قادة الدعم السريع وفخ الإغراءات
حسين اركو مناوي
الحياة تستهوي قلوب الناس بمغريات وتستبد بهم بل وتقودهم إلى موارد الهلاك . كلما كانت المغريات كبيرة كلما اتسعت دائرة الورطة وارتفعت وتيرة الانتحار والشواهد لا تعد ولا تحصى في التجربة البشرية وأمامنا اليوم تجربة منظومة الدعم السريع بسبب اغراءات. من يتتبع التطورات التي حدثت فى منظومة الدعم السريع في تاريخها الذي لا يتجاوز عقداً من الزمان يشاهد المرء كيف استبدت مغريات الحياة بقيادة الدعم السريع وساقت به إلى أتون محرقة لا تبق ولا تذر بل وأدخلت كل السودان وكثير من دول الجوار في نفق مظلم يكاد ينعدم في نهايته اىّ بصيص للخروج من هذا المأزق في الوقت الراهن، ومن الأرجح الدول المتورطة فى هذا الصراع تلاحقها تداعيات مريرة لن تنفك عنها لسنوات طويلة .
نستطيع أنْ نجزم هناك أكثر من شاهد يصف لنا كيف وقع قادة الدعم السريع في ورطة تحت وطأة مغريات سياسية وعسكرية ومادية، وكانت كل حالة ما هي إلا ذلك السراب الذي يستدرج الإنسان في كثبان رملية وسط الصحراء وفي النهاية يكون حظه الموت من الظمأ أمام السراب .
الحالة الأولى:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها…
فما بشمن وما تفنى العناقيد.
هذه الحالة كما جاءت في شعر أبى الطيب المتنبى، هي حالة لوصف درجة التفريط والإهمال والتهرب من المسؤولية.
فعلاً وجد محمد حمدان دقلو قائد الدعم السريع فرصة لا تقدّر بثمن من خلال حالة السيولة التى عمت كل مناحي الحياة في البلاد وقد مكنته من وضع اليد على كنوز وثروات طائلة من حر مال السودان. لو تحملت الحكومة السودانية او قل الشعب السوداني عامة أعباء حراسة ثروات البلاد مثلما النواطير يحرسون الحدائق وثمراتها ما كان ل حميدتى أن يجد فرصة نهب ثروات طائلة، قناطير مقنطرة بل وأطنان من الذهب من مناجم جبل عامر وسونقو وغيرها أو عائدات الصادرات بلا رقيب. قيادة الدعم السريع أغرتها الفرص لكي تغامر في طلب السلطة، فقد حدثني صديقُ محسوب على الدعم السريع ايام مفاوضات جوبا عن قدراتهم داخل أسوار القيادة العامة وكان يتحدث بنشوة وغرور وكنت احسب ما يقوله مبالغة ولكنه أقسم بالله بانّ عدد قواتهم المدججة بأنواع مختلفة من الأسلحة داخل أسوار القيادة العامة يتجاوز 300 لانكروزر ومدرعة وهو عدد كفيل بأن يحتل القيادة العامة في سويعات اضافة الى الوجود المكثف للدعم السريع في مواقع استراتيجية اخرى. هذه الحالة كانت بمثابة حافز سحري دفع بقيادة الدعم السريع في التفكير حول الوصول إلى سدة الحكم من خلال استخدام هذه الثروة الطائلة والإمكانيات الضخمة وبسبب هذه القدرات المادية لم تكن في حسبانهم عملية الصعود إلى قمة السلطة بالأسلوب الذي انتهجوه تكلفهم أهوالاً تشيب منها الرؤوس. فعلاً جاءت تلك المغامرة نتيجة البطر بالنعمة والغرور والإنسان بطبعه يصاب بغرور في لحظة القوة ويلجأ إلى سوء التدبير وحينها تخرج الأمور من يده مثلما عبّر عنها احد الاخوة وضعية قادة الدعم السريع وقارنها بوضعية ملياردير الأمريكي بيل غيتس فقال ، ” اذا كان بيل غيتس استطاع أن يدير بحكمة على ثروته التي تتجاوز 80 مليار دولار لعشرات سنوات فكيف لحميدتي لا يحسن على إدارة ومحافظة مبلغ قد لا يتجاوز 20 مليار دولار؟ ” الاخ هنا يسخر من الطريقة التي تجرأ حميدتي على ركوب المغامرة بسبب الثروة التي تكدست عنده وكانت ثروته فعلاً من المغريات التي قادته الى المهالك.
الحالة الثانية:
لا يوجد امْكَر من الثعلب، ومع ذلك الأسواق مليئة بفروه.
مثل كردى
هذه هي الحالة الثانية التي قادت الدعم السريع إلى ركوب المنايا. قادة الدعم السريع عندما فكروا في مغامرة ارتياد السلطة في السودان بتلك الكيفية كانوا لا يفهمون هناك دعائم اساسية غائبة عن تفكيرهم بالاخص المعرفة والخبرة واعتمدوا إلى درجة كبيرة على ذكائهم الفطري واتضحت لهم اخيراً اهمية المعرفة والخبرة في ادارة الحرب وهي حالة أقرب إلى تفكير الثعالب فى الاستخفاف بالأدوات والخبرات التي تُعينُ الصيّاد في استدراج فريسته في الشرك .
خلفية قادة الدعم السريع توضح تماماً هم أناس غِرّة لا خبرة لهم في شؤون الحكم وأمور الدولة ومع ذلك فقد أقدموا على الوصول إلى سدة الحكم عبر مغامرة محفوفة بمخاطر جمة. إن كانت الإمكانيات التي توفرت لهم خلال فترة 2019 الي 2023، قد شجعتهم أكثر في ركوب المغامرة، آلا أنهم اعتمدوا إلى حد ما على قدراتهم في التفكير وعلى استشارات كانوا يتلقونها من جهات خارجية ذات مصلحة بتطورات الأوضاع في السودان بعد ثورة 19 ديسمبر 2018 واستشارات من قوى حزبية لها المصلحة في السيطرة على السلطة في السودان مهما كلفت البلاد، ولأنّ القوى الحزبية في حاجة ماسة إلى قوة خشنة فقد اختارت أن تكون الدعم السريع سنداً لهم في مواجهة مؤسسة الجيش السوداني ومواجهة مجموعات أخرى سياسية وعسكرية ذات شوكة يمكن أن تقف حجر عثرة أمام انفرادهم بالسلطة في السودان.
سياسياً السودان له تجربة فريدة في السلطة بسبب الصراع السياسي المرير الذي استمر أكثر من ستة عقود ومؤسسة الجيش هى الأكثر خبرة في الوصول إلى السلطة عبر الانقلابات واىّ قوة أخرى تريد أن تصل إلى السلطة بمحاكاة الجيش قد تتعرض للانتكاسة بالأخص قوة مثل الدعم السريع، وقد أثبتت تجربة 15 أبريل 2023 هذه الحقيقة. هناك رصيد ضخم من التجربة في الوصول إلى السلطة في السودان وخاصة عند المجموعات المسلحة من لدن اتفاقية أديس أبابا 1972 حتي اتفاقية جوبا للسلام 2020, ، التجارب المشتركة لا تتماشى مع الطريقة التي حاول بها محمد حمدان دقلو الوصول الي السلطة، إنما هناك اتفاقات وحشد سياسي لإجراء إصلاحات في الدولة السودانية . قيادة الدعم السريع فى تلك المحاولة اعتمد على ميزات كثيرة ولكنها تنقصها المعرفة والخبرة السياسية على قراءة عميقة للمشكلة السودانية من زاوية واسعة فمهما اعتمدت قيادة الدعم السريع على الذكاء الفطري فإنه من الصعب سبر غور تعقيدات الدولة العميقة كما سماها روبرت زولك نائب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ويبدو قيادة الدعم السريع فاتت عليها الحكمة الشائعة ” المجرّب ولا الطبيب”. الذكاء الفطري أو التفكير الثعلبي كان أكبر كارثة ساهم في انتكاسة المحاولة الانقلابية في الساعات الأولى لأن قادة الدعم السريع اعتمدوا في الدرجة على التفكير المجرد المسنود بمعطيات مادية على الأرض، دون اىّ خبرة سابقة مُسانِدة للمعطيات أو فهم صحيح لتعقيدات السياسة السودانية، كما أن الذين قدموا لهم الاستشارات ،البعض معرفتهم للسودان لم تكن علي قدر تعقيدات السودان اضافة لم يكشفوا كل أوراقهم لقادة الدعم السريع، أما كثير من القوي السياسية التي ساندت الانقلاب كانت الاولوية عندهم ان تصطدم الجيش والدعم السريع وغالباً لهم حسابات خاصة ليست بالضرورة تتماشى مع حسابات قادة الدعم السريع وهذه هي النقطة المهمة غائبة لدى قيادة الدعم السريع وفي النهاية مهما استخدم محمد حمدان دقلو ذكائه الفطري أنه وقع في مصيدة كما تقع الثعالب في شراك الصيادين.
الحالة الثالثة:
فبعثت جاريتي، فقلت لها… اذهبي فتجسسى أخبارها لى واعلمى.
قالت رأيت من الأعادي غرّة…. والشاة ممكنة لمن هو مرتم.
هذه الأبيات من روائع الشاعر الجاهلي عنتر بن شداد وهو من فحول الشعراء .
المغزى في هذين البيتين يدور حول الحصول على المعلومة والقدرة على التجسس.
كانت هناك مراكز تجسس تتبع لقادة الدعم السريع فهم يمتلكون جيوش من الجواري وليست جارية واحدة تتجسس وتسترق السمع سواء على كل من يشك فيه أو لا يشك .
محمد حمدان دقلو في فترة وجيزة تحول إلى إمبراطورية إعلامية ضخمة لها أذرع داخلية وخارجية كثيرة وإمكانيات تقنية مهولة قادرة على التجسس وقيل تُدار هذه الإمبراطورية بخبرات دولية مرموقة إلى درجة كان هناك برج خاص للاتصالات في الخرطوم يتبع للدعم السريع. إذاً المعلومات التي تتدفق على مدار الساعة عبر هذه الأذرع المختلفة اكيد توفر الاطمئنان والاريحية في اتخاذ القرار. وواضح اسرة دقلو في خطتها اعتمدت على جزء كبير من المعلومات التي توفرت في اتخاذ قرار الاستيلاء على السلطة ولا شك أجهزة التجسس التابعة لقوات الدعم السريع هي التي وفرت تلك المعلومات، وبهذه المناسبة كان حميدتي لا يتورع في التجسس على افراد أو مؤسسات ومن ثم ابتزازهم ومع ذلك كان الرجل يتعامل مع الإمكانيات المتقدمة التى بحوزته بشئ من السذاجة وسوء الاستخدام، فمن المواقف الغريبة والداعية للسخرية حدث عندما كان وفد السيد منى مناوي في طريقه لزيارة الأستاذ صديق يوسف ايّام كان الأستاذ صديق مريضا. كانت أجهزة التجسس والتصنت للدعم السريع تتجسس على دردشات الوفد الذي يتكون من السيد مناوي وحرسه الشخصي بيتر والاستاذ نورالدائم طه مسؤول الإعلام في حركة التحرير، وعندما جمعت بهم الظروف بقائد الدعم السريع لاحقاً أخبرهم بتفاصيل ما دار في تلك الدردشات وقالها بأسلوب لا يخلو من الابتزاز.
ما يهم القارئ في هذا الجانب هو في لحظة من اللحظات كانت وفرة المعلومة شكلت دعماً معنوياً لقادة الدعم السريع وجعلتهم في حالة نشوة واذهبت عنهم التحفظ في دخول في مغامرة السيطرة على السلطة، فيبدو كانت المعلومة تقول لهم إنّ الجيش، المؤسسة التى تقوم بدور حامي حمى الوطن في غفلة(غرّة)، وبالطبع بالنسبة له تُعدّ مؤسسة الجيش من الأعادي اي الخصم وهكذا المعلومة لعبت دوراً في إغواء قادة الدعم السريع فى ارتكاب الحماقة .
الحالة الرابعة:
بغاث الطير أطولها رقاباً…ولم تطل البزاة ولا الصقور.
خشاش الطير أكثرها فراخاً…وأم الصقر مقلات نزور.
ضعاف الأسد أكثرها زئيراً….واصرمها اللواتي لا تزير.
لو حاولنا نقيّم قرار قادة الدعم السريع حول إسقاط مدينة الفاشر لا بد من ربط ذلك القرار بمعطيات واقعية على الأرض. أحياناً بعض الظواهر تربك التفكير في التقييم الصحيح للأشياء وتعطي تقديرات خاطئة تضلل الإنسان في اتخاذ القرار الصحيح، وهذا بالضبط ما حصل في الأخذ بأسباب انتصارات الدعم السريع فى بعض المدن في دارفور ومحاولة إسقاط تلك التجربة في مدينة الفاشر.
واضح خطة إسقاط مدينة الفاشر بُنيت على معطيات وحسابات ذات صلة بالظروف التي أحاطت إسقاط مدينة نيالا وزالنجي والجنينة.
بعد أنْ انتقلت الحرب إلى دارفور، سقطت مدن رئيسية فى دارفور بشكل دراماتيكي وفي وقت وجيز حيث الفارق الزمنى بين سقوط نيالا وسقوط زالنجي وسقوط الجنينة لا يتعدي اسابيع قليلة. هذا التطور شجع قيادة الدعم السريع وحلفائها من القوى السياسية السودانية والإقليمية أن تفصّل لاستراتيجية إسقاط الفاشر جلباباً بمقياس نيالا وزالنجي والجنينة، وقد لجأت الدعم السريع الى هذه الخطة بناءً على عدد مقاتليه وكثافة النيران اي دون ان تعطى اعتباراً لنوعية الجيش الذي يتولى مهمة إسقاط الفاشر فكان عندهم العدد هو الأهم وليست النوعية.
الفرق بين الحرب على مدينة الفاشر والحرب على المدن التي سقطت في دارفور ليس فرق المقدار إنما فرق النوع . القوة القتالية الموجودة فى الفاشر متنوعة، فيها الفرقة السادسة، وقوات الكفاح المسلح و المستنفرين والأهم أنها متسلحة بخبرات عالية وعقيدة قتالية تناسب طبيعة هذه الحرب فضلاً عن أنها شبّت على مبادئ وقِيَم عليا ظلت تقاتل من أجلها لمدى عقدين من الزمن. نعم حتى لو الدعم السريع تتفوق عليهم من حيث العدد فإنّ حماة الفاشر تتفوق نوعياً بما تشبه المواجهة بين الكواسر وبقية الطيور وبين الأسود وبقية السباع. القوى المحتشدة في الفاشر طراز فريد من المقاتلين مما حولت الفاشر السلطان إلى عرين اسود وقمم بزاة تري فيها الأسد والباز والصقر والنسر. المعركة هناك فعلاً تدار بقدرات أشبه بحرب بين أسراب من الطيور في مواجهة البزاة والصقور وزمرة الأسود فى مواجهة قطيع من الذئاب .
حسين اركو مناوي
18/6/202