Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

أحداث النيل الأزرق..هل أشعلت السياسة النيران؟

سودان تربيون : خاص

“الصراع في النيل الأزرق تزكيه أجندات سياسية، ومصالح اقتصادية، لقد أقحمت القبليّة إقحاماً في هذا الصراع الذي تغذيه جهات تسعى من خلاله لاستغلال الموارد الغنية التي يتمتع بها الإقليم”.

هذه هي السردية التي يتبناها مك قبائل الهمج “عبيد أبو شوتال” وهو إذ يظهر الأسى لما حاق بمجتمع الإقليم يؤكد”إنّ الطرفين،من أبناء الهوسا والقبائل الأصيلة من مكونات السلطنة الزرقاء، راحا ضحية لهذا الصراع الذي يهدف لتهجير السكان الأصيلين من أجل استغلال مواردهم، في ظل صمت تام من المركز”

منذ يوليو 2022 تخوض قبائل الهوسا والفونج نزاعاً دامياً، لم يهدأ حتى ارتفعت وتيرته في شهر سبتمبر من ذات العام ليتصاعد العنف إلى مستوى غير مسبوق في أكتوبر 2022، دون أن تتداركه السلطات الأمنية بالإقليم أو المركز.

عوامل أججت الصراع:

بعض تلك الاشتباكات تفجرت بأسباب من إجراءات ومواقف تتسم بالتمييز العنصري، إذ لا تزال إحدى القبائل على الأقل يحظر عليها امتلاك أراضي أو مزارع في الإقليم، وفقاً للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.

وتعارض مكونات قبلية،تعتبر نفسها أصيلة في النيل الأزرق، فكرة إنشاء نظارة لقبيلة الهوسا باعتبارها وافدة، والنظارة هي المستوى الأعلى في تراتيب نظام الإدارة الأهليّة، وتنشأ بموجب مصادقات من حكومة الإقليم وفقاً لنظم الحكم المحلي.

ويقول مراقبون إنّ طرفا النزاع يتلقيان دعماً من جناحين في الحركة الشعبية جرت بينهما مفاصلة سياسية ومناوشات عسكرية، ولا تزال الخلافات تتعمق بينهما، وإذ لا يزال عبد العزيز الحلو يستعصم بجيشه وسلاحه وموقفه الرافض لاتفاقية جوبا للسلام فقد بلغ انخراط مالك عقار لمدى التخلي عن سلاحه وإدماج قواته في الجيش القومي.

ويؤكد بروفيسور بابكر حسن قدرماري، وهو أستاذ بجامعة أفريقيا العالمية، ويدير فيها معهداً لكتابة اللغات بالحرف العربي في حديثه لسودان تربيون “إنّ الصراع الدامي الذي شهده الإقليم مؤخراً غذّته عناصر سياسية، لا ريب في ذلك”

يفي المقابا يذهب المحللون السياسيون إلى: أنّ انشقاق الحركة الشعبية، جعل الأغلبية من مكونات الفونج تميل إلى صف عبد العزيز الحلو، منذئذٍ واجه مالك عقار معارضة شديدة تشكلت ضده في الإقليم، وتصاعدت بعد توقيع اتفاقية جوبا.

يقول قدرماري: “لم يكن لمجموعة الانقسنا التي ينتمي إليها عقار وقع كبير وسط جيش الحركة الذي يقوده، ذلك سوى أنها أقليّةً، فإن أفرادها مسالمون لا ينزعون إلى الصدام، فشكلت المكونات الأخرى من الفونج وجوداً طاغياً وتأثيرا أوسع، لكنها اليوم تحس بالظلم والتهميش وأن مكاسب اتفاقية السلام ذهبت جميعاً الي الانقسنا، زاد هذا ذلك من حِدة الغضبةعلى عقار.”

ويشتكي أبو شوتال من أن “عقار يستأثر منفرداً بجملة المكاسب التي حققتها الاتفاقية، في حين أنّها تنصّ على أن نسبة (70%) من هذه المكاسب يجب أن تُصرف لصالح المجتمع المحلي بإقليم النيل الأزرق.”

“انحسار شعبية مالك عقار وسط قومية الفونج حمله لعقد تحالفات سياسية خارجها من أجل أن يخلق لنفسه قاعدة اجتماعية أوسع” يعلق بروفسور قدرماري.

 كيف تفجرت الخلافات بين عقار وأبو شوتال؟

عقب الانقلاب العسكري (25 أكتوبر 2021) استمّر عقّار، بصفته زعيماُ إقليمياً مسنوداً باتفاق سلام جوبا، في موقعه عضواً بمجلس السيادة ولم يستقل، مثّل ذلك انحيازاً صارخاً للعسكر، وقد طوّر الرجل علاقة جيّدة بالبرهان، سوى الروابط المتينة التي نشأت بينه وبين “حميدتي” إذ ألّف بينهما توافق كبير حول قضايا الهامش والمركز وشعور عميق مشترك بالضيم والاضطهاد، كما أخبرنا شخص مقرب من عقار.

كانت تلك لحظة فارقة في علاقته بمك قبائل الفونج، الذي وجه له أول انتقاد على خلفية هذا الموقف، إذ استهجن انتقاداتٍ لاذعة وجهها عقار للشباب الذين يقودون احتجاجات شعبية ضد العسكر.

قال  أبو شوتال موجهاً حديثه لعقار: “هؤلاء الأولاد الذين يصفقون في الشوارع هم الذين هيئوا لك فرصة التوقيع على سلام جوبا والعودة إلى الداخل وهم الذين حملوك إلى موقعك الذي أنت عليه”

تحالفات بديلة

يعتقد الفونج أنّ الدعم الذي لقيه الهوسا في سعيهم لإنشاء نظارة لهم،يمثّل دليلاً على تحالفهم مع عقار، وتنتابهم مخاوف عميقة من أن حاكم الإقليم التابع لفصيل عقار يمكن أن يعطي موافقته ويصادق على قيام نظارة الهوسا، لقد شكل ذلك تجاوزاً للخطوط الحمراء التي رسموها وتحددت في “الإرث التاريخي” و”الحواكير”.

ويدعو أبو شوتال للتعايش السلمي بين كل المكونات، لكنه يقول إن الخطوط الحمراء تتمثل في الإرث التاريخي والحواكير، فلا  رجعة عنها.

 ضحايا

ما إن لاح في الأفق تحالف الهوسا وعقّار حتى استشعر الفونج الخطر، ووفقاً لمصادر محليّة تحدثت لـ “سودان تربيون”: فإنّ زعماء من أطياف الفونج تواضعوا على خطة لتحجيم الهوسا والحيلولة دون أن يشكلوا تحدياً في المستقبل، كما لا يجب أن يكونوا عضداً لعقار.

وشنت مجموعات من الفونج  في يوليو 2022 هجمات منسقة على الهوسا راح ضحيتها نحواً من 300 قتيل، وهُجّر أكثر من 17 ألف نازح من ديارهم، استناداً لإحصاءات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للامم المتحدة في السودان.

 وتتمتع قبائل الفونج بوجود كثيف ضمن القوات النظامية ولا سيما الفرقة الرابعة من الجيش التي تتمركز في الدمازين

حيث يقول المك أبو شوتال في خطاب من داخل حامية الجيش بالدمازين  الاسبوع قبل الماضي: “نحن نشكّل السواد الأعظم بالقوات المسلحة على مستوى السودان كله”.

ويشكل الفونج أغلبية ساحقة بين عناصر الجيش الشعبي بالنيل الأزرق وقد بعدت الشقة بينها وبين القائد عقار.

تبدد الثقة وسيادة منطق القوة

على مدى الأشهر الثلاثة التالية، عاش الإقليم توترات متصلة، لكن قبائل الهوسا بدأت تتنادى وتنظم صفوفها، وعندما تجدد الصراع في 17 أكتوبر 2022 كان رجالها في تمام الجاهزية وهو الأمر الذي فاقم من حجم المأساة هذه المرة.

يشير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان إلى مقتل نحو 250 شخصاً وإصابة أكثر من 572 آخرين فيما نزح حوالي 7000 شخص من قرى في الروصيرص ومحلية ود الماحي خلال الجولة الأخيرة من النزاع.

حول توفر الاجندة السياسية وتأثيرها على حدة النزاع يقول الكاتب والمحلل السياسي عبد الله آدم خاطر: “إنّ النيل الأزرق لا تزال تعد منطقة نزاع، لذلك فإنّ تداخل المواقف السياسية المتعارضة من شأنه إيجاد تأثيرات سالبة، واتهامات متبادلة نظراً لانعدام الثقة بين الأطراف المتنازعة، كما إنّ انقسام المجتمع المحلي بين ولاءات سياسية متصارعة أن يزيد من التوتر”

من هم  الهوسا؟

يعود أصل الهوسا الى غرب أفريقيا، وهي قبيلة تعتنق الإسلام وقد وصلت إلى السودان منذ قرون، ويشير المؤرخون إلى أنهم استقروا وتغلغلوا في مناطق عديدة من السودان عبر الرحلات البرية الطويلة القاصدة إلى مكة لأداء فريضة الحج، وتوسعوا في الهجرة إلى السودان بعد المهدية.

يقول بروفسور بابكر قدرماري الذي ينحدر من إقليم النيل الأزرق: “إنّ الهوسا ظلت خلال سنوات الخمسينات من القرن الماضي تقيم بأعداد قليلة جنوب الروصيرص، ويتخذون (أم درفا) مركزاً لهم، ثم تكاثف وصولهم إلى الإقليم خلال سنوات الستينات عقب إنشاء خزان الروصيرص الذي اجتذب أقواماً عديدون من كافة بقاع السودان، وكان الهوسا فيمن جاء منهم.

عُرف الأفراد من قبيلة الهوسا في النيل الأزرق بنشاطهم المتدفق في الزراعة والأعمال التجارية، وفر لهم ذلك أوضاعاً اقتصادية جيدة، لكنه بالمقابل أثار غيرة السكان المحليين الذين يعتبرون أنفسهم أصلاء، لكنهم لا يزالون يعيشون فقراً مدقعاً، وفر ذلك في أوقات كثيرة دافعاً لنشوء التوترات والحزازات بين تلك الإثنيّات

ودرج سياسيون كٌثر، على مر الحقب، على إنكار سودانية الهوسا على نحو ما صرّح الرئيس المعزول “عمر البشير” في العام (2008) قائلاً: “ليست هناك قبيلة سودانية اسمها الهوسا، الهوسا أجانب في السودان” قبل أنّ ينكص على عقبيه وينكر تصريحه ذلك فيما يشبه الاعتذار خلال خطاب جماهيري ألقاه بمدينة كسلا في ذات العام.