فريسة في مصيدة القدر
الجميل الفاضل
أتصور ان تنظيم ما يعرف بالحركة الاسلامية، قد وقع فريسة لقدر بات قاب قوسين أو أدني الي النفاذ.
قدر من علاماته هذا التهافت الجنوني على السلطة، الذي إعترى هذه الحركة.
تهافت ربما يفوق حتي، ما يوصف بتهافت الأكلة علي قصعتها في معرض الأمثال.
حركة بدا وكأن قد إستبد بها الشوق، لأيام أقبل علي دربنا لو كنت حيرانا، وأقبل علي نبعنا لو كنت ظمآن.
إن درب هذه الحركة، شأنها شأن كل حركات الإسلام السياسي، هو درب السلطة لا سواه، ذلك الدرب الذي خبرته و إستأثرت به الحركة الإسلامية السودانية، دون غيرها من الحركات المشابهه لأكثر من ثلاثة عقود.
وكذا نبعها نبع المال والثروة، الذي نهلت فيه، ولم تستبق منه شيئا.
المهم فعندما ينشب القدر اظفاره وانيابه في فريسة مثل هذه، ليس ثمة من يستطيع انتزاعها من تحت براثنه القوية.
فالأقدار بطبيعة الحال لا تصنعها صدفة.
إذ أن الله سبحانه وتعالي إذا أراد إنفاذ أمر سلب هكذا كل ذي لب لبه، ليغرد بظن كظن امين حسن عمر وهو يقول: (سنعود بحول الله واذنه الي كل الساحات، رضي من رضي، وغضب واكتئب من غضب.. سنعود بعد ليل “قحت” الدامس مثلما يعود القمر البدر، يطلع على الدياجير والظلمة الظلماء، فيحيل ليلها كنهارها، فتصبح البلاد مقمرة).
وعلى ذات الظن الذي جري به لسان علي احمد كرتي وهو يقول: (نحن في الطريق إن شاء الله الى تطبيع الأوضاع عامة، لنخرج من هذه “الحالة الاستثنائية”).
تلك الحالة التي قال كرتي: انها ستأتي بغير الأوضاع التي كانت في بدايات هذا التغيير من التنمر الذي تابعتموه جميعا، والظلم الفادح الذي وقع على الالاف، وكثير مما جري، مضيفا نسأل الله أن يكون قد انقضي هذا التاريخ.
فالدياجير والظلمة الظلماء، التي يرغب امين حسن عمر في إحالة ليلها كنهارها، لتصبح البلاد مقمرة من جديد، كما كانت، وكما يريد هو بالتأكيد.. هي “حالة الثورة” التي اطفأت نورا اتاحته “الإنقاذ” لأمين قبل أن تظلم الدنيا بوجهه اليوم.
كما إن “الحالة الاستثنائية” التي كانت مسرحا للتنمر، والظلم الفادح عند كرتي هي أيضا “حالة الثورة” ذاتها، التي يرى ان تاريخها قد انقضى، وأنهم الان في طريقهم لتطبيع تلك الأوضاع.
فبمثل هذا الظن تستدرج يد القدرة، من تشاء.. من حيث لا يعلم، الي حيث هي تشاء.
فالاقدار تكتب بمداد الأحبار السرية، التي لن تبدى خطوطها ومنعرجاتها الدقيقة، سوى بعد سطوع شمس نفاذها.
إذ ان ميكانزمات القدر الداخلية، تدفع على شاكلة ما سيرد، كل مقدور الي احضان القدر الذي ينتظره، “تسليما وتسلما”، في موعد لا يتقدم ولا يتأخر، كما يمكن ان يستنبط من قول رب العزة:
“إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم، ۚ ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ۙ ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ۗ وإن الله لسميع عليم”.
ثم علي قرار لمحة أخري ذات مغزى مختلف هو بالضرورة، يقول سبحانه وتعالى: “إذ يريكهم الله في منامك قليلا، ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر، ولكن الله سلم ۗ إنه عليم بذات الصدور”
ولكي يقضي الله امرا كان مفعولا بالحتم والضرورة، فانه يعرض كذلك مثل هذا النموذج الثالث، المغاير والمحفز، للمواجهة في ذات الوقت:
“وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، ويقللكم في أعينهم، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور”.
ترجع الأمور ليس باماني من يجزم هنا بعودته بعد ليل “قحت” الدامس.
ولا بتطلع من يسعى لتطبيع الأوضاع على ما كانت عليه، قبل الثورة او “الحالة الاستثنائية” كما يتصورها.
بل على مراد القائل سبحانه وتعالى:
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ).
ولعل علة الاستدراج تتبدى فيما لخصه المحبوب عبدالسلام بمقاله: ” العجز عن التغيير لا بل عن فهمه”، الذي استهله بالقول: “يخطئ الاسلاميون السودانيون لو ظنوا أن التاريخ يمكن أن تعاد صناعته ويعطي نفس النتائج وفق منهج عملياتى يريد أن يختبر فى المجتمع ما يختبر فى مختبرات العلوم البحتة، ورغم أن التاريخ والمجتمع يتبدل أمام النواظر والبصائر فإن البصائر النافذة وحدها قادرة على إكتناه مدى عمق التغيير وسعة التحولات التى سيحدثها”.
والي ان يقول المحبوب: “إن أحوال ثورة ديسمبر لا تشبه زمان أنتفاضة أبريل 1985 فلم يعد مجدياً مع الشارع ولا مع العالم الكبير أن تتقدم اللجنة الأمنية ببيانها يعلنه رئيسها ويمضى الأمر كما كان مرتباً له. بل إن التاريخ يعيد نفسه مرة كمأسأة ومرة كملهاة وقد لا يعيد نفسه البتة فى الزمان الجديد المتجدد”.
ويردف المحبوب: “لو كان التاريخ يعيد نفسه لنجح انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر واكتمل بدره هلالاً، فقد توهم الذين تبرعوا بالنصيحة المسمومة للفريق البرهان أن ما فعلوه فى رمضان 1989 يمكن أن يعاد فى اكتوبر 2021.
فالعقل القديم الذى صور لجماعة اعتصام القصر أن العودة القديمة الى جذور المجتمع (أمراء القبائل، شيوخ التصوف، الزعامات الأهلية الخ) وتعبئتهم ضد مشروع الحرية والتغيير وحشدهم حول القصر يمكن أن يعيد سيناريو منتصف العقد الثمانين من القرن الماضى، هو ذاته العقل البالى الذى صور لفلادمير بوتن أن غزوه اليوم لأكرانيا لن يختلف عن غزو الاتحاد السوفيتى العظيم لتشيكوسلوفاكيا عام 1968”.