البرهان وحميدتي.. صراع المصائر والتمكين في الخدمة المدنية
خاص: سودان تربيون
للوهلة الأولى تبدو الصورة غير قابلة للتفسير بشأن صعود وهبوط ، العلاقة التي تجمع الجيش، بقوات الدعم السريع، وذلك رغم تكرار التأكيدات من قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في خطابات مختلفة بقوة العلاقة كان آخرها خلال خطابه في ذكرى معركة كرري في 6 سبتمبر الجاري،حين قال إن من يحاولون الوقيعة بين الجيش والدعم السريع “واهمون”، في محاولة مكررة لطمس حقيقة التوتر البائن بين الطرفين.
وبدا واضحا أن صراعا مصيريا يدور بين الرجلين، سيما بانتهاء مرحلة التسليح النوعي للدعم السريع وفقا لما أكدته تسريبات للمتهم بالمحاولة الانقلابية الأخيرة اللواء عبد الباقي بكراوي، الذي أكد لمجموعة من الضباط أن قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” تجاوز تفويضه وسلح قواته بأسلحة نوعية وفق ما أورده موقع “مونتي كاروو”.
والمؤكد أن الصراع المصيري لم يتوقف عقب فراغ القائدين من التسليح وحشد القوات، وتجيير المؤسسات العسكرية والأمنية كل لصالحه بل انتقل للخدمة المدنية، باحتدام التنازع على الوظائف.
ومنذ تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى بدأ حميدتي في وضع أولى خطواته نحو تثبيت دعائم السيطرة على الخدمة المدنية ،وبخلاف التضييق الاقتصادي كمدخل للسيطرة على العمل العام والموظفين،استبق حميدتي، البرهان بمحاولة تقريبية لقطاعين مهمين هما المعلمين، والعاملين في الكهرباء.
وبدأت تحركات الدعم السريع بعد إضراب شهير أعقب سقوط نظام البشير، نفذه العاملون في الكهرباء تدخل إثره قائد ثاني الدعم السريع عبد الرحيم دقلو لإيقاف الإضراب، حينما قام بزيارة العاملين ومخاطبتهم.
وتاليا تدخل حميدتي عقب برمجة قاسية من القطوعات كانت تستمر لعشر ساعات ، حين عمد لتحفيز العاملين بالمال في محاولة اعتبرها مراقبون خطوة “مكشوفة” الهدف منها السيطرة على القطاع المهم.
شد حبل التضييق
ومن خلال مراقبة البرهان للخطوات المتلاحقة وتدخل حميدتي في أزمة المعلمين مصححي أوراق الشهادة السودانية ومنحهم حوافز مالية كبيرة،سعى بوضوح لقطع الطريق أمام غريمه بشد حبل التضييق الاقتصادي وجذبه لمنطقة عالية الخطورة موكلا إليه “إدارة الملف الاقتصادي”.
ورغم نصائح عديدة لحميدتي من مستشاريه بعدم قبول هذا التكليف خلال فترة حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك باعتبارها “مصيدةٰ”يصعب الفكاك من آثارها لاحقا، الا أن الرجل وقع في الفخ رغم انه رفض في بادئ الأمر تولي المهمة، بحسب مستشار عمل لفترة وجيزة مع حميدتي تحدث لسودان تربيون، قائلا إن إخفاقات هائلة لاحقت اللجنة في ملفات العملة والوقود والكهرباء.
جولة خاسرة
ويؤكد المستشار، الذي طلب عدم ذكر اسمه لدواع أمنية، أن تبريرات حميدتي ودفاعه عن اللجنة كان بالفعل نهاية مرحلة علم فيها خسارته الفادحة في الصراع المصيري مع البرهان، الذي بدأ بعد تخلصه من الحكومة المدنية والأحزاب الداعمة لها يفكر في حسم جولة السيطرة على الخدمة المدنية مع حميدتي بمحاولة إقناعه بالانقلاب.
ويقول أحد الموظفين السابقين في دائرة الإعلام التابعة لحميدتي، لـ”سودان تربيون” إن إجراءات البرهان في 25 أكتوبر ضد ائتلاف الحرية والتغيير كانت مرفوضة تماما لدى قائد الدعم السريع في بادئ الأمر.
ويلفت إلى أن حميدتي لم يكن أفاق بعد من لطمتين هما إخفاق اللجنة الاقتصادية وفشل اتفاق 21 نوفمبر 2021 بين البرهان وحمدوك والذي رفضه بدايةً قبل أن يقبل به لاحقا.
ويجزم المسؤول بأن إرشادات قدمها مقربين من حميدتي وتحليلات قامت بها استخبارات الدعم السريع أكدت أن البرهان يسعى لنقل الخطوة الأخيرة للسيطرة على مفاصل الخدمة المدنية وحسم الصراع حولها بتجميد أعمال لجنة تفكيك نظام 30 يونيو، وإعادة نظام الإسلاميين عبر قرارات قضائية لضمان الولاء.
خطوة محفوفة بالمخاطر
ويتفق المحلل السياسي محمد إدريس، في حديثه لـ”سودان تربيون” مع فرضية اتخاذ البرهان تلك الخطوة “المحفوفة بالمخاطر” بإعادة عناصر النظام السابق إلى الخدمة المدنية للحد من سيطرة حميدتي عليها وكسب “كارت ضغط جديد” بخلاف القوات والحركات المسلحة وسند يجده من بعض الدوائر الإقليمية في تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا، والإمارات والسعودية.
لاحقا توالت قرارات المحكمة العليا بإعادة كوادر الإسلاميين للعمل مجددا في الخدمة المدنية وإرجاع المشروعات والأصول والأموال وفك الحسابات المصرفية أخرها نحو 150 حسابا، ودفع تعويضات كبيرة لهم بغية تكملة سيناريو إحكام السيطرة عليهم وعلى القطاع وقطع الطريق أمام تمدد حميدتي.
بالنسبة للمستشار السابق لحميدتي، تبدو تلك الجزئيات الخاصة بإعادة “الإسلاميين” ومنسوبي النظام السابق لوظائفهم بالخدمة المدنية، ذات أهمية بالغة في التأثير على أحلام قائد الدعم السريع من منطلق مشاعر الكراهية التي لا يخفيها الإسلاميين لحميدتي ،وربما ” تشكل خطوة حاسمة في مصير صراعه للسيطرة عليها، خاصة بعد الضغط المقصود عليه للقبول بهيكلة ودمج قواته في الجيش.”.
يؤكد الموظف السابق بدائرة الإعلام التابعة لقائد الدعم السريع أن موافقة حميدتي على دمج قواته مستقبلا ربما فرضتها خسارته لجولة في صراع السيطرة على الخدمة المدنية.
وينبه إلى استعاضة قائد الدعم السريع بـ(خدمة بديلة) تتألف من نحو 5 – 8 آلاف موظف يديرون أعمالا حيوية في كل القطاعات الاقتصادية والمصرفية والتجارية والإعلامية.
تهدف تلك الخدمة البديلة وفقاٰ الموظف السابق، إلى إدارة الخدمة المدنية عبر آلية مختلفة تؤثر على قراراتها وتكون في متناول يد قائد الدعم السريع وهو ما يحدث بالفعل في قطاعات العملة الأجنبية والذهب والإعلام المحطات الثلاث التي يسيطر عليها بنسبة كبيرة.
تحذير أميركي
قبل أربعة أشهر تقريبا خلق رفض قائد الدعم السريع نصائح من مستشارين مقربين من البرهان، الانسحاب من حوار الآلية الثلاثية استياءاً كبيراً وسط قادة الجيش الداعمين للابتعاد عن الحوار بغية الضغط في اتجاه آخر لتكوين مجلس أعلى للقوات المسلحة بصلاحيات واسعة.
تقول مصادر متعددة لـ”سودان تربيون”إن رفض حميدتي للخطوة كاد أن يؤدي إلى مواجهة بين الأطراف، وهو ما حذرت منه مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الافريقية مولي في، آنذاك.
فرقعة الخلافات والصراع بين الرجلين عسكريا من خلال التسليح وتقوية الشركات الاقتصادية القوات والسيطرة على الخدمة المدنية التي بدأ صوتها يعلو دفع بواشنطن لإطلاق التحذير وزيارة حلفاء للولايات المتحدة الى خرطوم لنقل تلك المخاوف لقائد الجيش وضرورة تجنبها فوراً.
وعلى الرغم من تلك التحذيرات، وجد حميدتي منحى آخر للتنافس مع البرهان، بمحاولة كسب المجتمع الدولي، عقب انتزاع إشادة غير متوقعة من الأمم المتحدة بمجهوداته في المصالحات القبلية بإقليم دارفور.
موظفون وصحفيون عند الطلب
بالعودة إلى صراع الخدمة المدنية بين الرجلين تكشف مصادر قريبة من موظفين يعملون مع حميدتي، ان الأخير يوظف بين 5-8 آلاف شخص، في تخصصات مختلفة ويعملون في شركات تجارية وصناعية وإعلامية ومنظمات.
ينال هؤلاء الموظفين بحسب المصادر نحو 34 مليون جنيه شهريا (600) ألف دولار، أعلاها تتلقاها المؤسسات الإعلامية التابعة للدعم السريع.
في وقت، يحيط مستشارون لحميدتي بمجموعة من الصحفيين، يتم تقديمهم كمؤيدين لقائد الدعم السريع، كما يقودون خط الدفاع عنه، بمثل ما يعمد بعض العسكريين بمجلس السيادة لذات الخطوة..
يقول الباحث في الشؤون السياسية د. أمجد النعيم، لـ”سودان تربيون” إن الصراع المصيري الذي يقوم به البرهان ودقلو، حول الخدمة المدنية والسيطرة عليها سيؤدي إلى انهيار العملية الخدمية في البلاد.
ويبين أن محاولة العسكر السيطرة على الخدمة المدنية بالمفهوم الحالي ليس جديدا بل بدأت منذ 11 أبريل 2019، وتمت صناعة قيادات مدنية لتحقيق أهداف سيطرة العسكر والمؤسسة العسكرية على الخدمة المدنية خاصة في القطاعات الاقتصادية والمالية وبنك السودان، وشركات الذهب الحكومية.