Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

“جدة” لوقف إطلاق النار…”القاهرة” للحوار

حاتم السر

حاتم السر سكينجو المحامي

أجمع السودانيون بمختلف توجهاتهم وتباين منطلقاتهم الفكرية والسياسية والاثنية على أن تعدد المنابر وتعدد المبادرات ضار جدا بالقضية السودانية، ولن يخدمها، بل حتماً سيلحق بها الاضرار. ورسخت لدي أوساط عريضة من السودانيين، قناعة بان المبادرات المتعددة، والمنابر الكثيرة، أصبحت سبباً مباشراً في تعقيد الأزمة، وتأخير الوصول الي الحلول، بدلاً عن أن تكون سبباً في تفكيك الأزمة، وتسريع خطوات الوصول الي الحلول. واستخدم البعض نظرية المؤامرة وصولاً الي اتهام المبادرات بإطالة أمد الحرب في السودان وتحويل البلاد الي ساحة لصراع الأجندات الدولية والإقليمية ومكاناً لتقاطع وتضارب مصالح الدول.

ومنذ اندلاع الازمة في السودان ظهرت العديد من المبادرات الساعية للدخول على خط التعاطي مع الأزمة وكانت أبرز تلك المبادرات الساعية لوقف الحرب في السودان هي منبر جدة برعاية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الامريكية، ثم مبادرة دول جوار السودان التي نظمتها جمهورية مصر العربية وعقدت لها قمة على مستوي رؤساء الدول في القاهرة وهناك مبادرة الاتحاد الافريقي ومنظمة الايقاد ومؤخراً دخلت جامعة الدول العربية على خط الأزمة السودانية.

ليس من أغراض هذا المقال عقد مقارنة بين المبادرات والمنابر القائمة حالياً ولا المفاضلة فيما بينها ولا تحليل مواقع قوتها ومواضع ضعفها أو استعراض فرص نجاحها من فشلها، بيد أن الهدف هو التأكيد على أن اقتناع الأطراف السودانية كافة بضرر تعدد المنابر والمبادرات ومطالبتهم بالمنبر الواحد، هذا بالضرورة يتطلب موقفاً واضحاً من جميع القوي السياسية السودانية يرجح الوطني على الأجنبي والداخلي على الخارجي ويعلي من شأن الحلول الوطنية. واضعين في الاعتبار خطل التجارب السابقة التي اعتمدت خلالها بعض القوي السياسية السودانية على الاستعانة بروافع خارجية لخدمة مصالحها الحزبية الضيقة وقامت بتبني ودعم مبادرات خارجية ليس لأنها شاملة وكاملة بل لأنها انطلقت من وسطاء لديهم ارتباطات وعلاقات مع تلك القوي. وإذا كانت القوي السياسية السودانية التي أجمعت على رفض تعدد المنابر صادقة وجادة فيما تقول فعلي قادتها ان يترجموا هذه الأقوال الي أفعال وأعمال على الأرض وأن يقوموا بتثبيت نظرية توطين القرار السوداني في القضايا الوطنية ومقاومة النفوذ الأجنبي الذي يسعي لإنهاك البلاد في دوامة الحروب والتشريد والدمار والخراب.

من مآسي السودان في الوقت الراهن غياب الثوابت الوطنية واحتدام الجدل في كل شيء لدرجة ان المراقب المتابع للشأن السوداني يكاد لا يجد ثابتاً واحداً يجمع بين السودانيين الذين يعيشون في وسط الآراء المتناقضة والمواقف المتباينة والبيانات المتضاربة الا أنه يحمد لهم اتفاقهم أخيراً على رفض تعدد المنابر والمبادرات وهذا هو الشيء الوحيد الذي أجمع واتفق عليه الكافة!!

في مقابل هذا الواقع السائد يقع على عاتق القوي السياسية السودانية توحيد ارادتها وكلمتها واختيار منبرها المناسب لحل أزمة البلاد المتفاقمة. وبذلك تكون قد نجحت في وضع حد لعمليات الهرولة والسعي بين المنابر، التي استنفذت طاقاتها بلا طائل، كما تكون قد حفظت مياه الوجوه من الاراقة بالمطالبة المتكررة والممجوجة للقوي الإقليمية والدولية بتوحيد جهودها والتنسيق بين مبادراتها. ومن أجل الوصول الي هذه المحطة فلابد من تغيير المعادلة القديمة والتحول من الثقافة البائدة التي كانت سائدة خلال المرحلة الماضية وأبرز مظاهرها أن بعض القوي الوطنية السودانية كانت تتباري في اظهار الدعم والقبول للجهود الإقليمية والدولية لحل الازمة السودانية حتى ولو لم تكن مبرأة من بعض العيوب والثقوب. وبدلا عن ذلك الوضع فقد آن الأوان ان تفرض القوي الوطنية السياسية السودانية لرؤاها ومشاريعها وحلولها الوطنية على القوي الإقليمية والدولية وتمارس الضغط عليها لكي تتبني وتدعم الحلول والمشاريع الوطنية. وطالما أن الأمر يخص السودان فأهل السودان أدري بشعاب قضيتهم وأعرف بمصالح بلدهم وأكثر معرفة من غيرهم بحلول مشاكلهم. وبالتالي من حقهم أن يتولوا بالأصالة وليس بالوكالة معالجة أزمة بلادهم. لقد حان الوقت المناسب لبعض القوي السياسية السودانية أن تحرر قرارها من معمعة الارتهان للقوي الإقليمية والدولية وأن تدخل في قطيعة تامة مع تجارب الارتهان والتبعية العمياء للخارج بكل ما جرته عليها من خذلان وترد وفشل.

ان ظروف الحرب والانتقال المعقدة التي تعيشها البلاد حالياً تفرض على القوي السياسية السودانية كافة انتهاج سياسة فاعلة للخروج من حالات الارباك وقلة الفاعلية عند مواجهة مختلف الازمات. وعليها أيضا ضرورة توسّيع الإدراك بجذور الأزمات، وتفادى الدخول في الأخطاء السابقة وانهاء المراهنة على القوي الإقليمية والدولية التي أنتجت للسودان في المراحل السابقة كوارث الحرب في دارفور والجنوب، وفصلت البلاد، وبعثرتها، ومطلوب في هذه المرحلة الاعتماد علي الذات ودخول الجميع بقلب صادق إلى ساحات التفاهم الوطني المبني على التنازل عن حظوظ النفس والسمو فوق المصالح الضيقة.

لا شك ان القوي السياسية السودانية بإرثها وتاريخها وتراكم خبراتها قادرة على تجاوز اللحظة المفصلية الفارقة التي اوجدها تدويل الشأن السوداني وخروجه من أيدي السودانيين. وإعادة الأمر ليكون شأناً وطنياً محضاً ممكن وميسور في حالة اتفاق أهل السودان على الحد الأدنى من الثوابت الوطنية وذلك هو السبيل الوحيد لإنهاء حالة الوصاية القائمة حاليا وهو الطريق السريع لدرء التدخلات الأجنبية السلبية في الشأن السوداني خاصة تلك المصممة لزيادة تأجيج الصراع وتهديد السيادة والوحدة وضرب الامن والاستقرار.

ومطلوب أن يرتفع مستوي الفهم لدي السودانيين بأن أساس القضية وجوهرها سوداني بحت، وبما أن الامر أصبح شأناً سودانياً خالصاً .فالمطلوب أيضاً في هذه الحالة أن يتفق جميع أهل المصلحة من الأطراف السودانية وبرضائهم التام علي دعم إستمرار منبر جدة في بحث ما هو مخصص له من الجوانب العسكرية والأمنية والإنسانية للأزمة السودانية بعيداً عن تناول القضايا ذات الطبيعة السياسية ويمضي بدعم وتأييد الأطراف السودانية كافة في تصريف أعماله الهادفة إلى خفض التوتر، وتمديد الهدنة وصولا إلى وقف دائم لإطلاق النار، والالتزام بحماية المدنيين وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، فضلا عن إنشاء لجنة لمراقبة وتنسيق وقف اطلاق النار.

أما العملية السياسية إذا أراد لها السودانيون النجاح والتمام والكمال فينبغي على القوي السياسية السودانية كافة أن تدفع باتجاه أن تكون القاهرة منبراً وحيداً للحوار السوداني الشامل لبحث العملية السياسية المفضية لاستكمال الانتقال والاتفاق على تدابير الفترة الانتقالية وأسس الحكم المدني وتحقيق التحول الديمقراطي وصياغة مستقبل السودان. وبالطبع مصر قادرة على مواصلة جهودها لتستصحب معها الدول العربية والافريقية وأصدقاء السودان في المحيطين الإقليمي والدولي لمشاركتها في تحقيق الوحدة والاستقرار في السودان. وبذلك يكون أهل المصلحة من السودانيين قد حددوا معالم الطريق المفضي الي حل عادل ودائم للأزمة السودانية عملاً بالمثل القائل “ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك”. وعلي القوي السياسية والمجتمعية والأهلية والنخب السودانية أن تتداعي لتتولي إدارة شؤون بلادها بأنفسها ولا تسندها لغيرها من القوي الأجنبية ولا تنتظر حلولاً لمشاكلها من الآخرين ولتعلم إن فعلت ذلك فلن تكون النتائج مرضية والشواهد أمامنا كثيرة تتحدث عن نفسها في العديد من الدول في محيطنا القريب والعاقل من اتعظ بغيره.