هندسة المشهد أم تشليع السودان ؟
العبيد أحمد مروح
تمنيتُ لو أن صديقي الأستاذ عادل الباز، قد استرسل في مقاله قبل الأخير (التسوية .. تشكيل المستقبل)، فقد وضع مبضعه على واحدة من القضايا الأكثر أهمية في تعقيدات المشهد الراهن في السودان، والذي ظلت الرؤى حوله ملتبسة منذ التغيير الذي جرى في أبريل 2019م.
لقد شكل ما عُرف ب “الإتفاق الإطاري”، والذي جرى توقيعه يوم الأثنين الماضي (5 ديسمبر 2022) بين قائدين في المكون العسكري ممثلين في قائد القوات المسلحة وقائد قوات الدعم السريع، من جهة، وبين مجموعة المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، من جهة أخرى، واحدةً من تجليات المشروع الذي يجري تنفيذه في السودان منذ الإطاحة بنظام الإنقاذ، وهو مشروع متكامل يهدف إلى إعادة هندسة المشهد السياسي والإقتصادي والإجتماعي في البلاد، وقد تؤدي ارتداداته إلى ذهاب ريح الوطن بأكمله.
(2)
لكن قبل أن نخوض في تلك التفاصيل دعونا نعيد رسم ما جرى نهار الأثنين الماضي ونتأمل تلك الصورة التي تشكلت أجزاؤها أمام مرأى ومسمع الناس، ففيها الكثير من الدلالات على ما سنقول، ثم دعونا نتتبع المسالك التي أوصلتنا إلى تلك المحطة التي يمكن أن تكون فارقة في تاريخنا !!
فقد كان في علم العامة، حتى اليوم الذي سبق التوقيع، أن للسلطة القائمة في السودان رأس واحد، هو قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، وأن له نائب واحد لكنه يسمى النائب الأول، وهو قائد قوات الدعم السريع، وأن هذه القوات، وفقاً لقانونها الذي أجازه آخر برلمان منتخب في عهد النظام السابق ووفقاً للوثيقة الدستورية التي ما تزال تحكم الفترة الإنتقالية، تتبع للقوات المسلحة وتأتمر بأمر القائد الأعلى الذي هو رئيس مجلس السيادة. وإذا كان هذا هو الحال فكيف نفسر ثنائية توقيع قائد الدعم السريع على الإتفاق الإطاري ومخاطبته للاحتفال في حضور رئيس مجلس السيادة – قائد القوات المسلحة – وتوقيعه ومخاطبته لنفس الإحتفال ؟؟
ما يلفتُ النظر في مشهد يوم الأثنين أيضاً هو أنه وبشهادة الصحفيين الذين غطوا المناسبة، ووفقاً لما نقلته كاميرات التلفزة، فإن كثافة الحضور الدبلوماسي الأجنبي فاقت عدد المدعووين من “أهل المصلحة”. وأن بعضاً من هذا الحضور لم يكتفوا بالشهادة على ما رأوا وإنما ذهبوا أبعد من ذلك فخاطبوا الإحتفال وأرسلوا رسائل للقاصي والداني مفادها أن هذا من ثمرات جهودنا المستمرة !!
والخلاصة من هذين المشهدين هي أن بلادنا تدار الآن برأسين، وأن فيها جيشان بكامل عددهما وعتادهما وتسليحهما، وأن القرار فيها لا يتحكم فيه قائدا الجيشين فحسب، وإنما يتحكم فيه عدد من السفراء الأجانب ضمن مجموعة أسمت نفسها “الرباعية الدولية” وجعلت من ممثل الأمين العام للأمم المتحدة خادماً لأجندتها ومقرراً لأنشطتها وتحركاتها، والأخطر من كل هذا هو أن القوى السياسية المدنية السودانية من أحزاب ومنظمات أضحت إما مشلولة الحركة بفعل القهر المسلط عليها أو متفرجة على عموم المشهد العبثي أو هي منخرطة في أجندة القوى العسكرية المتنافسة والقوى الإقليمية والدولية الطامعة والمتآمرة !!
(3)
ليس من السهل تشخيص هذه الحالة التي وصلنا إليها تشخيصاً سليماً، وقراءة ما قد تقودنا إليه، دون أن نقتفي أثر التخطيط الذي أنتج التغيير الذي أطاح بنظام الإنقاذ؛ فقد جرت عملية ممنهجة منذ ما بعد الربيع العربي لشيطنة نظام المؤتمر الوطني في السودان واتهام قياداته بالولوغ في الفساد والمحاباة والصراع حول السلطة، وجرى استخدام أدوات متعددة أبرزها وسائل التواصل الإجتماعي لمخاطبة الأجيال الجديدة من الشباب، وجرت تغذية تلك الحملات بوقائع حقيقية جرى تضخيم بعضها وعزل بعضها عن سياقه، كما كان للأداء الفعلي للحزب الحاكم وقتها نصيب من ذلك.
الذي يهمنا في هذا السياق هو أن شيطنة حزب المؤتمر الوطني ومن ورائه الحركة الإسلامية السودانية، كان الركن الأول ليس في خطة إسقاط نظام الإنقاذ فحسب وإنما أيضاً في عزل ما يعتبره المخططون الترياق المضاد لمخطط هندسة المشهد السياسي في البلاد، وهو تحييد القوى الإسلامية القادرة على الفعل وعزل ما يعتبرونه إسلاماً سياسياً. وفي هذا السياق وصلنا إلى محطتي “أي كوز ندوسو دوس” و “ماعدا المؤتمر الوطني”، وهما محطتان ما تزالا تتناسلان كلما بدلت الوثيقة الدستورية جلدها ألبسوها جلداً غيره وأبقوا على هاشتاق # ماعدا المؤتمر الوطني !!
والذي جرى بعد أبريل 2019 هو أن حملة الشيطنة تلك استمرت وانتقلت خطة العزل السياسي من مرحلتها المعنوية ما قبل أبريل ٢٠١٩م إلى عزلٍ ب(الغانون)، وأن قوى سياسية لا تاريخ لها وأخرى لم يشهد التاريخ لها وزناً انتخابياً هي من تم تمكينه للهيمنة على المشهد السياسي، في ظل حماية كاملة من قيادتي مؤسسات القوة الصلبة ممثلة في الجيش والدعم السريع، وبدعمٍ من الخارج الذي يشرف على هندسة المشهد ككل.
(4)
لست بحاجة لأن أقول إن الإتجاه الذي مضى فيه الإتفاق الإطاري محل بحثنا، هو أسوأ وأخطر على عملية التحول الديمقراطي من الإتجاه الذي مضت فيه الوثيقة الدستورية، فقد ألغت نصوص الاتفاق هوية الدولة والمجتمع الإسلامية، وألزمت الدولة بأن تقف (على مسافة واحدة من الهويات الثقافية والإثنية والجهوية والدينية وتكون الدولة غير منحازة فيما يخص الشؤون الدينية)، ومن الواضح أن هذا النص يذهب إلى حد ازدراء الدين الإسلامي الذي يدين به أكثر من 97% من السودانيين ويضعه في مصاف الهويات الثقافية والجهوية !!
ثم إن الإتفاق الإطاري يقنن لوضع شاذ هو تسييس السلطات الثلاث (التنفيذية بشقيها السيادي والوزاري والتشريعية والقضائية) ويجمعها كلها تحت إبط قوى سياسية غير منتخبة ومشكوك في قدرتها على حيازة أي سند جماهيري يعتد به في المستقبل.
وفوق هذا أعطى الإتفاق وضعاً موازياً لقوات الدعم السريع لتكون صنواً للقوات المسلحة، وجرد القوات النظامية كلها – عدا الدعم السريع- من أي قدرات مالية تُصلح بها شأن منسوبيها دون أن يقدم لها بديلاً وفي وقت تعاني فيه الخزينة العامة من العجز حتى عن الوفاء بالحقوق الأساسية للعاملين بالقطاع العام و للمواطنين من تعليم وصحة وخدمات بيئة ومياه وكهرباء.
الإتفاق إذن هو إتفاق مصمم لطمس هوية الأمة ومحاربة عقيدتها، وهو إتفاق إقصائي يحرم مواطنين سودانيين من حقوق أساسية كفلتها لهم كل الشرائع الأرضية والسماوية، وهو إتفاق يُسخر السلطات الثلاث لخدمة الأجندة السياسية لقوى غير منتخبة، وهو منتوج أجنبي أشرفت على إعداده قوى خارجية في غرف مظلمة – كما سبق وأن قال حاكم إقليم دارفور – والأخطر من هذا كله هو أنه يقنن لوضع إن قُدر له أن يمضي إلى مآلاته الأخيرة فسيؤدي لا محالة إلى تقسيم السودان و “تشليعه” !!
(5)
في المشهد الذي تشكل الآن وجرى تقنينه بواسطة الإتفاق الإطاري، هنالك قوى سياسية محدودة العدد ولم يُعرف لها سند شعبي يُعتد به وغير مفوضة شعبياً، يُراد لها أن تُمسك بكل تفاصيل السلطة في البلاد من مجلس سيادي ومجلس وزراء ومجلس تشريعي وسلطة نيابة وسلطة قضائية، ولها تُحدد هي معايير الإلتحاق بالنادي السياسي الجديد وسقوفاته، كما لها أن تفعل في خصومها ما تشاء. وهناك جيشان بكامل عددهما وعتادهما يحرسان هذه القوى السياسية، وهناك قوى إقليمية ودولية تحرسها كذلك وتهدد من يعارضها بالويل والثبور وباعتباره معرقلاً للتحول الديمقراطي !!
وفي المقابل هناك دارفور كلها مهددة بأن يُلغى الاتفاق مع “حركات الكفاح المسلح” فيها دون تعويض إن هي رفضت الإنضمام إلى ركب الموقعين، وهناك شرق السودان كله تم تجاهل مطالبه وتُرك يلعق جراحه وكأنه ليس جزءاً من السودان، وهناك كردفان والنيل الأزرق تعانيان من التمرد ومن النزيف المستمر، وهناك الوسط والشمال يعانيان وطأة الجوع والخوف وتفشي الجريمة والمخدرات.. فماذا بقي من اللُحمة التي تجمع السودانيين مع بعضهم وتجعلهم يشعرون أن مصيرهم مشترك ؟؟
(6)
تساءلتُ في العنوان هل نحن بإزاء خطة تقف عند حد هيكلة الأوضاع السياسية في بلادنا أم أن الأمر سيذهب أبعد من ذلك ؟ والحقيقة أن المقدمات المتمثلة في وضع مقاليد السلطة في أيدى قوى سياسية غير منتخبة لتقوم – تحت إشراف الأجنبي وحماية الجيشين – بعزل أجزاء الوطن من بعضها شعورياً ثمّ واقعياً، وبهيكلة الإقتصاد بحيث يتم سحق الطبقات الفقيرة وتجريد المؤسسات المنوط بها حماية الدولة من قدراتها، وبهندسة المجتمع فتطمس الهوية الإسلامية للبلاد ويلحق السودانيون بمجتمعات الميم وسيداو، كلها مقدمات ستقود لوضع البلاد تحت الهيمنة الخارجية ولشل قدرة الدولة والمجتمع على الفعل المقاوم تمهيداً للتحكم في ثرواتها. فإن تأتَى ذلك من خلال حكومة كرزايات في الخرطوم فبها وإلا فإن خيار تقسيم السودان وتشليعه – لا سمح الله – يبقى هو الخيار الأخير الوارد.
وأخيراً قد يتساءل البعض، ما هو الفرق بين التقسيم والتشليع ؟ وأجيب – اجتهاداً – أن التقسيم هو أن تنشأ في دارفور وفي شرق السودان وجنوبه ووسطه وشماله دول جديدة كما نشأت جمهورية جنوب السودان، أما التشليع فهو أن تصبح أرض السودان الحالي مثل قطع الغيار بحيث تأخذ منها كل دولة جارة ما يناسبها من أراضٍ وتضمها إليها، فاحذروا أن يتم تشليع وطنكم يا ساسة السودان وقادته الحاليون، وإلا فستلاحقكم لعنات التاريخ .. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد .