إستعراض نقاط مهمة على صفحات الأزمة الوطنية جذورها وتداعياتها
د. سليمان علي.
(1) حرب العاصمة قمة سنام أزمة الحكم:
السودان 2023 عام لم يأتي مثله عام ولن يأتي بعده مثله حيث وصلت أزمة الحكم وصراع السلطة والثروة وأزمات الاطماع والمظالم الناتجة عنها ذروة سنامها وانكشف ضعف وخوار وعوار كل شئ.
(2) طول الأمل في استدامة الهيمنة والاستحواز:
ما حدث في 15 ابريل 2023 لم يكن مفاجئا الا للغافلين والمتغافلين عن ما يعتمل داخل جسد الامة السودانية والدولة من صراع عميق تسبب في ندوب أعمق علي المجتمع والعلاقات والسلم واليقين والصفاء والنقاء ولم يفاجئ الا اولئك المنتشين بالسلطة والمتلذذين بالمصالح والوالغين في نهب مال الدولة والمتقلبين في جحيمه ولم ينتبهوا الي انهم اقتربوا من ذروة الأزمة وانفجارها.
(3) التشبث بالحكم والتهديد بالفوضى وتنفيذها:
حدث ما كنا نحذر منه بوعي كامل به وهو انزلاق البلاد الي الفوضي وكان البعض يستبعد حدوث ذلك من منطلق اننا (اكرم من ان نكون لاجئين او نازحين) كما قالها رأس النظام المباد وهو يهدد شعبه بهذا المصير ليعودوا من الشوارع الي بيوتهم ويستكينوا مرة اخري لفساده ومحاسيبه واستبداده علي شعبه وفرض فشله واخفاقاته علي الشعب حيث لم يكن لديه خطة للخروج بعد 30 عاما من الحكم يعمل جاهدا لتمديد حكمه الذي تصلبت مفاصله واصاب الصدأ هياكله ويمكن القول وبكل ثقة انه ساهم في الوضع الفوضوي باصراره علي البقاء في الحكم محاولا ايقاف المد الثوري بأي ثمن.
(4) فرص مهدرة لحماية الثورة:
بسقوط النظام وانشغال قادته بصراعاتهم الناجمة عن تقاذف المسؤولية في ما جرى (واقبل بعضهم علي بعض يتلاومون) كانت الفرصة مواتية لتحصين الثورة وحمايتها بخلق اجماع كبير حولها ابتداء بالقوى المساهمة في اسقاط النظام بالحوار العميق البيني ومخاطبة التباينات والصراع المرحل من الحقب السابقة بالاضافة الي كسب القوى التي فاصلت النظام باكرا كالمؤتمر الشعبي مثلا وهو ما تم تجاهله ليبدأ التنازع الداخلي باكرا بخروج الحزب الشيوعي وانتهي بتصدع التحالف الثوري بين (هبوط ناعم / وتغيير جذري) وانكشف للمتربصين بالثورة ما وراء جدار الهتاف المتماسك والمواكب الظافرة ولم تترك حليمة عادتها القديمة و(بدأ جر الهواء السياسي).
(5) مطب الوثيقة وانقسام تجمع المهنيين:
من تصدوا للفترة الانتقالية من منطلق (ما لايدرك كله لا يترك جله) ايضا لم يتبصروا جيدا وتعاملوا مع الامر (ببراغماتية) وخضعوا في سبيل الوصول لغاياتهم لعدة أخطاء منها:
الشراكة مع المكون العسكري وكتابة الوثيقة الدستورية (المثيرة للجدل) والتي ظهرت منها ثلاث نسخ ولا يعلم الكثيرين النسخة الاصلية من المفبركة كما ان اللجنة التي كتبتها دار حولها جدل كثيف اقله انها لا تتكون من فقهاء دستوريون بل محامين من متوسطي الخبرات.
كذلك من ضمنها طريقة اختيار رئيس الوزراء والتي لا يعلم تفاصيلها الشارع الثوري الذي وثق في خيار تجمع المهنيين الذي لا زال صامتا عن تنوير الجماهير بعد انقسامه وصراعه حول (صفحة تجمع المهنيين وكلمة مرورها !!!)واكتشف الشارع الثوري لاحقا فداحة الامر وظل يسير المواكب لتصحيح المسار ولم تجد آذانا صاغية ويتم تكسير الشارع بعدة طرق.
ثم اقتسموا بينهم الوزارات -بعد الاطاحة بحكومة التكنوقراط الأولى- وذهبوا في اتجاه المحاصصة الا في بعض الحالات التي فرض الشارع الثوري رأيه فيها.
(6) التشويش واستدراج ق ح ت:
المكون العسكري نجح تماما في دحرجة قوى اعلان الحرية والتغيير لسحب بساط الشارع منها وجعلها في مواجهة مستمرة معه اولا من خلال استمرار قمع التظاهرات في ظل الحكم المدني دون ان تتمكن من ادارة حوار يخفف من حدة الانقسام بين الشارع وحكومته المدنية كما انه نجح في تصديرها كقوة استحوازية من خلال الترويج بمنحها نسبة 67% من البرلمان وهو ما خلق نوع اخر من المواجهة من قبل قوى السلام وغيرها من الاحزاب مثل الاتحادي الاصل والذي حاولت قحت ان تعتبره سقط مع النظام ولاول مرة في تاريخ السودان يفترق حزبي الامة والاتحادي فيحسب احدهما مع الثورة والاخر فلول وهو ما تراجعت عنه حين اشتداد الصراع فقبلت قحت بالحسن الميرغني وابراهيم ورفضت جعفر الميرغني وأبيه وآخرين (اظنه نوع جديد من العزل السياسي) قائم علي الانتقاء ام ماذا لا اعلم.!!
ولا زلنا نتذكر عبارات المدح التي يكيلها قادة الجيش البرهان والعطا لقادة ق ح ت ويصفونهم بالوطنيين في حين انهم يعملون ليل نهار لوأد الانتقال وسحق الثورة واستلام الحكم بصورة كاملة. وهنا لابد من المرور علي الانقلاب المفبرك الذي عرف بانقلاب بكراوي والذي استطاع عبره البرهان استدراج قحت الي معركة طواحين هواء محسوبة اعلن بين طيات غبارها تعليق الاجتماعات في المجلس السيادي وسحب وزراء الدفاع والداخلية من مجلس الوزراء وكان الامر انقلابا بهلوانيا ولم يكن 25 اكتوبر سوى اعلان فقط. للاستيلاء علي الحكم. المحزن ان بعض القيادات كانت تهرول للوساطة وهم لا يدركون ان الامر انتهى.
(7) الصراع الحتمي:
15 ابريل لم يأتي فجاءة فهو صراع حتمي كان متوقعا جدا ان يعترك المكون العسكري داخليا فهم حاليا وجها لوجه وانتهي العدو المشترك (قوى الثورة) فبدأ سباق التسلح منذ مطلع 2022 بكثافة ثم بدأ اعادة التموضع من قبل الدعم السريع والتململ داخل الجيش وفي ظل وجود قوتين تكاد تتوازيان في كل الامكانات مع تفوق الجيش جويا واكثر انتشارا والغياب التام لاي اجهزة سياسية تستطيع ادارة التباينات كان الصدام مسألة وقت وقد كان.
ايضا طريقة انطلاق الرصاصة الاولى تخبر عن الكثير الذي لم يقال حتي الان.
(8) الازمة الوطنية والانسانية:
الشعب السوداني هو المتضرر الاول لاسيما الطبقات الفقيرة وهي الاوسع ربما توازي 90 في المائة لان الغالبية تعيش علي الارزاق اليومية والاعمال المرتبطة بالاسواق الرئيسة والفرعية ونسبة لعنف المواجهات فقد انهارت سبل العيش بالكامل كنتيجة لاندلاع المواجهات داخل المدن في العاصمة والولايات التي بلغتها الحرب. ثم بدأ نزف الاموال المدخرة عند البعض ومساعدات المغتربين للبعض الاخر في رحلة النزوح المحفوفة بالضياع والاستغلال السيئ للظروف الاليمة فقد تضاعفت اسعار التذاكر الي 10 اضعاف علي الاقل مما كشف بوضوح افتقار الغالبية للمضامين الانسانية والوطنية وقيم التعاضد والتكافل التي غابت بصورة كبيرة مع وجود بعض الاشراقات هنا وهناك.
اهم ما كشفته الحرب هو افتقار الدولة لقواعد التعامل المثلى مع حالات الطوارئ فقد شاهدت فشل التدابير في ايواء النازحين في مدينة مدني وعلي رأسها معرض المواد الاستهلاكية الذي ظل يعرض منتجات رفاهية لا علاقة لها بالازمة في السلع والغلاء الذي عم الاسواق.
(9) القصف والرصاص أم النزوح واللجوء:
المحصلة الحالية للازمة الوطنية هو نزوح ولجوء ملايين السودانيين وبقاء ملايين اخرى عجزت عن الخروج تحت رحمة القصف المتبادل والرصاص الطائش والانتهاكات الفظيعة لحقوق الانسان في المال والعرض وحرمات المنازل والقتل علي الهوية العرقية والقتل لشبهة الانتماء لهذا الطرف او ذاك والقتل بذريعة الطابور الخامس والقتل بتهمة الانتماء لفلول الكيزان وما صاحب ذلك من تصفية حسابات وضغاين قديمة هنا وهناك مما اوردته شهادات موثوقة.
ختاما: احلال السلام وتفكيك النزاع السوداني – السوداني وحل أزمة الحكم :
ونحن علي مشارف عام جديد غدا نقول ان اي نزاع لا يبقى نزاعا وانه لا ينتهي بفوهات البنادق ولكن بأسنة الأقلام التي يخط حبرها السلام وان تاريخ الحروب الاهلية في االغرب انتهت باتفاقيات ومواثيق تم احترامها فانتجت الحضارات الماثلة في اوربا واميركا لهذا وذاك فان الذهاب الي الحوار يوقف نزف الدماء والموارد والدمار ولا نرى مسوغات لهذه الحرب فهي لا تقوم لعقيدة وطنية او دينية كما انها ليست صراعا وجوديا لا يحل الا بسحق طرف فعليه لابد ان يدفع الجميع في اتجاه الحل السلمي لهذه الحرب التي هي نتيجة فقط لفقر التدابير الوطنية تاريخيا وقلة الدسم في المشاريع السياسية التي شكلت الحكم الوطني.
نستبشر بالعام الجديد رغم كل الالام والانين والبكاء علي حال الوطن خلال خروجي من العاصمة وتنقلي ل 7 اشهر بين ولايات الجزيرة والقضارف وكسلا والبحر الاحمر. بأن يكون عاما للسلم والسلام والوفاق الشامل وعودة الحياة الي ربوع البلاد بمواثيق وعهود صارمة لا يحنث بها طرف تكتب لنا ميلادا جديدا لوطن نعمل من أجله باخلاص ليظلنا في ظله آمنين.