حول الأزمة الوطنيَّة في السُّودان (4- 4)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
الإنقاذ.. أسوأ تجلِّيات الحكم في السُّودان
أشرنا من قبل في أبحاثنا السابقة إلى تقصير حدث من المؤسَّسات الساهرة، أو المتواطئة – أو بالأحرى من المفترض أن تكون ساهرة – على أمن الدولة، والتي كانت تتعامل بتسامح مفرط مع تقارير تصلها حول تحرُّكات الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة داخل الجيش. وما أن حلَّ النظام “الإنقاذي” بأهل السُّودان حتى استمر حقباً عجافاً ثلاث لا ترحم ولا تعطف، مما يعني أنَّ بعض الأزمات قد يستمر زمناً طويلاً. علاوة على أمراض النظام الكثيرة، إلا أنَّ الفساد كان ديدنه. محاربة الفساد هي الوسيلة الأنجح لتحقيق التنمية للاقتصاديَّة. خذ دولة مثل سنغافورة، حيث كانت تواجه دماراً بعد أن قفلت بريطانيا قاعدتها البحريَّة العظيمة في الستينيَّات. فقد حوَّلها رئيس وزرائها لي كوان يو إلى المدينة-الدولة الناجحة بأعجوبة، حتى أمسى الناتج الإجمالي المحلي يعادل أكثر من 100 مرة مما كانت عليه حين أصبح رئيساً للوزراء العام 1965م. إذ حقَّق ذلك بالاعتقاد القوي في الأخلاق، وكان أول شيء فعله هو اقتلاع جذور الفساد، حتى يتم تشجيع رجال الأعمال في الاستثمار في التجارة، ومن ثمَّ أخذ المستثمرون يثقون في المنظومة، مع تطوير حلول الرأسمالية والسوق الجرَّة. كان واحد من هذه الحلول هو تشجيع الناطقين باللغة الصينيَّة من السكان على تعلُّم اللغة الإنجليزيَّة، ليس بالقهر، لأنَّ ذلك سوف يقود إلى معارضة، ولكن بتأسيس معاهد جيِّدة لتدريس اللغة الإنجليزيَّة، بحيث تجذب الذين لهم الرَّغبة الطموح في ذلك حتى يكدوا في تعلُّمها.
مهما يكن من شيء، فقد تجاوز نظام “الإنقاذ” النظريَّات الفلسفيَّة في علم الاجتماع. فإذا نظرنا إليه في غضون الحقب الثلاث التي استقبح السُّودانيُّون هذا النظام نجده قد تحدَّى قوانين الديالكتيك. ففي نهاية العشريَّة الأولى من حكمهم كاد النَّاس يظنون أنَّ التناقضات الداخليَّة التي أدَّت إلى انقسام الحزب الحاكم العام 1999م كفيلة بتدميرهم، إلا أنَّ الحزب الحاكم استطاع تجاوز تلك المرحلة والاستمرار في السلطة. فقد كتب الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689-1755م) في كتابه “أبحاث في أسباب عظمة اليونان وفي صعودهم وانحطاطهم”، “أنَّ هناك أسباب عامة، معنويَّة أو ماديَّة، تفعل فعلها في كل مملكة فترفعها، وتحفظها، أو تقلبها، وإنَّ كل ما يحدث إنَّما يخضع لتلك الأسباب.”
إذاً، سقط النظام “الإنقاذي” – على الأقل ظاهريَّاً – بعوامل خارجيَّة من قبل نضال الشعب السُّوداني، وليس من انفجار داخلي في الحزب الحاكم. فقد أشرنا في أكثر من نقطة إلى العلل والسببيَّات التي تراكمت وقادت إلى الانتفاضة الشعبيَّة في كانون الأوَّل (ديسمبر) 2018م حتى ظن الشعب السُّوداني أنَّ النظام قد ولَّى إلى الأبد، إلا أنَّه استطاع أن يتحوَّر ويخرج للنَّاس من اللجنة الأمنيَّة للنظام السابق. كذلك لا يمكن استقراء عامل واحد كفاعل أساس في تفسير سيرة وصيرورة حكم الحركة الإسلاميَّة في السُّودان. فقد اعتمد النظام على العامل الدِّيني والعرقي والثقافي والجهوي والأمني والجبروت العسكري وغيرها من العوامل الأخرى في سبيل البقاء. إذ استظهر العامل العرقي (الإثني) والدِّيني بصورة أشد عنافة في تعامله مع القضيَّة السياسيَّة من منطلق أمني بحت في جبال النُّوبة والنيل الأزرق وجنوب السُّودان.
الشعوب حين تصل إلى النهايات العظمى في الاضطهاد والقهر فإنَّها سوف لا تبالي بأيَّة إصلاحات قد تقدم عليها السلطات الحكوميَّة في نهاية الأمر، لأنَّ ذلك يمثِّل في الوقت نفسه لوناً من تلهية الشعب وتسليته، ومحاولة للتخفيف عن عنف حركة التغيير: انتفاضة كانت أم ثورة. إذ أنَّها ستمضي حثيثاً نحو التغيير الراديكالي، وتحشد حشودها في سبيل التغيير المنشود. فالإصلاحات التي تأتي متأخِّرة لا تستطيع أن تنقذ مشرِّعيها من غضبة الشعب. عطفاً على ما نقول، فقد جاءت الضربة القاصمة ضد قيصر روسيا أليكسندر الثاني من قبل ثوَّار “إرادة الشعب” في الفاتح من آذار (مارس) 1881م، وذلك حين ألقى هؤلاء الثوَّار قنبلة على مركبته في سانت بيترسبورغ، واغتالوه في اليوم الذي وافق فيه على إجراء إصلاح سياسي يسمح بتأسيس جمعيَّة استشاريَّة جديدة. قبيل الثورة الروسيَّة العام 1917م كان القيصر نيكولاس الثاني قد وقَّع على خطاب تنازله عن العرش في آذار (مارس) 1917م، وكان إصلاح الأراضي موضوع في الخطة الحكوميَّة، وانتخابات الجمعيَّة التأسيسيَّة على وشك الانعقاد، ومع ذلك قامت الثورة البلشفيَّة. هكذا لم تفلح المحاولات الإصلاحات الترميميَّة السياسيَّة التي أقدمت عليها حكومة الرئيس عمر البشير في آخر أيَّامه في سدة الحكم العام 2018م.
على أيَّة حال، إنَّ الشعوب تذهب في النُّظم السياسيَّة والاجتماعيَّة مذاهب صحيحة صادقة تلائم طبائعها السليمة، وأمزجتها المعتدلة، وأنَّ الحكومات تذهب في هذه النُّظم مذاهب أخرى ملتوية شديدة الالتواء، وأنَّ شؤون العالم إنَّما تصلح حقاً يوم أن تكون كلمة الشعوب وحدها هي العليا، ولكن من حق الشعوب ألا تضعف ولا تهن ولا تيأس. إذ يظهر أن الضعفاء خُلقوا ليأكلهم الأقوياء، فإن أرادوا ألا يؤكلوا فسبيلهم إلى ذلك أن يلتمسوا القوَّة، وليس لهم سبيل غير هذه السبيل.
لا سبيل إلى الشك في أنَّ السُّودانيين، كراهيَّة منهم للوضع الديمقراطي السيء الذي كان قائماً قبل “الإنقاذ”، والحكم “الإنقاذي” الذي تلاه، وثقة أو أملاً منهم في النظام الجديد الذي قد يجيء بخلاصهم، انتفضوا ضد حكم “الإنقاذ”. هكذا نجد أنَّ الأجيال الجديدة التي لم تكد تعرف شيئاً كثيراً أو قليلاً عن مساوئ ما قبل نظام “الإنقاذ”، لكنها أدركت سوءات “الإنقاذ” انتفضت وانتظرت عائد التضحيات أن يكون فوريَّاً، ولكن خاب مسعاهم حين أدركوا بأنَّهم في صورة من صور “الإنقاذ” في ثوب أسوأ من القديم البالي. ويا لسوء الحظ فقد أولدت الانتفاضة الشعبيَّة أطروحة ثانية استمرَّت ثلاث سنوات حسوماً في شكل النفي المعلول لتضحيات الشعب الجسام، وانتفض الشعب للمرَّة الثانية ضد تجدُّد الطغيان العسكري في 25 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 2021م، مما يعني أنَّ الانتفاضة في الأساس كانت قد ولدت مزوَّدة بتناقضاتها الداخليَّة، وقادت إلى استمرار الشعب السُّوداني في النضال ضد الحركة الإسلاميَّة في صورها المختلفة وأعوانها القدامى والجدد.