لا بد من الوفاق وإن طال السفر
حسين اركو مناوى
لماذا الإصرار والتكرار فى الحديث عن الوفاق؟
نعم تحدثنا من قبل مرات ومرات عن المفقود فى السياسة السودانية.. قلنا فى السياسة السودانية سلكنا دروب كثيرة مشينا خطى فى أسفار طويلة لا ارضاً قطعنا ولا ظهراً ابقينا وأصبحنا طرائقاً قدداً وفي نهاية المطاف وقفنا عند نقطة نتفق على ألا نتفق… وهنا مربط الفرس…عندما تصل الأمور إلى طريق مسدود و تحتار العقول ويدب اليأس في النفوس يا ترى العقل البشرى ينشط أكثر أم يصاب بالجمود أم يا ترى تستسلم النفوس لليأس ام تشحذ الهمم لمعركة جديدة فى سبيل البحث عن المخرج؟
مع انّ الوضع السياسي فى السودان لا يبشر بأمل فى الخروج من عنق الزجاجة الذي نحن فيه,… مع ذلك لم تُستنفد الخيارات فى الخروج من الأزمة… ولم يتعطل التفكير السودانى فى البحث عن الحلول المناسبة.
فى الواقع لم تطرح عبر تجاربنا الطويلة كل البدائل التي يمكن أن تقودنا إلى المخرج الذي يناسب الوضع فى السودان…. من خلال تقييم أولى للتجارب الطويلة والمريرة التي انتهت معظمها بفشل ذريع ,الآن كل المعطيات تقول على السودانيين البحث عن تجربة سياسية جديدة وقد اشرتُ إليها من قبل مثل هذه التجربة يتطلب عقل جمعي سوداني به تتلاقي الرؤى المختلفة من أجل التوافق على مشتركات محددة تؤسس الدولة السودانية التى يصبو إليها الجميع. .
التوافق فى المناخ السياسي السودانى يحتاج إلى جهد كبير لأن السائد في الثقافة السودانية هو عدم قبول الآخر, وهذه الثقافة تجذرت فى عمق المجتمع السودانى وأصبحت ظاهرة ربما نستطيع أن نطلق عليها عنصر التنافر وهو عنصر قوي جدا في البعد الثقافي السوداني , Sudanese cultural dimension مثله مثل العناصر الأخرى التى تشكل البعد الثقافي السوداني وتلعب دوراً حساساً فى تحديد المسار السياسي من وقت لآخر.
من السهل ممارسة عدم قبول الآخر فى أشياء كثيرة ولكن ممارسة عدم قبول الآخر فى السياسة كارثة لأنّ السياسية تعمل فى إطار قضايا ذات علاقة بالوطن يعنى فى المشتركات العامة التى لا أحد له الفضل على الآخر لذا عندما يُمارس عدم قبول الآخر فى الحقوق ستواجه بشتى أنواع المقاومة والمقاومة تولد العنف ونهايات العنف هى الفرقة والشتات وذلك يؤدى إلى تمزيق كيان الوطن ومن ثم تأسيس كيانات او دول أخرى.
هذا المشهد مهما كانت مبرراته هو عادة يبدأ من تصريحات وعبارات ومواقف قد تبدو عند البعض بسيطة ولكن معظم النار من مستصغر الشرر , أقصد بذلك عندما نستهين أو نقلل من خطورة عدم قبول الآخر فى قضية عامة تتعلق بحقوق المدنية للمواطن فإننا نستهين من شرارة مهما صغُرت, تشتعل أمام أعيننا.. على شاكلة أردول لا مكان له في التسوية السياسية وهذا المنطق المعوج عادةً يظهر عند تقاسم غنائم السلطة ولكن عندما كان اردول يصول ويجول فى الأحراش وينادى بالحرية, له ولغيره وكان هو عاطش إلى الحرية وكان على استعداد أن يموت بظمأ الحرية فى محراب الحرية, كما قال الشاعر الصاغ محمود؛
وأري العواذلَ حين يملكني الظما
فأمـوت من ظـمأٍ أمامَ المورد
حينئذ كان اردول بطل واليوم كل الشتائم تنهال عليه فى اقذر ممارسة للتنمبط تحت لغة مسيئة كالتي نسمعها(الإرادلة), فقط لأنه أصبح جزء من المشاركة فى السلطة وهذا السلوك يعتبر أحد مظاهر ممارسة الإقصاء السياسي وعدم قبول الآخر فى وطن واحد.
لم تتوفر لنا دراسات وبحوث علمية في ثقافة عدم قبول الآخر ولكن بالنسبة لي أرى هناك مشكلة تتعلق بالمرحلة التي يمر بها السودان, اى مرحلة تكوين الدولة. لقد ذكرتُ فى مناسبات كثيرة أنّ الدولة السودانية لم تتكون بعد ولست وحدي من يقول ذلك واكيد اى دولة فى مراحل تكوينها تواجه عقبات كبيرة وقد تتخللها حروبات أهلية هنا وهناك إلى أنْ تصل المكونات الاجتماعية إلى وفاق تقوم عليه أسس الدولة التى تجمع الجميع في بوتقة المواطنة المتساوية.
فى إطار السياق السياسي لمفهوم الوفاق قد ننحرف قليلاً لتقريب المعنى حول المفهوم سوف نضطر إلى اتخاذ أمثلة بسيطة في جوهر الأشياء, مثل جوهر الماء ومكوناته. إن كنا نتحدث عن السودان, فى المقام الأول نأخذ المكون الأساسي للسودان كدولة وأقصد بذلك مكون الشعب ولن تكون لأي دولة قائمة بدون الشعب كما لن يكون للماء وجود دون عناصره الأصلية من الأكسجين والهيدروجين وبما أن طريقة تركيب عناصر الماء وانسجامها ليست كما هي عند المجتمعات البشرية ولكن النقطة الأساسية هي الإقرار بوجود هذه العناصر والإقرار بأن كل عنصر ضروري لوجود المادة الأساسية وهكذا عندما نحاول أن نطبق هذا الافتراض فى الحالة السودانية فإن السودان لن تكون السودان كمـا نراه الآن إذا شطبنا من الوجود أي مكون من مكونات الشعب السودانى وغياب مكون ما سوف يتحول السودان تلقائياً إلى سودان آخر مثلما حدث فى حالة جنوب السودان عندما قرر أصحاب القرار والسلطة أن يكون المكون الجنوبي نسخة أو رديف لثقافة الحكومة المركزية والاشراك فى السلطة فقط يكون إشراك أسمى والنتيجة كانت ذهاب الجنوب وأصبح ما تبقى من السودان خالياً من ملوال وبيتر ومجوك.
لكي نتحاشى تجربة ذهاب الجنوب لا بد هناك رؤية واستراتيجية بقاء السودان موحداً ومن المؤكد لن نلتمس استراتيجية الحفاظ على الوطن موحداً إلا من بوابة الوفاق.
أكثر تجربة سياسية وضعت الدولة السودانية في محك وهى تجربة ثلاثين سنة التي خضناها تحت حكم الإنقاذ وهي تجربة تميزت عن سابقاتها في درجة الإقصاء وطول المدة التي مُورست فيها الإقصاء والنضال الشرس والطويل فى المقاومة كان يتمحور حول الإقصاء والاشراك ومن ايجابيات تجربة الإقصاء الصعبة هذه قد ساهمت في توحيد إرادة الشعب في المقاومة حتى توجت بهبة 19 ديسمبر 2018 ولولا وحدة الإرادة تلك لما انهار نظام الإنقاذ.
ما بعد انهيار النظام , دخل السياسيون المشهد السودانى الجديد بلا رؤية أو استراتيجية تخاطب الأزمة السودانية فى عمقها, بل وعادت سياسة الاقصاء من جديد وبدأ الصراع حول من له أحقية المشاركة فى اتخاذ القرار السياسي وعُدنا نكرر نفس التجربة التي جزأت الوطن إلى دويلات بسبب الاقصاء وعدم قبول الآخر في قضايا مصيرية تحتاج إلى الشمول فى المشاركة.
المحاولة الأخيرة فى البحث عن المخرج تعتبر من اسوأ المحاولات فى البحث عن المخرج لأن أصحاب المحاولة للمرة الثانية ادخلوا أصابعهم فى نفس الجحر الذي لدغتهم أفعى الإقصاء فى تجربة الوثيقة الدستورية التي جاءت اصلاً لاقصاء الثوار من المشهد السياسي من خلال عقدهم الصفقة مع المكون العسكري وحده طلباً للحماية دون إرادة الجمهور, الصناع الحقيقيين للثورة.