Thursday , 25 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

عن العدالة الانتقالية ما بعد الاتفاق الإطاري

نور الدين صلاح الدين

نورالدين صلاح الدين

هذه الورقة تعبر عن الأفكار والتصورات الشخصية لصاحبها عن القضية موضوع النقاش، ولا تعبر بأي حال من الأحوال عن أي منظومة سياسية أو تحالفٍ سياسي ما، وهي بمثابة محاولة لإثراء الفضاء السياسي العام ببعض الأفكار حول واحدة من أهم القضايا التي هي محط اهتمامه لا سيما في فترة ما بعد توقيع الاتفاق الإطاري.

مقدمة
أضحت العدالة الإنتقالية استحقاقاً دستورياً للسودانيين عندما تم تضمنيها في الوثيقة الدستورية المنقلب عليها بتاريخ 25 اكتوبر 2021 م وتعديلاتها بناءاً على إتفاق جوبا لسلام السودان، لذلك كان لزاماً على الحكومة الإنتقالية المحلولة بأمر الانقلاب إنزالها على واقع السودان وذلك بالبدء بصياغة ” قانون مفوضية العدالة الإنتقالية – قانون العدالة الإنتقالية “، إلا أن هذه الإجراءات قد شابها البطء الشديد إلى أن حدث إنقلاب 25 اكتوبر 2021 م، والذى دفع بعض الأصوات الفاعلة والمؤثرة فى المشهد السودانى للحديث عن “مصالحة وعفو” تجاوزاً لكل عمليات وإجراءات العدالة الإنتقالية، وغياب تام لدور الضحايا، الذين يعتبرون “محور العدالة الإنتقالية في السودان ” مع إستمرار الإنتهاكات الجسيمة للحقوق الانسان وإستداركاً لهذا الواقع أحاول أن أطرح هنا بعض الخطوات اللازمة لتأسيس عدالة إنتقالية تحقق المصالحة السودانية، وتكون وفق الترتيب التالى..

أولاً: كشف الحقيقة “لجان الحقيقة “

كشف حقيقة الإنتهاكات التى حدثت للسودانيين تعتبر أولى ركائز العدالة الإنتقالية لذلك يجب تشكيل لجنة لكشف الحقيقة للبحث عن حقائق مشتركة حول الإنتهاكات السابقة وأشكال العنف، ولا بُدٌ من تمكين تلك اللجنة من جمع الإفادات من الضحايا والشهود وإجراء الأبحاث ووضع نظام وطني فعال للتوثيق وإقامة الجلسات العلنية وإشراك السودانيين فى عمليات الحوار والتشاور وتوظيف كافة الآليات الأخرى للتثبت من الحقائق المتعلقة بالإنتهاكات الحادثة للقانون السوداني، ولحقوق الإنسان والقوانين الدولية التى ترعاها، ومن ثم إتاحة تلك الحقائق للشعب السودانى.. لا بد أن تكون لجنة كشف الحقيقة خاضعة للإشراف المباشر للمفوضية القومية للعدالة الإنتقالية.

عليه حتى تتمكن لجنة كشف الحقيقة من أداء مهامها يجب أن تمنح سلطات واسعة تتضمن كحد أدنى السلطات الأتية:-
1- التحقيق فى كل الإنتهاكات بجميع الوسائل والآليات التى تراها ضرورية مع ضمان حقوق الدفاع.
2- استدعاء كل شخص ترى فائدة سماع شهادته أو التحقيق معه ولا تجوز مجابهتها بالحصانة.
3- إتخاذ كافة السبل لحماية الشهود والضحايا والخبراء .
4- الاستعانة بالشرطة لتنفيذ مهامها المتصلة بالتقصى والتحقيق والحماية.
5- مطالبة السلطة القضائية والنيابة العامة أو أي شخص طبيعي أو معنوي بمدها بالوثائق والمعلومات التى بحوزتهم.
6- طلب معلومات من جهات رسمية أجنبية ومنظمات أجنبية ومنظمات أجنبية غير حكومية طبق المعاهدات والاتفاقيات الدولية المبرمة.
عندما تنتهى اللجنة من مهامها تقوم بنشر تقاريرها واللجان التابعة لها فى الجريدة الرسمية وتحرص اللجنة على نشر النتائج وتوزيعها على أوسع نطاق ممكن فى أجهزة الإعلام.

السياقات ما قبل الاتفاق الإطاري
هل اللجان التى تم النص عليها في اتفاق 21 نوفبر مابين ” البرهان -حمدوك ” والتي تم انشاءها بواسطة رئيس الوزراء والنائب العام سابقاً وهل كل اللجان التي شكلت حول قضايا جنائية خلال الفترة الانتقالية ما قبل انقلاب 25 أكتوبر تعتبر لجان حقيقة؟
الإجابة “لا ” لأن تلك اللجان لجان تحقيقات قضائية، حيث تحدد المسؤولية الجنائية الفردية لقضايا محددة، تستخدم فقط المعايير المعتمدة في قوانين الإجراءات الجنائية والاثبات التي تطبق في المحاكم.
إن لجان الحقيقة التي نقصدها كان يجب أن تسبق أو تكمل عمل لجان التحقيق القضائية وعمل محاكم القانون في حال تم جمع أدلة أو بينات إثبات مفيدة في التحقيقات الجنائية، ولا يمكن معرفة الحقيقة من عمل المحاكم الجنائية، لأن محاكم القانون تركز على وقائع خاصة بقضية فردية بالإعتماد على الأدلة المباشرة، بينما تكمل لجان الحقيقة هذا المنهج من خلال إثبات السياق الاجتماعي والتاريخي للإنتهاكات وتبيان الأنماط الواسعة النطاق الكامنة وراء هذا العدد الكبير من القضايا.
يساعد التحليل الذي تقدمه هذه اللجان في فهم خلفّيات حالات الإنتهاكات والإستراتيجية التي تحكمها، مما يساعد في تحديد المسؤولية الأخلاقية أو السياسية أولاً ثم المسئولية القانونية.
عليه اقترح تشكيل لجان للحقائق الغرض منها:
1- القيام بإجراء تقصي وصفي للحقائق، والذي يتضمن إعادة بناء شامل للأحداث والظروف المحيطة، بمشاركة مختلف الأطراف، يراعي السياقات التاريخية والمؤسسية والثقافية للإساءات الماضية من إثبات الحقيقة حول الجرائم والأحداث وتحديد الأشخاص والمجموعات المسؤولين عن الجرائم ، وأسباب الانتهاكات،والتفسير التاريخي.
2- حماية حقوق الضحايا والاعتراف بها واستعادتها ،ووضع مقترحات قانونية واقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية وتعليمية لجبر الضحايا وأفراد أسرهم وكرامتهم.
3- المساهمة في المصالحة الوطنية الشاملة، وتشجيع العدالة التصالحية وتعزيز العدالة الاجتماعية، أو اقتراح إصلاحات تشريعية و مؤسسية من شأنها أن تضمن عدم تكرار الإنتهاكات.

ثانياً: الحق فى العدالة – المحاكمات الجنائية

يمثل مبدأ المحاسبة والمساءلة وإقامة الحق فى العدالة عبر المحاكمات الجنائية النقيض لمبدأ الافلات من العقاب، يحق للضحايا أن يرفعوا قضاياهم للمحاكم ” المحلية و الدولية ” كحقٍ أصيل كفلته العدالة الإنتقالية.
إضافةً لذلك يمكن أن تقدم العدالة الإنتقالية نموذج لمحكمة تعرف ” بالمحكمة المتخصصة ” كخيار عملي سيما بعد تأخر البدء فى إجراءات العدالة الانتقالية والتى بدورها ستعمل على إصلاح السلطة القضائية ، وتفادى المشكلات الفنية والتشريعية التى ورثها القضاء السوداني، وعليه يأتى تشكيل المحكمة الجنائية المتخصصة على يد السلطة الإنتقالية كي تعمل كهيئة قضائية مؤقتة مستقلة تحت السلطة القضائية، ويشمل نطاق ولايتها الرسمى فقط كبار المسؤولين فى نظام الإنقاذ والأمن والشرطة والمؤتمر الوطنى المحلول وكل من انتهك وارتكب جرائم بحق السودانيين بما في ذلك الجرائم المرتكبة خلال إنقلاب 25 إكتوبر 2021 م وما تلاها من انتهاكات، لذلك يجب تحديد اختصاصها الزمني للجرائم التي سوف تحقق المحكمة في ارتكابها منذ 30 يونيو 1989م وحتى تاريخ إنشاء المحكمة.

ثالثاً: جبر الضرر ” التعويضات – مادي – معنوي”

التعويض هو حق من حقوق السودانيين الذين وقعوا ضحايا للإنتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان والقوانين الدولية التى ترعاها، وقد يتخذ التعويض عدة أشكال، ويعتبر التعويض المادي وجهاً واحداً فقط من أوجه التعويض،
هناك مجال واسع من الآليات الأخرى المتوفرة للإقرار بإنتهاكات معينة والاعتذار عنها كطريق نحو الامام ، لكن لا بد أن تقدم برامج التعويض مزيجاً من التعويض المادي والامتيازات الرمزية للضحايا والتى تشمل التعويضات المالية ( بشكل رواتب تصرف للأرامل والايتام ) ومعاشات تقاعدية وإعفاء من الرسوم المدرسية أو منح دراسية، إلى جانب تقديم الدعم النفسي ، وتتضمن الإجراءات الرمزية اعترافاً واعتذاراً رسمياً من مؤسسة السيادة ( رأس الدولة ) أو رئيس الوزراء باسم المجتمع السوداني عن كافة الأخطاء التى تم ارتكابها بحق الضحايا، بالإضافة إلى مبادرات تخليد الذكرى.

على وجه التحديد يجب أن يشمل التعويض مزيجاً من :–
1- إعادة الحقوق مثل استرجاع الأراضي .
2- إعادة التأهيل والاعمار للمناطق المتأثرة من الانتهاكات.
3- تحقيق رضا المجتمعات المتأثرة بالانتهاكات وضمان عدم تكرارها.

4- التعويض الفردي والتعويض الجماعي.

رابعاً: الإصلاح المؤسسي – عدم التكرار
يعتبر الإصلاح المؤسسي الضامن الأكبر لعدم تكرار حدوث الإنتهاكات مستقبلاً ، ولتحقيق ذلك لابد من تمليك إدارة الإصلاح المؤسسي بمفوضية العدالة الإنتقالية كافة الصلاحيات التى تسمح لها بمراجعة قوانين ولوائح الأجهزة العدلية والأمنية والاعلامية وإقتراح البدائل، وتقديم التوصيات للسلطات التشريعية والتنفيذية، مع ضمان سيادة حكم القانون وإحترام حقوق الإنسان.
ويهدف إصلاح المؤسسات إلى الإعتراف بالضحايا كمواطنين وحاملي حقوق، وإلى بناء الثقة بين المواطنين كافة ومؤسساتهم العامة، لأن إصلاح المؤسسات بدون أية محاولة لتلبية التوقعات المشروعة للضحايا بشأن تحقيق العدالة والكشف عن الحقيقة والتعويضات، ليس عديم الجدوى فقط، بل من المستبعد أن يفلح فى تحقيق النتائج المرجوة.
ويمكن أن يشكل إصلاح مؤسسات الدولة الضالعة فى إنتهاكات حقوق الإنسان أحد تدابير العدالة الإنتقالية المهمة التى تروج للمحاسبة وتساعد على تفادي تكرار الانتهاكات.

خامساً: المصالحة
تعتبر المصالحة إستحقاقاً نهائياً بعد إكمال كافة ركائز العدالة الإنتقالية المتمثلة فى ” كشف الحقيقة – المحاكمات – جبر الضرر – الإصلاح المؤسسي ” لذلك فإن الحديث عن مصالحة قبل البدء في الإجراءات السابقة يمكن أن يمهد للإفلات من المحاسبة والمساءلة وضياع حقوق الضحايا.
علينا أن لا نتجاهل أن هناك أعداداً من الضحايا وأسرهم تطالب بإرساء العدالة بشأن الفظائع التي ارتُكبت في الماضي في قاعات المحاكم فقط، بل أن بعضهم يطالب بالقصاص ولا يقبل الدية، جاء ذلك في الثلاثين من يونيو 2020 عندما خرجت جموع مقدرة من السودانيين في ما اسمته بمسيرة تصحيح الثورة؛ وتضمنت المذكرة التي قدمتها جمعية اسر الشهداء لرئيس الوزراء حينها عبدالله حمدوك عدداً من المطالب احتلت فيها العدالة الانتقالية والقصاص المرتبة الثانية بعد السلام.
من الصحيح أن هذه المطالبات قد تضعف أو تتغير مع مرور الوقت، لكنها لا تموت، لذلك من الضروري أخذ أمر العدالة الجنائية والجزائية بجدية بتفسيرها وتعريفها، وتقديم نموذج للعدالة الجنائية التي تنوي مؤسسات السلطة الانتقالية المستقبلية القيام بها، ، بدلاً من أستخدام خطاب ” طي صفحة الماضي ” الذي سوف يقوض شرعية عملية العدالة الإنتقالية قبل حتى قبل أن تبدأ، ويعطي إنطباعاً مضللاً للضحايا وأسرهم ولكل الشعب السودانى بأن العدالة الإنتقالية ” عدالة ناعمة ” .
لذلك يجب أن يؤخذ في الحسبان الهدفان التوأمان المتمثلان في المساءلة الفردية (المحاكم) والمصالحة الوطنية على قدمي سواء.
تبدأ المصالحة الوطنية بتكوين لجنة للمصالحة الوطنية الشاملة، تعتمد على القواعد الاجرائية البسيطة القائمة على العرف الأهلي في جلسات الصلح والجودية وتنظر فى الإنتهاكات بصرف النظر عن سقوط الدعوى بالتقادم أو بغيره، ويجوز لها القيام بالمهام الآتية:-
1- تلقي الشكاوى والعرائض المتعلقة بالإنتهاكات .
2- تنظيم جلسات استماع عمومية خاصة بالضحايا.
3- استدعاء كل شخص ترى فائدة فى سماع شهادته.
4- تحيل للنيابة العامة الملفات التى يثبت لها فيها ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

سادساً: إعتذارٌ بدلاً من إصرار … وإقرارٌ عوضاً عن انكار
يحق لجميع ضحايا الإنتهاكات التي وقعت في السودان الحصول على عدالة ، وإذا كان من الصعب تقديم كل مرتكبي تلك الإنتهاكات للعدالة في الوقت الحالي، أو إذا كان مرتكب الإنتهاك غير راغب أو قادر على الإقرار بالخطأ وتحمل المسئولية، يصبح ذلك من مسؤولية الدولة.
بكلماتٍ أخرى، بغض النظر عمن كان مسيطراً على حكومة الدولة وقت الإنتهاك، فإن الدولة مسؤولة عن توفير الإنصاف، وهذا يعني أن حكومة السودان ومؤسسات السلطة الانتقالية التي ستتشكل إذا قدر لنا استئناف مسار التحول الديمقراطي ونجاح العملية السياسية الجارية حالياً ملزمة بإصلاح انتهاكات حقوق الإنسان التى حدثت خلال فترة تلك الأنظمة السابقة.
ولا خلاف في أن معظم تلك الإنتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان كانت بسبب مباشر من أجهزة الدولة السودانية مثل القوات المسلحة والأمن والشرطة والدعم السريع، حيث كانت هي سوط الجلاد، أو كانت بسبب غير مباشر عندما لم تقم الدولة السودانية باجهزتها بإيقاف تلك الإنتهاكات التي أرتكبت بواسطة مليشيات خارج سيطرتها بالرغم من استطاعتها أن تلجمها .
يتابع الشعب السوداني بإحباط شديد ذلك الإصرار المدهش من قبل كثير الجناة على الانكار بارتكاب جرائم القتل والتعذيب وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية ، لذلك فإن الاعتذارات التي تقدمها الدولة ستكون مفيدة بشكل خاص بل وضرورية في الحالات التي يكون فيها اصرار وإنكار لارتكاب إنتهاكات لحقوق الإنسان أو تحمل مسؤولية إصلاح عواقبها، مع الوضع في الاعتبار أن هذا الإنكار لا يضيف إلى معاناة الضحايا فحسب ، بل يؤجج غضبهم ويعمق أيضًا عدم الثقة فى مؤسسات الدولة المملوكلة أصلاً للشعب السودانى.

يناير 2023