وتشير الحفريات إلى وجود مجتمع مستقر اعتمد على النيل، ليس فقط كمصدر للحياة، بل كرمز ديني أيضاً، ووُجدت بعض الهياكل العظمية في أوضاع دفن مختلفة، مما يشير إلى وجود طقوس جنائزية خاصة، تعكس الاعتقادات التي كانت تهيمن على حياة وموت سكان تلك الحقبة.
شواهد عظيمة
ومع تعمق الباحثون في التنقيب، بدأوا بالكشف عن آثار من حضارة مروي، تلك الحضارة التي ازدهرت على طول نهر النيل شمال السودان، وحظيت بمكانة فريدة في التبادل الثقافي والتجاري مع حضارات مجاورة كالمصرية والرومانية.
ويشير الدكتور محمود سليمان، مدير المواقع الأثرية في مروي، وهى إدارة تتبع للهيئة العامة للآثار والمتاحف، إلى أن بقايا المعابد الضخمة والأضرحة المزينة برسوم جدارية ملونة، والتي وجد منها في بقعة شنان، تعد شواهد على عظمة الحضارة المروية وتطورها، ويتابع: “تلك الجداريات ليست مجرد زينة، بل وثائق صامتة تحكي عن معتقدات المرويين وطقوسهم الدينية، وعلاقتهم بالحضارات المجاورة عبر رموز مشتركة”.
كما كشفت الحفريات عن قطع فخارية مزخرفة بتصاميم هندسية معقدة، تعكس براعة الصناعة اليدوية وذائقة الفن في تلك الفترة وتشير الدراسات إلى أن هذه الأواني كانت جزءا من اقتصاد زراعي متقدم استخدمت لتخزين المحاصيل أو في الطقوس الدينية، مما يبرز الصلة الوثيقة بين الاقتصاد والدين في تلك الحقبة.
وتقع قلعة شنان – الاكتشاف الحديث – في قلب سهول مروي الواسعة، بين مجرى نهر النيل والوديان الخصبة، وتبعد عن العاصمة الخرطوم نحو 180 كيلومترا شمالا، وعن مدينة شندي بولاية نهر النيل نحو كيلومترين، ويجمع المهتمون على انها ستقف من الآن شاهدة على تعاقب الحضارات الإنسانية في السودان، حيث يمتد تاريخها منذ العصر الحجري وحتى حقبة مملكة كوش.
وتجسد قلعة شنان عظمة الحضارات التي ازدهرت على ضفاف النيل، لتكون نافذة على التاريخ العريق للسودان.
تحديات الاكتشاف
رغم الأهمية التاريخية الكبيرة لقلعة شنان، إلا أنها تواجه العديد من التحديات التي تهدد بقاءها.
ويشكل التغير المناخي والتعدي السكاني الذي زاد بعد اندلاع الصراع في السودان، بنزوح الآلاف للمنطقة أبرز التحديات.
ويقول الدكتور هشام خضر كرار، باحث في علم الآثار: “إن مشكلات البشرية تعقد جهود المحافظة على الموقع، مثل التوسع العمراني وأعمال التخريب”.
وعلى الرغم من أن قلعة شنان لم تتعرض للنهب، كما حدث لبعض المتاحف والمواقع الأخرى خلال النزاع الحالي، فإن غياب الوعي حول أهمية الحفاظ على هذا التراث الثقافي يجعل التعدي البشري تهديداً حقيقياً.
في هذا السياق، يبرز دور المجتمع المحلي كعنصر أساسي في حماية قلعة شنان من خلال وتوعية السكان بأهمية الموقع، يمكن تعزيز مشاعر الانتماء وتحفيزهم على الحفاظ على هذا التراث كجزء من هويتهم – طبقا لقول كرار -.
ويؤكد كرار، على ضرورة تشجيع السكان المحليين على الإبلاغ عن أي أعمال تخريب أو محاولات لتهريب الآثار، مشيرا إلى أن “المجتمع المحلي يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في حماية الموقع والحفاظ عليه للأجيال القادمة”.
ويضيف قائلا “كما يمكن أن يكون للمجتمع المحلي مكسب اقتصادي من خلال توفير المشروع الأثري، فرص عمل في مجال السياحة والبحث الأثري، ما يعزز من التعاون بين سكان المنطقة والخبراء في الحفاظ على التراث. هذه الشراكة يمكن أن تكون أساسا لتنمية مستدامة، حيث يمكن توجيه جزء من عائدات السياحة نحو تطوير وحماية الموقع”.
مكانة المرأة
وتشير الأدوات المنزلية والأواني الفخارية المكتشفة في الموقع إلى دور المرأة في الحياة اليومية للمجتمعات القديمة، وربما تكون هذه الأدوات استُخدمت لتحضير الطعام أو تخزين الحبوب، مما يعكس الدور الحيوي للمرأة، ليس فقط كراعٍ للأسرة، بل أيضا في الطقوس الدينية والاجتماعية ومن خلال دراسة هذه الأدوات، نحصل على لمحات حول كيفية ممارسة النساء لطقوس معينة مرتبطة بدورات الحياة، من المعتقدات الدينية إلى الطقوس الجنائزية، مما يبرز دورهن في نقل القيم والمعتقدات عبر الأجيال.
بالإضافة إلى ذلك، يعتقد الباحثون، أن النساء كن ينظمن الاحتفالات المجتمعية والمناسبات الموسمية، حيث يتولين إعداد الطعام وتزيين الأواني.
وتشير التحليلات إلى أن النساء كنّ يشكلن جزءاً من التقاليد الدينية والاحتفالات التي تعد جزءاً من هوية المجتمع.
الدين والحياة
أيضا كان للدين مكانة مركزية في حياة سكان المنطقة القدامى، كما يتضح ليس فقط من خلال المعابد الضخمة والرموز الدينية المكتشفة، بل أيضا عبر الطقوس اليومية. وتشير الهياكل الدفنية بقلعة شنان إلى عادات جنائزية مفصلة، حيث كان يتم إعداد الموتى لرحلة الحياة الأخرى، بناءً على معتقدات ترتبط بعبادة الآلهة القديمة (ابادماك) وعناصر الطبيعة مثل الجبال والنيل.
وكشفت الحفريات كذلك، عن أدلة على ممارسات دفن معقدة، بطرق مختلفة اعتمادا على الوضع الاجتماعي أو الديني، كما عُثر على رموز دينية والأدوات المستخدمة في تلك الطقوس، مما يؤكد العلاقة الوثيقة بين الحياة اليومية والحياة الروحية لدى السكان.
مستقبل قلعة شنان
يسعى الخبراء لتحويل قلعة شنان إلى مركز للأبحاث ووجهة سياحية، خاصة أن دعم المؤسسات الدولية، مثل جامعة أوكسفورد وبعض الجهات الأمريكية والأوروبية، يمكن أن يعزز من تطوير الموقع ويفتح المجال أمام مزيد من الاكتشافات.
ويرى الدكتور محمود سليمان أن هذه الشراكات الدولية ستساهم في توفير تقنيات حديثة لتحليل المواد المكتشفة، مما يعمق فهمهم لتاريخ المنطقة ويسهم في جعل قلعة شنان وجهة سياحية عالمية.
ويضيف: “يتطلب الحفاظ على هذا التراث استثمارا في البحث العلمي وتطوير البنية التحتية للسياحة، وتعزيز التعاون بين الباحثين المحليين والدوليين لضمان تطوير وحماية الموقع كجزء من التراث الثقافي للسودان”.
ودعا الحكومة إلى تخصيص ميزانية دائمة لدعم مشاريع الترميم والصيانة وزيادة الوعي محلياً وعالمياً بأهمية هذا الموقع التاريخي.
ويشدد البعض على وجوب بقاء قلعة شنان، رمزا للهوية السودانية وحافظةً للتراث الوطني للأجيال القادمة، مشيرين إلى أن الحفاظ على هذا الكنز الأثري ليس واجباً وطنياً فحسب، بل هو مسؤولية جماعية تتطلب تضافر الجهود بين المجتمع المحلي والمؤسسات العلمية والدعم الدولي.