Saturday , 23 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

براكين الغل

حسين مناوي

حسين أركو مناوي

بقلم: حسين اركو مناوى

تجمع أهل القرية نساءً ورجالاً في مكان واحد, ولم يتخلف أحد, وقد أخذتهم الفاجعة من حيث لا يحتسبون.

” لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم” تحوقل إبراهيم وهو ينظر إلى وجوه الرجال الذين أرهقهم جهد إطفاء النيران, لا يكادون يصدقون حجم الكارثة وقد ارخى الذهول ذيله,وكان منهم من يعاني حروق, بعضها خطرة. ردد الجميع الحوقلة وفى سيماهم الغضب والتوتر.

من بين الحضور كان الشيخ إسحاق وهو رجل ناهز الستين من عمره , ذو لحية كثيفة , شديد بياضها وله شوارب تقوست من أطرافها إلى الأعلى قليلا. جلس مطاطئ الراس, عيناه الغائرتان قد اختفتا تحت حاجبيه. ومن خلفه وعلى مسافة ليست ببعيدة جلس رجلان , يحدقان البصر نحوه ويوسوسان بهمس خافت للغاية, ولا يريدان أن يسمع الناس حديثهما فقال أحدهما ” الحريق بفعل فاعل, لعنة الله على الحُسّاد”..

النسوة يجلبن ماء الشرب للقوم بآنية من الفخار والقَرعيات وكان الوقت صيفاً ودرجة الحرارة مرتفعة ومع لهيب الحريق تحول الجو إلى ما يشبه فرن تكاد تنصهر من حرارته الحياة.

الحريق التهم معظم بيوت القرية إلا قليل منها, ولم تنجو ألا البيوت المتطرفة والواقعة عكس الرياح ومنها منزل الشيخ إسحاق الذي يقع على مسافة عن بقية المنازل فى الطرف الجنوبى الشرقي , بينه وبين بقية المنازل تفصلهم ساحة جرداء يتخذها أطفال القرية ملعباً لهم وفى الأعياد ساحة للصلاة.

القرية عُرفت بأم القرى في المنطقة لأنّ تاريخها يعود إلى قرون عدة,وقد أنجبت قرى أخرى بلغ عددها أكثر من عشرة قرية تناثرت هنا وهناك.

الناس فى هذه القرى المتناثرة تربطهم شبكة عنكبوتية من وشائج الدم…. علاقاتهم الاجتماعية توحي قوة الترابط لذا دائماً أب صُندا يُذكّرهم بالفطرة السليمة فى هذا المجتمع ويجب ألا يُدنّسها شخص مهما كانت مكانته…. هنا يعيش الناس فى وئام,…. وفي قضاء حوائجهم يعتمدون على الطبيعة فى كل شئ لا يعرفون الحكومة ولا الحكومة تعرفهم ألا فى مواسم الجبايات أو ما يعرف ب الجزية. الجباية هى العلاقة الوحيدة بين الحكومة وهذا المجتمع البسيط….ذِكر كلمة الحكومة لا يأتى إلا فى موسم الجبايات…. عادة تقترن كلمة الحكومة بأسماء مدن محددة… كتم أو الفاشر والقليل منهم سمع اسم عاصمة بلادهم الخرطوم.

تجمع الرجال تحت شجرة حراز كبيرة تبتعد عن الحلة(القرية) قليلاً. كان إبراهيم يتحرك فى نشاط جم وفى حركة دائبة بين اللائي يأتين بالماء والرجال… تراه وسط الجمع تارة يوزع مياه الشرب وتارة أخرى يساعد أب صُندا الذي انهمك في تضميد الحروق مستخدماً خلطات من أدوية بلدية ساعدته النسوة فى تحضيرها.

” اخلطوا كمية من صفق (كَيّدا وقَيّدا) مع قليل من لحاء (مَتِدا وكَتِدا) ثم اطحنوا مع بعض واحضروه لى سريعاً” قالها أب صُندا للنساء اللائي يجهزن فى الأدوية البلدية.

لم يسبق من قبل أن أشار أب صُندة إلى أسماء الأشجار كمصدر للعلاج فى ملأ من الناس كما إنه لأول مرة يذكر هذه الخلطة البسيطة من الأشجار التي لولاها لما قامت للبيئة قائمة.

الكل يعرفون الفوائد الكثيرة لهذه الأشجار الصحراوية كمصادر الغذاء للإنسان والحيوان والحشرات, وأغراض أخرى… .أدوات البناء …أدوات المنزل… وأدوات أخرى مثل صناعة الحبال والسروج واقفال البيوت ولكن لا يدرون إنها مصدر للعقاقير.

ابوصُندا رجل حاذق فى الأدوية البلدية وهو الرجل الأول في التطبيب بالأعشاب فى المنطقة وعادةً لا يكشف الخلطات التى يستخدمها فى التطبيب إلا أنّ ذلك اليوم كان يوماً غير عادياً بالنسبة له حيث داهمتهم النيران.

۰كان إبراهيم يحاول جاهداً أن يخفف ألم المكلومين ويهدئ روعهم, فيقول لهم ؛ “ربنا خلق الشدائد مع الإنسان ” ويظل يكرر هذه العبارة من وقت لآخر كلما أوهن الجزعُ عزيمة الرجال وافقدهم رباطة الجأش.

إبراهيم رجل فى مقتبل العمر, يزدان مظهره بهيبة الرجال, ينضو من عينيه بريق الذكاء.

فى تلك القرية إبراهيم ليس كسائر الناس وهو رجل المهمات الصعبة, يقدم خدمات جليلة للمجتمع بلا مِنّ ولا اذى ويشار إليه بالبنان ويعرفه القاصي والدانى كالجمل الأورق أينما يذهب فى محيط القرى المتناثرة.

كانت أخته الكبرى كلتومة تقلق كثيراً على حياته وأكثر الخوف من الحُسّاد.

منذ أن بلغ إبراهيم رشده بدأت سمعته تنتشر انتشار النار فى الهشيم, وبات يلعب أدوار مهمة فى مجتمعه الصغير وتنامت شهرته حتى عمت أرجاء المنطقة وبدأ الناس يمجدونه وقد ولّدتْ تلك الشهرة ردود عكسية وأثارت حفيظة بعض الناس فى القرية.

” يا ود امي حلفتك تشرب الموية فى الزجاجة دى كلها اليوم قبل بكرة”.. قالت كلتومة لأخيها إبراهيم.

كان إبراهيم منهمكاً فى تجهيز ملح العطرون للبهائم ولم ينتبه كثيرا ما قالته أخته كلتوم.
كررت كلتوم مرة ثانية نفس القول و بإلحاح شديد.

“موية !!!!! ” سأل إبراهيم أخته كلتومة متعجباً.

ولم يأبه كثيرا ولكن سرعان ما انتبه إبراهيم ونظر إلى أخته وقال بلغة أهله مكرراً للتأكيد ” كداى , كداى , كداى” اى باللغة العربية , طيب, طيب, طيب. ثم تَمَعّن النظر فى وجه أخته فلاحظ ملامح القلق بدت في سيماها.

” أنت يا اخوى دائماً تأخذ الأمور ببساطة” ردت كلتومة, واردفت قائلة ” دى محاية كتبها الفكى احمد”.

” أنت ذهبت لقرية الفكي أحمد البعيدة لكى تأتى بمحاية” علق إبراهيم وهو منهمك فى تجهيز الملح.

فى يوم حرق القرية, أظهر ابراهيم كل مهاراته فى رفع معنويات أهل القرية. مرات مـع المصابين ومرات أخرى يخاطب الجمع بكلمات طيبات ويُشعرهم بأنهم على قدر العزائم.

الشيخ إسحاق رفع رأسه قليلاً وبدأ يراقب حركة إبراهيم بنظرة لا تخلو من الريبة, وتذكر فجأة ذلك اليوم الذي ألهب إبراهيم مشاعر النسوة بإنتصاره المعجزة على من أغاروا بلدته وكان انتصاراً غير متوقع للجميع.

ذات يومٍ غارت مجموعة على قرية إبراهيم وذهبت بعدد من الإبل وقد صادف ذلك غياب معظم رجال القرية, منهم من ورد البئر ومنهم من ذهب للتسوق ومنهم من في رحلة إلى وادي هور لجلب (اورقي) أى السّبْخة أو الترسبات الملحية التى تُملّح بها البهائم.

هاجم المعتدون ولم يكن حاضراً في القرية إلا إبراهيم والشيخ إسحاق وثلاثة من شباب القرية. تعالت صرخات النساء يطلبن الفزعة ممن كان موجوداً فى القرية ولم يخرج غير إبراهيم للتصدي الموقف.

لم يتردد إبراهيم فى مطاردة اللصوص بمفرده بينما الشيخ إسحاق والشباب الثلاث فى البداية خرجوا وهم يجرجرون الخطى ثم عادوا ادراجهم بعد وقت قصير بحجة أنهم ليس لهم دواب لمتابعة الفزعة

فى ذلك اليوم تألق ابراهيم فى سماء الشهرة فقد استطاع أن يقدم نموذحاّ نادرا للبطولة والفداء وأصبح عظيماً فى نظر أهل القرية… “يلولووووو” أطلقت أم تونا زغرودة طويلة وقالت باللغة المحلية ” ارام , ادو قو بى سا جر لقي لى” اى باللغة العربية ربنا يبارك فيك يا ابراهيم….. أم تونا كانت مبتهجة لأنّ إبراهيم أتى بنصر عظيم لأهل القرية فى ذلك اليوم وكان تتويجاً لانجازاته الكبيرة فى هذه القرية وهى لا تُحصى ولا تُعد.

المشهد كان مليئاً بمشاعر جياشة,….. النساء يرقصن من الفرح , البعض يطلقن الزغاريد ذات جرس ورنين وأخريات يهببن إبراهيم ببراتيل مزركشة بألوان شفق المغارب وهو على ظهر بعيره الناصع البياض… واصواتهن تمتزج بدويّ زخات رصاص يطلقها إبراهيم مـن بندقيته إب عشرة.

رددت النسوة جميعهم ” ارام ادو قو بى سا جر . لقى لى”

فى وسط هذا الحفل البهيج كان هناك شخص لم يعجب ما أتى به ابراهبم, كان هذا شخص يراقب المشهد من مسافة ليست ببعيدة وهو يقف داخل منزلٍ متطرفٍ عن بيوت القرية وكان فى موقع لا تراه الأعين, خلف حوش وبين أغصان شجرةٍ توسطت قطاطى بُنيت ب قصب من مرحبيب…. فتحدث فى نفسه؛” ابراهيم يعمل فى تحطيم كل المجد الذي بنيته”.

ثم فكّر طويلاً وعيناه تزغللان ويكاد لا يقوى على التنفس من شدة غصة في حلقه, همهم… وتمتم… وعضّ أصبعه ثم قال بكلمات انطلقت من حنجرة ذكورية واختلطت بترددات حبال صوته ؛ ” لا… لا… لا . ..هذه ليست غلطة إبراهيم” وواصل الشيخ إسحاق يناجي نفسه فقال” غلطة اهل القرية الذين جعلوا من ابراهيم آلهة و يتهافتون إليه كتهافت الذباب على الطعام”….. فكر الشيخ إسحاق أن يفتح جبهة جديدة ويحدد ساحة أخرى للمعركة للحد من نفوذ الشاب إبراهيم وقال فى نفسه مواجهة أهل القرية تجعل طبيعة المعركة صعبة ولكنها لا بد مما ليس بد.

الشيخ اسحاق يرى نفسه زعيماً لأهل القرية خاصة أيام الأعياد حيث يلبس أفضل ما يملكه ويخرج ممطياً حصانه الأسود من منزله إلى ساحة الصلاة في موكب يجمع الرجال والنساء والأطفال ومن قرى كثيرة.

بدأ الشيخ إسحاق يسترجع بما فى ذاكرته من الكيديات الخفية ظل يديرها فى مواجه تمدد نفوذ الشاب ابراهيم فى ذلك المجتمع الصغير.

” أنا الشخص المتعلم الوحيد فى القرية وعندي مكانة إجتماعية , يستحيل أن نستسلم لهذا الشاب” قال الشيخ إسحاق لنفسه.

تذكر الشيخ إسحاق الجدل الساخن بينه وبين آب صُندا فى راكوبة (المسيد) وبحضور معظم أعيان القرية وعددٌ من الشباب.

فى القرية, الرجال يلتقون بشكل دورى فى (المسيد) لأغراض متعددة…. عند أهل القرية المسيد هو المؤسسة الوحيدة التي يلجأ لها الإنسان لحل بعض قضايا المجتمع إضافة إلى أداء صلاة الجماعة…. فى مثل تلك الملتقيات اعتاد أهل القرية أن تكون جدول أعمالهم لأغراض اجتماعية بدءً بالديّات ومروراّ بعقد زيجات, وانتهاءاً بمصالحات عادية, إضافة لأعمال يدوية واكتساب فنونها وتبادل الخبرات فى شؤون الحياة البسيطة كفتل الحبال وحياكة الملابس وتجهيز أدوات ركوب الدواب مثل السروج وأمتعة السفر مثل المخالى والأجربة.

لم يتوقع الحضور ذلك اليوم من آب صُندا أن يتحدث بتلك الشفافية ويكشف الكيديات والمواقف المخزية ل الشيخ إسحاق تجاه الشاب ابراهيم.

كان أب صُندا فى المراحل الأخيرة لحياكة مخلاية بدأ منذ أسبوعين. فى ذلك اليوم أتم خياطة الشريط الأحمر إلذى أتى به قبل سنة مع بعض كماليات للزينة من مليط ليُزّين بها فتحة المخلاية وقد بدأ أب صُندا فى حياكة الأقفال وعلامات زينة أخرى من خيوط جلدية رفيعة ذات نهايات خرزية تتدلى من فتحة المخلاية فى شكل عناقيد. أب صُندا إضافة لمعرفته بطب الأعشاب وهو ماهر وخبير في الصناعات اليدوية.

نظر أب صُندا إلى الشيخ إسحاق نظرة استحقار وهو يُمسك أداة الخياطة بيده اليمنى وخيط من الجلد بيده اليسرى وقال: “يا الشيخ اسحاق, يا ود عمى, أنت رجل عاقل وعالمنا فى القرية” وسكت برهة, ثم واصل في حديثه وقد أمعن النظر فى وجوه المجلس ” كلامى صح ولا أنا غلطان؟؟؟؟ ”

الشيخ إسحاق لم يعلق فى كلام أب صُندا ولكن بدت في وجهه علامات الارتباك.

الكل توسم المدح والإطراء في حديث أب صُندا لا أحد لاحظ ارتباك الشيخ إسحاق ولا احدٌ أجاب على تساؤل أب صُندا .

واصل أب صُندا فى حديثه فسأل الشيخ إسحاق سؤالاً كان وَقْعه كالصاعقة عكس ما كان يتوقعه الحضور؛ ” طيب يا الشيخ ما المشكلة بينك وبين الشاب ابراهيم؟؟”

أمسك الشيخ إسحاق بكلتا يديه طاقيته الأنصارية التى نهضت فوق رأسه مثل صاروخ على منصة الإطلاق واستدار بها يمنة ويسرة وأجاب سريعاً وهو يتمتم ؛
” ابداً, ابدأ, لا, لا… ماذا تقصد؟ لا توجد مشكلة بيني وبين ابراهيم”.

” أنت تُحرّض بعض الناس وخاصة الشباب ضد إبراهيم لإنك ترى أنه ينافسك فى الشهرة… أليس كذلك؟؟” كشف أب صُندا بعض التفاصيل أمام الملأ.

طأطأ الشيخ إسحاق رأسه ووضع يده اليمنى فى جبينه وسكت طويلاً … ساد الصمت بين الحضور كأنّ على رؤوسهم الطير وهم يتبادلون النظرات فى دهشة واستمر الصمت لمدة قصيرة وكان في المشهد لغة العيون هى سيدة الموقف بامتياز.

الشيخ إسحاق كان هو العالم الوحيد في القرية يصلى بهم ويعلمهم أمور دينهم وقد أكسب له هذا مكاناً اجتماعياً…. منذ أن عاد الشيخ إسحاق بعد إكمال دراسته فى خلوة فى جبل مرة ظلّ مواظباً فى تقديم معرفته العلمية لأهل القرية ولكن فى السنوات الخمسة الأخيرة أراد الشيخ إسحاق أن يستغل مكانته العلمية ليكون زعيماً للقرية.

ختم أب صُندا حديثه مخاطباً الشيخ اسحاق ؛ ” نعم أنت عالم القرية ولكن حب الناس إليك قسمة وربنا يعطى كل واحد قدر عطائه “.

فى اليوم التالى انتقل خبر وقائع الجدل بين أب صُندا والشيخ إسحاق إلى مجالس النساء فى القرية واحتدم النقاش بينهن وكان أكثر سخونة مما دار بالأمس فى (المسيد). قالت آمنة ” يا كلتومة أخوك يطمع فى جلباب أكبر من مقاسه”…. إلى هنا انقسمت النساء إلى فريقين وكاد أن ينشب عراك بين كلتومة, الأخت الكبرى لإبراهيم وآمنة, الزوجة الصغرى للشيخ إسحاق… وكان النقاش عقيماً وقد استمر طوال ساعات الجلسة وبسببه تعطل مهام كثيرة كانت تقوم بها النسوة فى ذلك اليوم من صناعة أدوات منزلية.. البرتال والريكة والطبق وحياكة المناديل وغيرها من كماليات المنزل والسلع التجارية.

عاد الشيخ إسحاق من المسيد إلى منزله مضطرباً مهزوزاً ونفسه مثقلة بوساوس وعاش لحظة قصيرة تحت وطأة تأنيب الضمير وتذكّر شيئاً من القرآن وتلا فى نفسه الآيات ” فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح مَن زكّاها* وقد خاب مَن دسّاها”…. إلا إن النفس الأمارة بالسوء فلتت سريعا من وخز الضمير وبدأ الشيخ يتذكر ذلك اليوم الذي تألق نجم الشاب ابراهيم بانتصاره الاسطورى على عصابة اللصوص وسكن فى قلوب الناس.. … تحركت كل روافد الاخلاط الاربع ؛ الحسد, الطمع, الغضب, الغيرة, كلها تحركت من مخبئها وكان لا بد أن تهيج وتنفجر فى يوم من الأيام ولكن متى وكيف هو السؤال الحرج , والكُل كان يترقب اجابته.