Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

منهج لوم الضحايا

فيصل محمد صالح

فيصل محمد صالح

أثارت مذبحة قرية «ود النورة» التي ارتكبتها «قوات الدعم السريع»، ووصل ضحاياها، بحسب التقديرات، إلى أكثر من مائة شخص، مشاعر شتى بين الحزن والغضب والرغبة في الانتقام، مثلما أريق عنها حبر كثير يحاول بحث مسبباتها ونتائجها لتحديد مسؤولية كل الأطراف المتورطة فيها. أسخف هذه الاتجاهات وأكثرها بؤساً هو ذلك الذي حاول إلقاء اللوم على الضحايا، باعتبار أنهم استجابوا لدعاوى الاستنفار والتعبئة وحملوا السلاح في مواجهة «قوات الدعم السريع».

تقع قرية «ود النورة» التي هاجمتها قوة من «الدعم السريع» قبل أيام بين ولايتي الجزيرة والنيل الأبيض، وكان التبرير أن أهل القرية قد تدربوا وتسلحوا من قبل الجيش، وبالتالي فهم لا يعتبرون سكاناً مدنيين، وإنما هم جنود عسكريون مسلحون. المؤسف أن هذا التبرير وجد استحساناً عند البعض، واعتبروه مبرراً كافياً للمقتلة، وبالتالي فقد صار الضحايا هم الملومون على موتهم.

قد تكون رواية أن أهل القرية كانوا من أوائل المستنفرين صحيحة، وهناك فيديوهات لمعسكر تدريبي خاطبه ضابط كبير من القوات المسلحة، ولكن السؤال الأهم هنا هو: هل يلام أهل القرية الذين تسلحوا من أجل محاولة الدفاع عن قريتهم وعن أهلهم وممتلكاتهم…؟ الثابت أن «قوات الدعم السريع» ما دخلت قرية ومنطقة إلا واستباحتها. تبدأ بسرقة ونهب السيارات والممتلكات، ثم تجهز على كل من قاومها، ولو باللسان، ورفض الانصياع لأوامرها. وينطبق هذا المثال على كثير من القرى التي دخلتها «قوات الدعم السريع» من دون مقاومة من السكان ومن دون أن يكونوا قد استجابوا لدعوات الاستنفار والتعبئة، ورغم هذا لم تنجُ هذه القرى من عمليات السلب والنهب والقتل. ويعني هذا أن هذا السلوك جزء أصيل من عقيدة وطريقة عمل «قوات الدعم السريع»، بغض النظر عن ردود فعل أهل المنطقة، وطريقة تعاملهم معها، ودونك ما حصل في قرى التكينة والعقدة المغاربة والحرقة…. وغيرها.

لو حمل أهل القرية السلاح لحماية أنفسهم والدفاع عنها، حتى وإن كانوا ضعيفي التدريب والخبرة وفقيري التسليح، فاللوم ليس عليهم، ولكن اللوم على من دفعهم لهذا الأمر، وفي المقدمة «قوات الدعم السريع» بأفعالها وجرائمها المتكررة. ثم اللوم على قيادة الجيش الذي وقف بعيداً يتفرج وكأن مهمته المقدسة ليست الدفاع عن المواطنين وحماية أمنهم وسلامتهم، والاكتفاء بمدهم بالأسلحة الخفيفة، ووضعهم في المقدمة، ثم الانسحاب بعيداً وتركهم يواجهون قوة أكبر منهم عدة وعتاداً وخبرة وتدريباً عسكرياً.

واللوم أيضاً على دعاة الحرب ومشعلي النيران من خلف ستار، الذين يدفعون الناس لمحرقة الحرب وهم يقيمون مع أسرهم في دعة وأمان على بعد آلاف الأميال، والذين يقومون بعمليات التعبئة والحشد للبسطاء من الناس، ويعطون دروساً عن المقاومة والشهادة، ثم يولون الأدبار يوم الزحف تاركين البسطاء من الناس يواجهون مصيرهم المحتوم.

اللوم على من لا يزالون يصرون على المضي في طريق الحرب، ويستمرون في الدعاية لها، ورغم ذلك هم الأعلى صوتاً في التباكي على القتلى، في حين أنه من المفترض أن يدفعهم استمرار القتل ودوران ساقية العنف للاتجاه لتبني الخط المطالب بوقف الحرب. ومن العجب أنهم يريدون الحرب ويستنكرون القتل، وكأن الحرب مباراة في كرة القدم يجب ألا يسقط فيها قتلى!

الحرب لها منطقها، ولا تستجيب لأي منطق آخر، وهي مقرونة بالقتل والعنف والانتهاكات حيثما وقعت، ولا يستطيع طرف أن يستمر في السيطرة على الحرب واتجاهاتها ونتائجها على طول الخط، ودونكم الحرب الروسية – الأوكرانية التي كان بوتين يظنها نزهة قصيرة الأمد، فما بالك بحرب يسقط فيها الطرف الداعي للحرب كل يوم، ويفقد مواقع ومناطق استراتيجية، ويستمر في التراجع والانكسار؟!

اللوم الرئيسي والأساسي يقع على القيادات السياسية والعسكرية والاجتماعية، قادة الفكر والرأي العام، الذين يفترض أنهم على علم ووعي بالواقع الميداني، وتطورات الحرب، وتزايد احتمالات تفكك البلاد وتمزقها بسبب استمرار الحرب، ثم يتنازلون عن الدور المتوقع منهم، ليركبوا مراكب التحريض ويتنافسوا في المزايدة باستخدام الخطابات الشعبوية وخطابات الكراهية لينالوا تصفيقاً هنا وهناك.

القائد الحقيقي، على أي مستوى ولأي قاعدة كانت، يضع مصلحة الوطن والمواطنين كأولوية، ويعلو على دوافع الثأر والانتقام، ويترفع عن المداهنة والتحريض، وقد يناله ما يناله من التهم والمزايدة، ويقابل ذلك بالصبر والاحتساب، ولا نطلب منه أن يكون غاندي أو مانديللا، وقد واجها كل ذلك، ولكن أن يكون متسقاً مع فكره وضميره والدور المناط به.