Thursday , 28 March - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

كيف ازكى ( الانقلاب) خلافات قادة “الشعبية” وصولا للفراق

عرمان وعقار

خاص : سودان تربيون

استقبل نائب رئيس الحركة الشعبية – شمال “ياسر عرمان” صببيحة 25 أكتوبر 2021 معتقلاً بيد قادة الانقلاب، بينما كان رئيس الحركة مالك عقّار في ذات الوقت بمنطقة “قولو” جنوبي النيل الأزرق، يتلقّى اتصالاً هاتفياً من الجنرال عبد الفتاح البرهان أخبره خلاله بما جرى في الخرطوم.

يقول مصدر مقرّب من رئيس الحركة الشعبية فضّل حجب اسمه لـ”سودان تربيون” إن عقار ابلغ البرهان على الفور، بأن ما جرى يعد انقلاباً عسكرياً كامل الدسم، لكن البرهان ردّ بأنه إجراء تصحيحي وطلب منه العودة للخرطوم.

في ذلك النهار، سمع عقار من زعيم قبلي نافذ، في النيل الأزرق أنّهم لا يرغبون مطلقاً في العودة إلى الحرب، قبل أن يذكّره بأنّ مجموعتهم العرقيّة “الانقسنا” ليست سوى أقليّة في ذلك الإقليم، وأنّ عليه باعتباره، زعيماً إقليمياً، أن يقف مليّاً أمام هذه الحقائق قبل أن يحدد موقفاً قاطعاً مما دار ويدور في الخرطوم.

اتساع الهوّة

استمّر عقّار في موقعه عضواً بمجلس السيادة ولم يستقل. ليس ذلك فحسب يستطرد المصدر ” لعب الرجل دوراً محورياً، إلى جانب الفريق “برمة ناصر” في إقناع رئيس الوزراء المعزول “عبد الله حمدوك” بالتوقيع على اتفاق 21 نوفمبر، ومثّل ذلك انحيازاً صارخاً للعسكر، لا سيما أنّ الرجل تربطه علاقة جيّدة بالبرهان، علاوة على الروابط المتينة التي نشأت بينه و”حميدتي”.

بدا واضحاً أنّ الانقلاب العسكري خلق فعلياً هوّة سحيقة بين رئيس الحركة ونائبه، أخذت تتسع مع الأيام، حينما عبّر “ياسر عرمان” عن موقفه الذي يناقض عقار قائلا: “إن حل الأزمة السياسية في السودان يجب أن يرتكز على طي صفحة الانقلاب الذي فشل سياسياً واقتصادياً، مثل ما فشل في توفير الأمن وحماية المدنيين”.

احتدام التنافس

أثار نشاط عرمان  المتصاعد ضمن تحالف قوى الحرية والتغيير حفيظة رئيس الحركة فأصدر بياناً تبرّأ فيه من تمثيل الحركة في اجتماعات المجلس المركزي للحرية والتغيير وقال: “الحركة الشعبية قيادة مالك عقار لم توفد أيِّ من أعضائها للمشاركة في اجتماعات المجلس المركزي، أيّ عضو شارك يمثل نفسه وليس الحركة”.

وقطع عقار بأنّ علاقتهم مع أي جسم سياسي أو مبادرة يحددها موقف التنظيم أوالسلطة من اتفاق سلام جوبا دون تجزئة وتنفيذ بنوده، ولا سيما الترتيبات الأمنية وعودة النازحين واللاجئين.

وأكد عرمان بعدها ان الخلاف بينه وعقار ينحصر في تقييم الوضع القائم، وتحدث في أواخر ابريل لـ “سودان تربيون” بشأن موقف اتفاق جوبا للسلام قائلا: “إنّ اتفاقية السلام تواجه أزمة حقيقية لأن الانقلاب قوض الشق السياسي منها وهو تحقيق التحول الديمقراطي كما أعاق بناء جيش قومي واحد، وإذ أنّ الاتفاقية بُنيت على عاملين، أولهما سياسي وهو تحقيق التحول الديمقراطي وهذا لم يعد موجوداً، وثانيهما أمني يتعلّق بالترتيبات الأمنية التي تقوم على حماية المدنيين وإصلاح المنظومة العسكرية وبناء جيش واحد قومي ومهني يعكس التنوع السوداني، فإنّ الانقلاب لن يسمح بتحقيق كل ذلك”.

يدافع عرمان ومناصريه عن مواقفهم، فلا يجدون بداً من الاحتكام لمنفستو الحركة (2019) الذي ينصّ على: “إنّ الحل السياسي أحد الآليات المجربة في كل فترّات الانتقال التي شهدّها السودان، مع الأخذ في الاعتبار كيفية تجنب إعادة إنتاج الأنظمة القديمّة على حساب ثورّة الجماهير ومطالبها العادلة في بناء مجتمع جديد، وألا يكون الحل السياسي آلية لإطفاء شعلة الثورّة، ومطية لإدماج الحركات الثورية في إطار الانظمة القديمّة، كما في كثير من تجارب الانتقال الماضية، من ثورّات وانتفاضات واتفاقيات سلام لوقف الحرب ومساومات أعقبت الثورات الشعبية على وجه الخصوص، وأدت إلى فترات انتقال رّخوة لم تخاطب جذور الأزمات وأعادت إنتاج الأنظمة القديمّة والأزِّمات نفسها على نحو أكثر تعقيداً”.

مالك عقار وعبد العزيز الحلو وياسر عرمان في اجتماع بالمناطق المحررة ـ صورة إرشيفية لـ "سودان تربيون"
مالك عقار وعبد العزيز الحلو وياسر عرمان في اجتماع بالمناطق المحررة ـ ارشيف

فراّق بإحسان

هكذا تباعدت الشقة بين الطرفين، وتمترس كلٌ خلف موقفه، ريثما انخرطا في “نقاش مستفيض وعميق اتسم بالشفافية والصراحة” بوساطه من رئيس الجبهة الثورية الهادي إدريس يحي تمخّض عن بيان حمل توقيع القائدين أعلنا بموجبه أنّ القضايا مكان الخلاف، جوهريّة وعميقة ومن الصعب التوافق حولها.

واتفق الطرفان أنّ على تياري الحركة الشعبية عدم استهلاك طاقتهما في خلافات غير منتجة والاستفادة من تجارب الحركة الشعبية السابقة وعدم تكرار ما هو سلبي منها في إدارة الخلاف وأن “يتم الافتراق على نحو ودي يؤسس لإرث محترم في أدب الاختلاف داخل المؤسسات السياسية في بلادنا”.

مسارات جديدة

على ضوء ما تم من اتفاق مضى “ياسر عرمان” يبشر بميلاد جديد وهو يتسنّم رئاسة “الحركة الشعبية لتحرير السودان-التيار الثوري الديمقراطي” لتعمل بمنفستو ودستور الحركة لسنة 2019 ووثيقة برنامج الحركة لحين قيام المؤتمر العام للحركة، فيما أختار “مالك عقار” أن يواصل المسير تحت مسمى “الحركة الشعبية -الجبهة الثورية”.

هذه التطورات تطرح سؤالاً حول وضع التيار الثوري الديمقراطي الذي يقوده عرمان في إطار اتفاق جوبا وكيف يمكن أن تستوعب الاتفاقية الانشقاق؟ في جوابه على هذا السؤال يقول القيادي بالتيار الثوري الديمقراطي د. محمد صالح يس لسودان تربيون: “كان التوقيع على اتفاقية جوبا باسم “الحركة الشعبية – الجبهة الثورية، كنت المقرر وكان ياسر كبير مفاوضي الحركة، لكن دعني أذكّر بأنّ اتفاقية جوبا قامت بناءً على ثورة ديسمبر، إنّ الانقلاب على الثورة هو بمثابة انقلاب كذلك على الاتفاقية، كما أنّ عدم وجود جو ديمقراطي أدى إلى تعطيل آليات التنفيذ في المسارات الإنسانية والسياسية والأمنية، حيث أنّ الترتيبات الأمنية التي وضعت ثلاث مراحل لإنفاذها انتهت المرحلة الأولى منها وتوشك الثانية على النهاية دون إحراز أيّ تقدم، بالختام سيصل هذا المسار إلى طريق مسدود، لذلك أعتقد أن مربط الفرس هو هزيمة الانقلاب والعودة إلى المسار الديمقراطي”.

مخاوف الصراع العسكري

أدار السياسيون في الحركة خلافاتهم من خلال الحوار وانتهوا إلى اتفاق على فراق ودي، لكن ماهو انعكاس الانشقاق على قوات الحركة في مواقع انتشارها وهل ثمّة مخاوف من اندلاع صراع عسكري بينها متى وصل الانشقاق إليها؟ يرد الدكتور يس قائلا: “لا أعتقد بإمكانية حدوث صراع عسكري بين الجانبين، ذلك أن أفراد الجيش الشعبي يتمتعون بوعي كبير وإدراك عميق للقضايا، صحيح إنّ الانشقاق الذي وقع بين عقار والحلو لأول مرة صاحبه صراع عسكري بالنيل الأزرق، ولكن حدث ذلك نتيجة استفزازات إثنية، نحن لا نخشى وقوعها اليوم ما لم تتدخل جهات أخرى لتزرع الفتنة وتغذيها بين الجانبين، ولا سيما أنّ بعض الجهات لديها مصالح تتعلق بنهب موارد المنطقة وتسعى لتأجيج الصراعات حتى تتمكن من تحقيق مآربها، وهنا يجب أن أؤكد أننا في التيار الثوري الديمقراطي نحتاج للانتقال من حركة كفاح مسلح إلى حركة مدنية من خلال دمج قوات الحركة في الجيش قومي واحد بمثل ما يجب أن يحدث لقوات الدعم السريع وقوات الحركات الأخرى.”

عوامل أججت الصراع

هكذا انتهت رفقة الدرب الطويل بين عقار وعرمان وذهب كلٌ إلى وجهته، لكن ما  الأسباب التي أوصلت الأمور إلى هذا الحد؟ وهل واجه مالك عقار ثمّة إكراهات من جهة المنطقة أملت عليه موقفه الذي اختاره بالاستمرار عضواً في المجلس السيادي؟

يقول المحلل السياسي عبد الله آدم خاطر لسودان تربيون”لا ريب أنّ عقار تأثر بما يدور من تدافع إثني في منطقة النيل الأزرق، وضعه في موقف ضعيف بإزاء الاستقطاب الذي تشهده المنطقة ومحاولات تحطيم الوحدة بين أهل الإقليم، إضافة لعدم وجود روابط وجدانية بينه وقوى الحرية والتغيير، صحيح أنه كذلك ليس جزءً من العسكر لكنه أقرب إليهم، لذلك هو موجود هنا فقط لأنه جزء من اتفاق جوبا للسلام.

هل كان التمسك باتفاق جوبا هو العامل الحاسم في القطيعة بين الرجلين؟ لقد كان “مالك عقار” وهو يتبرّأ من أي تمثيل لحركته لدى الحرية والتغيير، كأنه يضع “العقدة على المنشار” حول هذا الأمر يقول خاطر إن الحركة واجهت بعد استقلال جنوب السودان سلسلة من القضايا افضت لمواجهات بين قياداتها، وفي مرحلة حاسمة من ذلك الصراع انحاز عرمان إلى صف عقار في مواجهة “عبد العزيز الحلو” لكن “ياسر عرمان” أضحى يتصرف كأنه نداً لرئيس الحركة، لذلك هما الآن يقفان على النقيض ويبدوان كزعيمين متنافسين.

عودٌ على بدء

نشأت “الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال” في العام 2011، استجابة لواقع انفصال جنوب السودان، حيث جرى العمل على فك الارتباط بين الحركة ذهبت لحكم جنوب السودان، ففيما اتجه قادة قطاع الشمال نحو بناء تنظيمها الخاص وإعادة هيكلته وتشكّلت لجنة داخل القيادة من أجل تطوير رؤية “السودان الجديد” بعد انفصال الجنوب، ووضع برنامج سياسي جديد، بالإضافة لوضع تصور للاتفاق على وضعية الجيش الشعبي لتحرير السودان في جبال النوبة والمنطقتين.

لكن الحركة التي نظمّت صفوفها وتعبّأت بقواتها تخوض حرباً ضروساً ضد نظام “عمر البشير” سرعان ما سقطت في فخ الانقسام، حين قدم نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، عبد العزيز آدم الحلو مطلع العام 2017 استقالته مرتين، تداركتهما قيادة الحركة في كل مرّة، لكنها فيما يبدو لم تتمكن من نزع جذور الخلاف، وهو ما دعا “الحلو” لأن يتقدّم بالاستقالة في المرة الثالثة والأخيرة لـ”مجلس التحرير الاقليمي لجبال النوبة/ جنوب كردفان” وليس “للمجلس القيادي القومي للحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال” وهي الخطوة التي عدّها رئيس الحركة مالك عقّار بمثابة “انقلاب داخلي غير معلن”.

وقال عقّار في تعليق على الخطوة التي اتخذها عبد العزيز الحلو: “إنّ القضايا والأجندة التي تضمنتها وثيقة الاستقالة شبيهه في اللغة والمحتوى والتوجه بما قالت به كافة المجموعات المنشقة السابقة في تاريخ الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ الانقسام الأول داخل الحركة الذي قادته مجموعة الأنانيا (2) إثر محاولة انقلاب داخلي تم في قرية اتانق مروراً بالانقلاب الثاني الذي قاده المقدم “كاربينو كوانين” (1987) وانشقاق الرائد “أروك طون أروك” وصولاً إلى انشقاق جناح الناصر (1991) بقيادة “رياك مشار” و”لام أكول” و”غوردون كونج”

خلص “مالك عقار” في تأمله لوقائع الانقسامات التي عرفتها الحركة الشعبية عبر مسيرها الطويل، إلى أنّ “صدق الانتماء والمحافظة على الولاء للقيادة التاريخية، والالتزام برؤية وأهداف السودان الجديد، وبالهيكل التنظيمي للحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان هو الذي هزم في نهاية المطاف الذين ظلوا يحاولون تقسيم الحركة الشعبية.”

بعث جديد

ويعتقد عرمان بإمكانية بناء “السودان الجديد” الآن أكثر من أي وقت مضى، بدخول الملايين من الشباب والنساء في العملية السياسية في الريف والمدن ورغم هشاشة المجتمع ومؤسسات الدولة، فان ما هو غائب في هذا الظرف المعقدة هو وحدة قوى الثورة. فالسودان كله يحتاج الي تجديد وفي مقدمة ذلك، تجديد الفكر والمؤسسات ووحدة قوى الثورة والنظر للتغيير كعملية شاملة في ترابطها التكتيكي والاستراتيجي”.

لكن الكاتب والمحلل السياسي د. خالد التجاني، ذهب إلى القول “بأنّ هذه الدعاوى محض محاولات للبحث عن دور سياسي، فليس هناك أي سبب موضوعي للحديث عن “السودان الجديد” بعد أن هزمت الفكرة الأساسية، مرةً حينما خضعت الحركة الشعبية الأم لمنطق الانفصاليين وتارة أخرى حينما لم تستطع الحركة إنجاز الفكرة في دولة جنوب السودان وسقطت في القتالات الأهلية التي جعلت منها دولة فاشلة، بينما أضحت الحركة الشعبية شمال، مجرد امتداد لحركة تعيش في دولة أخرى، لكنها لا تهدأ تمور بالانشقاقات والصراعات التي تعكس طبيعة مشروع الحركة وشعاراتها التي ليس لها قاعدة تقف عليها.”

وأضاف التجاني في حديثه لسودان تربيون: “هذه التجربة تعكس أزمة العقل السياسي السوداني، وهي لا تقتصر على الحركة الشعبية فقط وإنما تمتد لتشمل كل القوى التي تدعو للتغيير الجذري ثم ينتهي بها المطاف لأن تهزم نفسها بنفسها”.

وكان د. جون قرنق مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان هو الذي أطلق فكرة السودان الجديد ورأى أنّ الدولة السودانية متمثلة في هيكل السلطة في المركز تحتاج لإعادة هيكلة جذرية حتى تتمكن من استيعاب الأشكال المتعددة للتنوع السوداني والتعامل مع كافة أشكال الإقصاء والتهميش لشعوبها.