(السيسا) بالخرطوم .. عودة جهاز المخابرات السوداني للواجهة
خاص : سودان تربيون
أنهت أجهزة الأمن والمخابرات الأفريقية (السيسا) ورشة حول (دور التحصين والمعالجات الفكرية في مكافحة الإرهاب) بالخرطوم في الفترة من 8 – 9 أغسطس الجاري بمشاركة وفود تمثل أجهزة الأمن والاستخبارات الإفريقية وممثلي مخابرات دول عربية وآسيوية وأوربية كـ”أول حدث معلن” ينظمه ويتبناه جهاز المخابرات العامة منذ سقوط الإنقاذ في العام 2019.
وتحمل الخطوة في مجملها مؤشرات باستعادة جهاز المخابرات العامة وضعيته التي كان عليها قبل الثورة الشعبية وعودته بقوة للميدان ليس على المستوى المحلي فحسب بل حتى بالجوار الإفريقي وبلدان القارة.
فبعد الحملات المكثفة التي ضغطت في اتجاه حل جهاز الأمن والمخابرات الوطني الذي تحول فيما بعد إلي جهاز المخابرات العامة ثم الدعوة لتقليص صلاحياته وسحب بعض سلطاته وتحويله إلي منصة لجمع المعلومات ثم حل هيئة العمليات “جيش الأمن” وحصر دور المخابرات العامة في حدود ضيقة وفقاً لما حددته الوثيقة الدستورية تراجع جهاز المخابرات العامة للصفوف الخلفية بعد إن كانت قبضته حديدية طيلة الثلاثين عاماً الماضية من عمر الإنقاذ.
اليوم تظهر المخابرات العامة السودانية بفعالية تضعها في شراكات وتحالفات أجهزة الأمن والمخابرات الأفريقية من جديد – بعد انقطاع لقرابة الـ 3 سنوات – وتكون الخرطوم هي الملتقي والنقطة الإقليمية لأجهزة الأمن والمخابرات الأفريقية.
وتتمحور قوة وأهمية ورشة (السيسا) من الشعار الذي تبنته مبادرة الخرطوم، وهو (الإرهاب) باعتباره الورقة الرابحة والتي ظل يمسك بها جهاز المخابرات العامة ردحاً من الزمان وذلك لعدة اعتبارات وأسباب من بينها أن السودان كان لوقت قريب مصنف كدولة راعية للإرهاب وتم وضعها – في سجلات الخارجية الأمريكية – منذ العام 1993 في القائمة السوداء لكونها “دولة مقر” للإرهاب و ” معبر” للإرهابيين علي حدٍ سواء هذا فضلاً عن كونها ملاذاً آمنًا للإرهابيين الدوليين عالييْ الخطورة وواحدة من حواضن الجهاديين والجماعات الراديكالية حول العالم.
فالإرهاب الذي شكل عنوان ورشة السيسا يشكل (عربون صداقة) يهدف لبناء شبكة علاقات إقليمية ودولية وفق واقع ومتغيرات جديدة وذلك من خلال أقناع الأعضاء بقدرة جهاز المخابرات العامة السودانية علي الإمساك بملف التطرف الديني والإرهاب في وقت تصاعدت فيه حدته في شرق ووسط وغرب القارة الإفريقية وتزايد نشاط حركة شباب المجاهدين التي توغلت حتى الداخل الإثيوبي وتمدد جماعة بوكو حرام النيجيرية لتدق بعنف أبواب بحيرة تشاد فالنيجر، هذا بالإضافة إلي تسارع العمليات الإرهابية التي تشنها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في كل من مالي وبوركينافاسو والنيجر والقاعدة بلاد المغرب الإسلامي وهجمات داعش شرقي الكنغو وسيطرة الجماعات المتطرفة علي أجزاء واسعة في موزمبيق.
فكلمة السر في هذه الورشة أن ورقة مكافحة الإرهاب في السودان دخلت ولأول مرة دفاتر الصراع السياسي لتكون كارت ضغط يخلق قوة توازن في معادلة السلطة خلال فترة التنازع والتشاكس بين المكون العسكري من جهة وخصومه السياسيين في جبهة قوى الحرية والتغيير ومناصريها من جهة ثانية.
ففي نهاية شهر سبتمبر وبداية أكتوبر من العام الماضي (2021) شهدت الخرطوم معارك وحرب دامية وقعت بين جهاز المخابرات العامة وخلايا متطرفة تتخذ عناصرها أوكاراً ومخابئ بضاحية جبره جنوبي الخرطوم تحصّن فيها إرهابيون من جنسيات أجنبية مختلفة وخلفت المعارك خسائر بشرية في كلا الطرفين.
ومما ألقى بظلال من التشكك والريبة – رغم الأضرار التي حاقت ولحقت بمخابرات العامة – أن الحوادث الإرهابية جاءت في وقت زادت فيه الجفوة والخصومة بين المكون العسكري بحلقاته الأربعة (الجيش ، الدعم السريع ، الشرطة والمخابرات العامة) وشركائه في أجهزة الحكم والسلطة من مكونات قوي الحرية والتغيير لدرجة القطيعة والتوتر لتظهر ولأول مرة معادلة الأمن والاستقرار مقابل منح صك شرعية للقوات النظامية بهدف إبقائها كطرف مهم في معادلة السلطة والحكم باعتبارها حائط صد لردع الشبكات الإرهابية ومحاولة المكون العسكري توظيف واستغلال الحادثة لتقوية مواقفه لتتحول الحادثة لورقة مساومة تتيح فرص مناورة ترجح وتحافظ علي قوة وفاعلية (معسكر القوات النظامية) كتكتيك مرحلي تناست فيها قوى الثورة مطالبها الداعية لـ(ضرورة إعادة هيكلة القطاع الأمني والعسكري) أو علي الأقل باتت مطالب مؤجلة حينها وان تكون الأولوية لفرض الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب وهذا لا يتم إلا بإطلاق يد هذه القوات ودعمها وإسنادها لا تكبيلها وتقييدها وهو أمر أصبح محلاً للاتفاق بين طرفي وشركاء الحكم – رغم سوء العلاقة وقتها .
وهكذا منح ملف الإرهاب الذي ظهر بقوة مع حادثة “خليتي جبرة” المنظومة الأمنية والعسكرية شرعية زادت من قبضتها على مجمل الأوضاع بالبلاد تحت ذريعة مكافحة الإرهاب والتطرف الديني ومقابلة تحدياته وتأثيراته ومضاعفاته داخل السودان وامتداداته الخارجية الإقليمية والدولية خاصة وأن غالبية عناصر هذه الخلايا ينتمون لجنسيات أجنبية متعددة اتخذت من الخرطوم ملاذاً بعد أن ظلت ملاحقة من مخابرات دولها باعتبارها شخصيات إرهابية تورطت في عدد من العمليات.
وفيما بعد أكد نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” أنه يصعب على السودان التصدي للإرهاب ومحاربة تجارة البشر والهجرة غير الشرعية مع تلويح أمريكا والدول الأوروبية بفرض عقوبات على (المكون العسكري) وهو تهديد يستبطن مغازلة خجولة أن تجفيف منابع الإرهاب محاصرته والتصدي للجريمة المنظمة عابرة الحدود لا يتأتى إلا بدعم السودان لا معاقبته.
اليوم ومع تزايد حدة التنافس بين الأقطاب الكبرى والصراع بين أمريكا وروسيا وفرنسا في بلدان القارة الإفريقية الذي غذته الصراعات الداخلية بين المحاور المحلية بارتباطاتها الإقليمية والدولية يجيء (مؤتمر الإرهاب) الذي نظمه جهاز المخابرات العامة بالخرطوم تحت مظلة (السيسا) ليعطي جهاز المخابرات العامة السودانية الضوء الأخضر بما يشبه (التفويض) للمضي في برنامج التصدي للإرهاب والجماعات المسلحة المتطرفة (القاعدة وداعش) ليس على الصعيد المحلي فحسب بل بتقديم خبراته وخدماته وتجربته للمساعدة في المكافحة بالمناطق الملتهبة في بلدان القارة الإفريقية كـ(الصومال ، إثيوبيا ، موزمبيق ، كينيا ، الكنغو الديمقراطية ، نيجيريا ، الكاميرون ، بوركينافاسو ، النيجر ، مالي ، تشاد ، ليبيا ، تونس ، الجزائر) وغيرها من أقطار القارة التي تشهد توترات وصراعات داخلية مسلحة وتحاول المنظمات الإرهابية إيجاد موطئ قدم لها.
فكأن الصلاحيات والسلطات التي تم سحبها من جهاز الأمن والمخابرات العامة والتي جاءت كرضوخ واستجابة لضغوط (الداخل) أعيدت له عملياً عبر الدعم والاحتشاد الإقليمي ممثلا في ورشة (السيسا) بالتامين والتأكيد على الدور الذي ينتظر أن تلعبه المخابرات السودانية خلال هذه المرحلة والفترة القادمة وإنعاش التعاون الأمني وتبادل المعلومات فيما يتعلق بـ(ملف الإرهاب) بين الخرطوم والدول الأخرى بصورة أقوى مما كانت عليه في السابق خاصة الولايات المتحدة والأمم المتحدة وبلدان الإتحاد الأوروبي والدول العربية والجوار الإفريقي.
ذات الأمر أكده البرهان خلال مخاطبته لأعمال الورشة بأن السودان” ظل يلعب دوراً كبيراً في العمل من أجل استقرار وأمن القارة الأفريقية من خلال تصديه لظاهرة الإرهاب والهجرة غير الشرعية وكافة أشكال الجريمة المنظمة العابرة للحدود وذلك اعتمادا على جهوده وإمكاناته الذاتية وتعاونه مع الأصدقاء والأشقاء من أجل تحقيق السلم والأمن على المستوى الأفريقي والدولي”.
كذلك إدراج توصية في ختام الورشة تنادي بـ”ضرورة إنشاء مركز قاري للتحصين والمعالجة الفكرية ضد الإرهاب والاستفادة من الخبرة السودانية الواسعة في هذا المجال” و “القيام بنشاطات وعمليات وخطط مشتركة تهدف لتقديم المساعدة للدول التي ظهرت فيها مؤخراً تهديدات أمنية إرهابية في المنطقة”.
ومن المصادفات أن انعقاد مؤتمر السيسا الخاص بمكافحة الإرهاب تزامن مع المناقشات خلال اجتماع مجلس الأمن الدولي بنيويورك والتي جاءت تحت عنوان “السلام والأمن في أفريقيا : بناء القدرات من أجل الحفاظ على السلام” وتمحورت حول التهديد الذي يشكله التطرف الديني والإرهاب في دول القارة الإفريقية وتزايد نشاط الجماعات المسلحة وهو الأمر الذي حذر منه مفوض الشؤون السياسية والسلام والأمن بمفوضية الاتحاد الأفريقي بانكول أديوي خلال تقديم إحاطته لمجلس الأمن الدولي بـ(أن التهديد الذي يشكله التطرف العنيف والإرهاب لا يزال يلوح بشدة في أفق القارة الأفريقية وفي العالم بأسره وشدد على ضرورة مضاعفة الجهود وتنسيقها لتطوير القدرات المشتركة التي تهدف للحفاظ على السلام ولا يتأتى ذلك إلا من خلال إبطال مفعول الإرهاب والتطرف الديني العنيف).
وما جرى بالخرطوم يتسق مع المجهود العالمي للتصدي للإرهاب باعتباره لا يشكل مهددات أمنية محلية فحسب بل تتجاوز خطورته الحدود الجغرافية الأمر الذي يتطلب أن تقابله جهود إقليمية ودولية كالتي تم الترتيب والتحضير لها في الخرطوم إما لوضع خطط مناعية إستباقية لقطع الطريق أمام التنظيمات الإرهابية التي تحاول التمدد أو كورقة ضغط جديدة تهدف للإبقاء على المخابرات السودانية في ظل ما تواجهه البلاد ودول إفريقية أخرى من تحديات وصراعات تستوجب وجوده على هذا النحو بقوة دفع داخلية وخارجية.