Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

مسؤوليَّة السودان

مأمون التلب

مأمون التلب

(1)
“المُستَلِفون” هم كائنات بشريَّة، مثلنا، ولكنهم بحجم السبابة، ذلك البالغ منهم. بينما كانت الفتاة آرييَّتِّي، البالغة مرحلة الحريّة والمغامرة والمسؤوليّة، بحجم الخُنصر. عليها البدء في تعلّم مهنة أجدادها القدماء، الذين يعيشون داخل جدران وقواعد بيوت البشر، يبنون بيوتاً جميلة وبأثاثاتٍ صغيرٍة جدّاً تُناسب أحجامهم. ومن أجل الغذاء يستلفون من البشر قدراً لا يُمكن أن يُلاحظ من المواد الأساسيّة، إضافةً إلى مغامرات الحقول حيث النباتات الضروريّة للطبخ، تكفي صفقة من نباتٍ أن تُطعمهم لشهور. ولكنهم يحتاجون السُكَّر، وكانت تلك مهمّة آرييَّتِّي الأولى، استلاف مكعّب سُكَّر من بيت البشر. يحدث أن يراها طفلٌ بشريٌّ في عمرها، مريضاً كان وفي انتظار عمليّة قلبٍ لن تنجح غالباً. ومن قواعد المُستَلِفِين الأساسيّة والمقدَّسة أن الانتقال من بيوتهم يكون مباشرةً إن رآهم بشريّ، فذلك لا يعني فقط انكشاف وجودهم لكائنات غاية في الشر، مثل البشر، بل يعني كذلك إشعال حملة البحث عن بقيّتهم –إن كانت هنالك بقيّة- وإبادتهم. يعني أن يحدث النزوح الآن، وأن يتركوا بيتهم الذي كان بيتاً لأمهاتهم وآبائهم وأجدادهم في أقرب وقت.

يعكس كاتب ومخرج الفيلم “العالم السريّ لآرييَّتِّي”، الياباني هاياو مايازاكي، نضال الفتاة من أجل الاحتفاظ ببيتهم العتيق، غرفتها المحشوَّة بالنباتات، الحشرات الصغيرة التي مثّلت مجتمع الأصدقاء الوحيد، إذ تعيش برفقة والديها، وثلاثتهم لا يعرفون إن كان هنالك مستلفون آخرون في مكانٍ آخر من هذا العالم الهائل المجهول. كانوا لا يعرفون ما الذي يقع خلف الغابة، والتي لم تكن، في الواقع، سوى حديقة المنزل الأماميّة.
(2)
هذا المُخرج والرسّام شكَّل طفولتي الشخصيّة دون أن أعرف اسمه، من خلال مسلسله في الصادر بنسخته اليابانية في العام 1978م (كونان، فتى المُستقبل) وبنسخته العربيّة: “عدنان ولينا” لاحقاً في الثمانينات. وأُلاحظ، بعد مشاهدة سلسلة أعماله العميقة، أن البطلات يتقدَّمن الأبطال الذكور بمراحل من الشجاعة والإقدام والذكاء والروح الطيّبة.
(3)
حاوَلَت آرييتي إخفاء سرّ اللمحة، لمحة الطفل البشري المُحتضر، ثمَّ لاحقاً أخفت علاقتها المرتبكة به، إذ كان يحدثها من خلف حجاب. كانت تتسلل إلى غرفته وتختبئ خلف ستارة النافذة، ويتحدّث هو شاعراً بوجودها.

أدّت سلسلة الأحداث أن أُجبرت آخر أسرة من المُستلِفِين على مغادرة منزل أجدادهم القدماء؛ أجيالٌ عاشت في هذا البيت، بَنت الممرات المتطوّرة، بروافعها ومصاعدها المُبتكرة، والأدوات اليدويّة اللازمة للتسلّل الخفي لبيت البشر واستلاف مكعّب سكّر أو منديلٍ ورقيّ واحد يكفيان لعدّة شهور.
(4)
فتاة من سلالات البشر الماضية رأت الناس الصغار، وبَنَت لهم بيتاً رفيعاً يُناسب أحجامهم، وكانت في انتظار إظهارهم لأنفسهم، ولكن ذلك لم يحدث أبداً، وكان ذلك البيت الدقيق يُورَّث للأجيال اللاحقة على أمل إظهار الناس الصغار لأنفسهم يوماً. كانت محاولة الفتى المحتضر هي إسكانهم في ذلك البيت، وباكتشافه لأماكنهم السريّة حاول أن يبدّل بيتهم بآخر، لكن محاولاته جاءت بما لا تشتهي النجاة. كانت العاملة المنزليّة العجوز قد سَمعت بأمر المُستلفين منذ عشرات السنين، وأدركت أنها، إن استطاعت أن تقبض عليهم، فإن جائزتها الماليّة والسلطويّة ستكون عظيمة، وربما عالميَّة. وبالتجسس على الفتى المريض اكتشفت مخبأهم، وحطّمت بيتهم وقبضت على الأم مُتلبِّسةً بجُرم وجودها، وحبستها في برطمانيّة زجاجيّة أغلقتها بقماش، ثمّ تمادت وألَّبت عليهم جميع إرهابيي العالم طمعاً في السلطة والمال؛ أحضرت مبيدي الحشرات، بغازاتهم وأدواتهم السّامة، وأسلحتهم الفتّاكة، إذ لم يَكُن المستلفون بالنسبة إليها وإليهم سوى حشرات يجب أن تُباد، أو تُوضع في علبٍ زجاجيّة وتُحرم من حياتها وحريتها.
(5)
شاهدت الفيلم قبل أسابيع، وأدمعت العين عندما جرى الحوار التالي بين آرييَّتِّي والفتى:
– أهناك آخرون صغار مثلك في المنزل؟
– كلا، أبي وأمي وأنا فحسب.
– ماذا عن المنازل الأخرى؟
– إنني متأكدةٌ أن هناك آخرون غيرنا، لكني لم أقابل سوى شخصاً واحداً حتى الآن.
– فهمت. يوماً ما، ستكونون آخر من يبقى. أعدادكم تقلّ يوماً بعد يوم، أليس كذلك؟ أنتم جنسٌ مقدرٌ لكم الانقراض.
– هذا غير صحيح. -تبدأ بالبكاء بدموعٍ منهمرةٍ وصغيرة- هناك الكثيرون غيرنا، “سبيلر” قال ذلك.
– سبيلر؟
– إنه واحد من جنسنا، وقال إنه يوجد الكثيرون غيرنا.
– أتعرفين كم عدد البشر في هذا العالم؟ يوجد 6.7 بليون من جنسنا. ستة فاصلة سبعة بليون، ماذا عنكم؟.
– لا علم لي.
– أعتقد أن هناك فقط القليل منكم. قبل أن تخبرني أمي، لم أعرف بوجودكم في البداية –يتنفس بعمق- كثيرٌ من الأجناس انقَرَضَت بالفعل، قرأتُ عنها في الكتب فحسب، كثيرٌ من الأجناس الجميلة، لكن البيئة تغيَّرت، لذا لَقَت هذه الأجناس حتفها وانقرضت. إنه لشيء مُحزن، لكن هذا هو قدركم.
– قَدَر؟ لقد تَغَيَّر حالنا بسببك، والآن يتوجب علينا الرحيل من هُنا. يجب أن نكافح للبقاء، هذا ما أخبرني به أبي، لذا سنرحل بالرغم من خطورةِ ذلك. سنتدبر أمرنا كما نفعل دوماً، أنت لا تعرفنا جيداً، لن نخضع للموت بهذه السهولة.
– أنتِ محقّة، آسف. أنا من سيموت بسهولة، إنه قلبي. سيُجرون لي عمليةً الأسبوع المقبل، ولا جدوى من ذلك على الأرجح.
– قلبك؟
– لطالما كنت مريضاً؛ لا أستطيع اللعب مثل بقية الأطفال، من اللحظة التي رأيتكِ فيها، أردت حمايتكِ، لكن، يبدو أني فشلتُ في ذلك، آملُ أن تسامحيني.
(6)
يظهرُ فتىً من الأدغال، اسمه سبيللر، بحجم الخنصر كذلك، بدائيّ، يحمل حربةً ونشّاباً وسهاماً، يرتدي الصوف، بل إنه يطير كذلك باستخدام صوفه كأجنحة! عندما خَرَج الأب لاكتشاف ما خلف الغابة/الحديقة، بحثاً عن وطنٍ جديد، تعثّر وأُصيب فوجده الصبي البدائي، وأعاده إلى بيته. حدثت الصدمة أن هنالك آخرون، ومعارفهم مُختلفة عن معارفهم!
ساعدها الفتى المحتضر في تحرير والدتها، وإخفاء مخبئهم، وإخراجهم آمنين إلى أطرف الغابة، ثم تبدأ رحلة النزوح. سيساعدهم سبيللر وينقلهم إلى مستطونات جديدة لأناسٍ صغار مثلهم، ينتظرهم عند النهر –مجرى ماء صغير في الحديقة- على سطح “كفتيرة” هي مركبهم الذي سيقلّهم إلى عالمٍ جديد لم يعرفوا عنه شيئاً. كانت لا تزال تبكي وطنها المفقود عندما أَبصَرت آرييَّتِّي سمكة تسبح تحت الكفتيرة، توقّفت دموعها، وانغمست في دهشة أن ترى هذا الحيوان المائي لأول مرةٍ في حياتها، وأن ترى الأشجار الحُرَّة، والحيوانات الغريبة، وهنا يختتم الراوي حكايته الساحرة؛ من كلّ اليأس والفقد يُولد عالمٌ جديد.
(7)
لم تُدرك أبداً، في حاضر مأساتها، أنها كانت قد فقدت، من الأصل، عالماً لم تعرف عنه شيئاً، كانت مُنهمكة في مسؤوليّتها تجاه وطنها الأول، بيتها وبيت أجدادها، وعندما تحرَّرت، ولم يعد بالإمكان أفضل من ما كان، فَتَح العالم ذراعيه ليستقبلها، مولوداً جديداً، وسلالة جديدة إلى وطنٍ جديد.
(8)
إنها مسؤوليّة السودان.

21 أكتوبر 2023م

عن الفيلم:
https://www.imdb.com/title/tt1568921/
عن المُخرج:
https://www.imdb.com/name/nm0594503/?ref_=tt_cl_wr_2