لا سلامَ في السودان بدون منبرٍ موحّد
الشفيع خضر سعيد
نواصل تسليط الضوء على ما دار في ملتقى الحوار الأفريقي للسلام والأمن الذي نظمته ورعته مؤسسة الرئيس تامو أمبيكي خلال الفترة من الرابع إلى السادس من أكتوبر/تشرين الأول الجاري في جنوب أفريقيا، وشارك فيه عدد كبير من الرؤساء ووزراء الخارجية والدفاع الأفارقة، في الخدمة والسابقين، إضافة إلى قيادات العمل العام والمجتمع المدني والأكاديميين ومراكز البحوث والدراسات.
وكما أشرت في مقالي السابق، فإن الملتقى تناول بالتفصيل بعضا من التحديات التي تواجه قضايا السلام والأمن في أفريقيا، وكيفية المضي قدما نحو تحقيق النهضة الأفريقية عَبْرَ تعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان والتكامل الإقليمي، والسعي إلى تعزيز ثقافة التفكير النقدي والمشاركة الفكرية بين القادة والعلماء والمواطنين الأفارقة بشأن القضايا ذات الأهمية القارية والعالمية. وبالإضافة إلى أن معظم المداخلات تطرقت إلى مسألة الحرب في السودان، فإن الملتقى خصص جلسة كاملة عن السودان ابتدرت بتقديم ومناقشة تقرير مفصل عن التحديات التي واجهت الآلية الأفريقية رفيعة المستوى المعنية بتنفيذ متطلبات السلام في السودان خلال فترة عملها الممتدة من العام 2009 إلى 2014، والتي كونها الإتحاد الأفريقي من ثلاثة رؤساء دول سابقين: تابو مبيكي (جنوب أفريقيا) رئيسا، وعضوية عبد السلام أبو بكر (نيجيريا) وبيير بويويا (بوروندي). التقرير منشور كاملا في موقع مؤسسة تابو مبيكي وعدد من المواقع الإسفيرية الأخرى، ولكن في مقال اليوم، نتناول فقط بعض الفقرات الواردة في ختام التقرير والمتعلقة بالوضع الراهن في السودان.
يطلق التقرير قذيفة مدوية بأن لا يوجد منبر سلام واحد موثوق لحل الحرب الأهلية الحالية في السودان. ويشير إلى أن منبر جدة كان استجابة أولى منطقية لاندلاع العنف أسفرت عن نتيجة مهمة واحدة وهي الالتزام بحماية المدنيين، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية وتجنب مهاجمة البنية التحتية المدنية، بما في ذلك الاحتلال والتواجد في المرافق الطبية والأحياء السكنية. ولكن لم يحترم أي من الطرفين هذا التعهد، وكان من الأفضل أن يعترف المنبر بالفشل المشرف بدلا من الاستمرار. ثم عمد منبر جدة لإعادة هيكلته وتكييف عملة، فقام أولا بإشراك الاتحاد الأفريقي لتوفير وجه أفريقي يتولى إدارة سلسلة من المشاورات مع المدنيين، ثم قام بإشراك مصر والإمارات كمراقب في مبادرة التحالف من أجل تعزيز إنقاذ الأرواح والسلام في السودان التي تستضيفها جنيف. ومع ذلك، في السياق العالمي الحالي، فإن القيادة الأمريكية تثير حتما الشكوك بين الجهات الفاعلة الرئيسية الأخرى، بما في ذلك الصين وروسيا. وبالطبع، بقدر ما تكون الأزمة، جزئيا، تنافسا على ساحة البحر الأحمر في السودان، فإن الولايات المتحدة هي جهة فاعلة في هذا التنافس. لكن تبقى الحقيقة الهامة هي أنه بدون تحديد المشاكل الأعمق، يصبح الهيكل المحدود وأجندة مثل هذه العملية عائقا. فلكي تكون العملية ذات مصداقية، فإنها تحتاج إلى تحديد جوهر الأزمة السودانية بدلا من مجرد رصد تسلسل عناصر تجلياتها.
تقدمت دول ومنظمات أخرى بمبادرات سلام للسودان، وسعت كل من هذه المبادرات ظاهريا إلى سد الفجوة في عملية جدة، ولكن من الصعب أن نهرب من التخمين بأن كل مبادرة تخدم في المقام الأول تأكيد أهمية الجهة الراعية لها وتحييد المبادرة الأخرى المنافسة.
وفي هذا السياق، عانت جهود مبادرة الإيقاد من غياب القيادة السياسية الموحدة، وبالتالي الافتقار إلى تعريف مشترك للمشكلة، وركزت على جمع البرهان وحميدتي حول أجندة وقف إطلاق النار، وهو ما لم ينجح. وفي حين ذهبت القاهرة إلى أبعد من غيرها في استكشاف الأجندة السياسية الأوسع، فإنها ركزت أيضا على القضايا العاجلة، بما في ذلك وقف إطلاق النار، والمساعدات الإنسانية، وعبء اللاجئين على البلدان المجاورة. أما “العملية الموسعة” للاتحاد الأفريقي فقد وُلدت كملحق للعملية الأمريكية السعودية، في محاولة لجعلها أكثر شمولا، مؤكدة الحاجة إلى “حل أفريقي”، على الرغم من أن المشكلة ليست أفريقية حصرية، كما أن مفوضية الاتحاد الأفريقي كانت تتحرك وكأنها مدفوعة بأهداف ذاتية تتعلق بتأكيد مصالحها الخاصة. صحيح شارك في عملية المنامة قيادات عليا من الطرفين كما شملت الإمارات كوسيط، لكنها افتقرت إلى دعم السعودية والوجود الإماراتي رفيع المستوى الذي كان سيجعلها فعالة. وعموما فإن النتيجة النهائية لهذه المبادرات المتعددة، هي أنها تلغي بعضها البعض.
ويشير التقرير إلى أن الاضطرابات في جميع أنحاء ساحة البحر الأحمر، وخاصة التنافس بين السعودية والإمارات، هي العقبة الاستراتيجية الشاملة أمام إنشاء عملية سلام موحدة وموثوقة للسودان، وبالتالي استراتيجية للاستقرار الإقليمي تشمل جنوب السودان ودول الجوار الأخرى. وفي حين لا تستطيع الرياض وأبو ظبي تحديد تسوية سياسية مشروعة في السودان، فإن كلا منهما يمكن أن يمنع التقدم نحو مثل هذه التسوية. أما عالميا، فإن ضعف ما استثمر من جهد لإيجاد استراتيجية مشتركة لحل الكارثة السودانية، ربما يوحي بأن السودان يحتل مرتبة منخفضة في قائمة التحديات الاستراتيجية والعاجلة.
إن الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والإيقاد، وجامعة الدول العربية، هي وحدها التي تتمتع بالشرعية اللازمة للتنسيق، لكن هذا لا يكفي لتحقيق النجاح، فقط ربما يجنبنا الفشل. ولكن هذه المنظمات غالبا ما يعوقها التركيز على العملية، وهي بعيدة كل البعد عن المرونة، وعادة ما تتردد في تعريف المشكلة على النحو الذي قد يزعج أي دولة عضو، بما في ذلك الدول الراعية للأطراف المتحاربة.
ونظرا لعدم إحراز أي تقدم نحو وقف الحرب، بينما يفتخر المتحاربون بقدرتهم على القتال إلى أجل غير مسمى، ويتناقص كل يوم الموعد النهائي الذي فرضه منطق المجاعة، فربما العاجل والأكثر فائدة ليس بحث إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام شامل أو “بالقطعة”، وإنما كيف يمكن انسياب المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين، وفرض وقف إطلاق النار ولو جزئيا ومؤقتا.