قوى الحرية والتغيير: لماذا تستبدلون الذي هو ادنى بالذي هو خير؟
د. أمجد فريد الطيب
المزايدات والحملة الاعلامية التي لجأت اليها قوى الحرية والتغيير وواجهاتها الاعلامية، والتي لم تخلو من كثير من الانحطاط السياسي والاعلامي واساليب اغتيال الشخصية وترديد الاتهامات الفارغة (والتي امتدت ما بين ترولات تويتر وحتى كتابة سيد الطيب الاخيرة… مرورا بكل الاشاعات ومحاولات الاسكات والضغط الاجتماعي) كان الهدف الاساسي منها هو حرف النقاش والاختلاف السياسي وتفادي النقاش حول النقطة الاساسية، وهو عدم فعالية وعبث الاستمرار في تكرار منهج التفاوض السري والتفاهمات السرية التي لن تنتج حلاً جيدا بأي حال من الاحوال. هذا النقاش لن يتم ولا يجب ان يتم القفز عليه بمحاولات قوى الحرية والتغيير وقياداتها لتمجيد الذات وتجريم الاخرين او (حرقهم كما يقولون)… وكأن ذلك سيغير حقيقة ما يحدث، بل هو نقاش من الضروري العودة والتركيز عليه لأنه لا يتعلق باستقرار البلد وتجاوز الازمة الحالية فحسب، بل قد تتعدى اثاره الي مستقبل البلاد على مدى طويل.
كانت احد السفاهات الكاذبة التي تم ترديدها في حملة ق ح ت الدفتردارية لصرف الضو عن الحقائق، والتي من الضروري تناولها لارتباطها بنقاش الخلاف الاساسي: هي محاولة خلط موقفي بموقف المعسكر الانقلابي، وهي محاولة بائسة لأن احد اختلافاتي الجوهرية مع قوى الحرية والتغيير هو في منهجها البائس لمحاولة التذاكي بتقسيم المعسكر الانقلابي، وافتراض ان احد اطرافه: (قوات الدعم السريع تحديدا)، اقرب للتحول المدني الديموقراطي من بقية الاطراف. هذا الموقف يستند الي محض علاقات شخصية وارتباطات قوى بين بعض قيادات ما تبقى من الحرية والتغيير وبين حميدتي واخوه، وهو مجرد استغلال انتهازي لتفاهمات وتحالفات غير مرتبطة بجوهر الصراع السياسي والاقتصادي الحالي في السودان، بل تقفز عليه لتضع المرحلي الذاتي امام الاستراتيجي، لكن خطورة هذا النهج تكمن في الاستناد عليه وجر الحركة السياسية لتقديم تنازلات للدعم السريع في الحل السياسي المرتقب ، وهذه التنازلات تتعلق جوهريا بضمان استقلالية واستمرارية وجود هذه القوات بشكلها الخالي. وهو ما يتجاهل الخطورة الجوهرية التي يشكلها استمرار وجود ونفوذ قوات الدعم السريع على استقرار البلاد والتي خرجت من مجرد كونها افتراض نظري وتحليل سياسي الي واقع معاش يشهد عليه مشاركتها في انقلاب ٢٥ اكتوبر. ان المعسكر الانقلابي هو معسكر واحد ببرهانه ودقلوه واردوله وجبريله ومليشياته وكل من شارك فيه. واذا كنت تريد ان تتعامل معه باي صيغة سياسية او صيغة مواجهة او غير ذلك فالضروري ان تتعامل معه على اساس وحدته فيما تم ارتكابه في الاساس وتسبب في المعضلة السياسية الحالية وهو انقلاب ٢٥ اكتوبر. ان محاولة التعامل مع المعسكر الانقلابي كاطراف مختلفة، ومحاولة كسب بعضها لا يمكن ان يشكل اساسا لحل أي مشكلة ولا يتعدى هذا المنهج سوى كونه يخدم مصالح سلطوية حالية وشهوات نفوذ وسلطة مستقبلية ليس اكثر. محاولات التذاكي مضرة على المدى الطويل، والدعم الذي يلقاه مثل هذا التوجه من بعض مراكز المجتمع الدولي التي اصابها غباش الرؤية والتحليل، يهدف للتعامل مع السياق السوداني بالوصول الي حل سريع وسهل يتم فيه تثبيت الامر الواقع بالنسبة لمكاسب المعسكر الانقلابي، وتقديم بعض الجزر للمدنيين بما لن يجدي في التوصل الي حل دائم.
الاكذوبة الثانية، والتي تتعلق ايضا بما يحدث الان هي فيما يتعلق بالموقف من اتفاق حمدوك – برهان في ٢١ نوفمبر. يحاول المدعون الزعم باني قد قمت بدعم ذلك الاتفاق ، وبغض النظر عن ان هذا الامر لم يحدث، وكتاباتي ومواقفي موجودة بالنسبة لمن يريد الاطلاع عليها، ولكن بعيدا عن تشويه المواقف وتجريم الاشخاص، فالغريب في الامر ان احد اعضاء وفد ق ح ت التفاوضي الذي يعمل على عقد الاتفاقيات السرية الان كان من بين اولئك الذين باركوا التوصل الي هذا الاتفاق قبل ان ينتهره رفاقه للعودة الي خطهم، فلماذا يبعثون به الي مفاوضا مرة اخرى ما داموا يرون الامر خطيئة. والاغرب من ذلك ان موقف قوى الحرية والتغيير المبدئي في رفض ذلك الاتفاق والذي حظي بدعم واسع من القوى الديموقراطية حينها، اتضح انه غير اصيل. فما انكشف بعد ذلك انه بينما كانت قوى الحرية والتغيير ترفض اتفاق ٢١ نوفمبر وترفض حتى اللقاء مع رئيس الوزراء حمدوك حينها، كانت الحرية والتغيير (بصقورها وحمائمها الحاليين) تعقد جلسات تفاوض سرية مع المعسكر الانقلابي عبر عبدالرحيم دقلو! بل ومضت ابعد من ذلك الي محاولة صياغة اتفاق عبرها يشهد عليه المجتمع الدولي لعكس مسار الانقلاب! فاين هي المبدئية التي يتناول بها فريق مشجعي الحرية والتغيير الموقف من اتفاق ٢١ نوفمبر!
الشاهد ان الحرية والتغيير وبدلا من محاولات خلط الزيت بالماء والالاعيب اللفظية التي تمارسها الان، وترقى لمستوى الكذب والتضليل، ان تواجه الواقع بوضوح، وان تستبدل الخطاب الشعبوي الذي تحاول ان تداعب به مشاعر الجماهير ، بالحقيقة السياسية البسيطة، ان قضية السلطة هي قضية مركزية في الصراع السياسي، وانها تسعى اليها لتحقيق اهداف الثورة التي كانت احد مكوناتها. ولكن المنهج الحالي الذي يعتمد التفاهمات السرية والاستهبال السياسي، بدلا من النقاش الواضح، هو ما يدفعها فعليا بعيدا عن اهداف التحول المدني الديمقراطي بشكل حقيقي. وهو ما يمكن ان نشاهده في سعي الحرية والتغيير الحالي لخلق تحالف مدني اوسع، ليس مع قوى الثورة التي يمكن ان تقف معها على قدم المساواة بحصيلة المشاركة في الثورة وفي نقاش وتحديد وجهات وخط عمل ومسار تحقيق اهداف الثورة والتحول الديمقراطي ، بل مع قوى سياسية انتهازية من عهد البشير يستطيعون عبرهم ادعاء تمثيل اوسع للمدنيين وفي نفس الوقت يزايدون عليهم داخل الجبهة الجديدة بصحائف تحالفهم مع المؤتمر الوطني لحظة سقوطهم (مثل الاتحادي الاصل). وتتناسى دائرة اتخاذ القرار الضيقة داخل الحرية والتغيير ان هذا المنهج يسمح لهذه القوى التي اعادوا بث الحياة فيها، ستقوم بممارسة انتهازيتها مرة اخرى وهو عين ما نشاهده الان من الاتحادي الاصل.
ان الاختلاف الاساسي مع قوى الحرية والتغيير الان، هو انها وبعد ان توصلت لتفاهمات شبه مكتملة مع المعسكر الانقلابي تحاول اخراج الاتفاق عبر عملية سياسية تشرف عليها الالية الثلاثية وتقوم بهندسته عكسيا للتوصل الي ما تم الاتفاق عليه مسبقا. والمشكلة ان هذه التفاهمات تتعلق بقضايا مثل بالحصانة لقيادات الانقلابيين، والنفوذ الاقتصادي للجيش، وهيكلة جهاز الدولة وهيكلة وتوزيع المهام داخل جهاز الدولة، والاصلاح الامني والعسكري، كلها تفاهمات تم التوصل اليها في الظلام وتحت موازين قوى مختلة، تفتقد الي الدعم والسند الجماهيري. وقامت بها الحرية والتغيير من موقع ضعف وكأنها ترتكب حراما او عيبا. وهو ما ادى الي ان يصبح بعضها -وخصوصا في القضايا المتعلقة بالانتهاكات والجرائم التي تم ارتكابها- لأن تصبح عطاء من لا يملك لمن لا يستحق! ولهذا تقوم الحرية والتغيير -او بالاصح الثلاثي/الرباعي التفاوضي- بتبليغ اطراف المجتمع الدولي التفاهمات التي يتوصل اليها مع العسكر قبل حتى تبليغ بقية اعضاء تحالفهم ناهيك عن نشرها للسودانيين كافة، لأنهم يرغبون في اعادة صناعة اتفاقهم عكسيا عبرهم.
ما هو غير مفهوم، ولا يبعث على اي شيء غير الشكوك، هو لماذا تختار الحرية والتغيير هذا المنهج، والذي يسمح للعسكر بالتلاعب بهم، ويسمح للقوى الانتهازية بالمزايدة عليهم، ويضعف موقفهم التفاوضي على الاطلاق، بديلا عن عملية سياسية معلنة ومهيكلة ومتدرجة، تسمح بمخاطبة قضايا الحل السياسي في الضو وتشريح المشكلة الي عناصرها الحقيقية الاساسية ومخاطبة ومعالجة القضايا حسب التدرج الموضوعي لها، ىالسماح بمشاركة اكبر للاطراف القاعدية المختلفة في المراحل المختلفة التي تتعلق بقضاياهم المباشرة.
ان استمرار المنهج الحالي لن يقود الي غير السماح للانقلابيين بمواصلة التلاعب بالعملية السياسية التي تجري حاليا في الخفاء. هذا الامر ينبغي ان يتوقف، فالحرية والتغيير ينبغي ان تعي انها تخوض العملية السياسية ليس اصالة عن نفسها، بل تمثيلا لمطالب ثورة شعب كامل. فلتخرج اليه بما تم التوصل اليه وتضعه في ميزان الواقع وقابليته للتحقق… اما الزبد واتفاقيات التذاكي فهو ما يذهب فعلا جفاء.