Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

عن أثنية “الهاوسا” السودانيين

محتجون من "الهوسا" بالقضارف في 18 يوليو 2022 رفضا للاستهداف بالنيل الأزرق- مواقع تواصل

ترايو احمد علي

عندما ظهر اسم “الهوسا” في خضم الصراع المجتمعي الذي انفجر مؤخرًا في بلدة الدمازين بأقليم النيل الأزرق ، أثيرت علي اثره قضيتان أساسيتان. الأولي طرحها الإعلام الاسفيري السوداني عن “كيف يمكن علي “الهوسا” (بكل وداعتهم المعهودة و ارثهم من التعايش السلمي) الذي يتمتعون ان ينخرطوا في صراع مجتمعي بكل دمويتهم الذي ظهر” ؟. أما التساؤل الاخر الذي يطرحه مراقبون خارجيون (بما فيهم خبراء فض النزاعات و اعلاميون و منظمات دولية و دبلوماسيون … إلخ) حيث يتساءلون عن: “ما إذا كان شعب الهوسا جزء من سكان السودان الاصليون” ؟
أثير هذا الجدل تقرير الصحفية الاستاذة زينب محمد صالح (المنشور في
23 يوليو 2022) حيث ورد: “إن مطالبة مجتمع الهوسا في السودان بالاعتراف بهم كأوصياء تقليديين على بعض الأراضي في ولاية النيل الأزرق و الذي اندلع علي اثره أعمال عنف و قتل فيه أكثر من مائة شخص معظمهم غير مسلحين ودفع بالآلاف من الهوسا من منازلهم ، مما أثار احتجاجات غاضبة في أماكن مختلفة من ارجاء السودان”.
يذكر ان مجتمع أثنية “الهاوسا السوداني” قد نظمت احتجاجات مماثلة من قبل في أكتوبر 2008 بدافع قلق مماثل عندما نقلت الصحف عن الرئيس السابق عمر البشير قوله إن “الهوسا” ليسوا من السكان الأصليين في السودان وتسببت تلك الاحتجاجات في مقتل سبعة أشخاص وإصابة المئات وإجبار عمر البشير على نفي الإدلاء بهذه التصريحات.
على الرغم من أن “الهوسا السودانيين” هم معروفون بالحيوية و النشاط و الاجتهاد و المثابرة و الاعتماد علي الذات و العصامية و تركوا انطباعا في عيون و مخيلة عموم السودانيين على أنهم قوم يتسمون بالهدوء و الالفة و الوداعة فانني (كشخص لم انتمي الي أثنية الهاوسا) لم أسمع من قبل عن أية حوادث تتعلق بعنف مجتمعي في السودان تم فيها ذكر “الهوسا” كطرف.

و كما تقتضي البحث عن الأدلة و الحقائق للتحقق و اثبات مثل تلك الأحداث اللجوء الي السجلات و المدونات و المضابط، انا سوف سأترك تناول او الغوص عن تفاصيل ذلك الجانب و لكني سوف اتناول الجانب الاخر من الموضوع و هو المتعلق بالسؤال عن “من هم الهاوسا السودانيون” و ذلك لما تلزمه عرف فض النزاعات ضرورة تعريفً دقيقً لاطراف النزاع.

في الإجابة على مثل ذلك السؤال (من هم “الهاوسا السودانيين”) ، فانه من الضروري الاشارة الي جملة من المعايير بما في ذلك اعدادهم و سكناهم و إسهاماتهم الثقافية (سواء في الموسيقى أو في المائدة او في الازياء) او في التجارة او في الصنعة و العمالة او في مساهمتهم في قيادة المجتمع و في ادوار الشخصيات القيادية في العمل العام السياسي و الاجتماعي السوداني.

يُقدر “الهاوسا السودانيون” من حيث عدد سكانها بالملايين و هم على عكس العديد من نظرائهم من المجموعات الاثنية السودانية الأخرى يعتبرون في الغالب من سكان الحضر و ذلك بحكم طبيعة وظائفتهم المهنية و هم ينتشرون في طول وعرض نسيج المجتمع السوداني مع تركيز في المدن الرئيسية (ابتداءا من مدينة الجنينة في دارفور (في أقصى الغرب) عبر مدينة الأبيض (في كردان) و كوستي و الخرطوم و سنار (على ضفة نهر النيل) و كسلا و القضارف حتي بورتسودان (في الشرق) و يسكنون في احيائهم المميزة التي يتعرف باسم “زونقو”. وأشهرها حي “عشش الفلاتة” الذي في قلب العاصمة الخرطوم و يعود تاريخه العريق إلى قرن من الزمان. و على ذات النحو ، تتمتع كل مدينة سودانية رئيسية اليوم بعدد كبير من مجمعات اثنية الهوسا.

أما من حيث العدد و على الرغم من اختلاف تقديراتهم بشكل كبير (كما هو حال بقية الاثنيات) إلا أن تقرير الصحفية زينب يشير إلى أن عددهم يتراوح الآن ما بين ثلاثة إلى عشرة ملايين من جملة 44 مليون من سكان السودان.

ساهمت اثنية “الهاوسا السودانيون” في البناء الوطني السوداني. فإلى جانب مشاركتهم في جيش “المهدي” ضد الغزو البريطاني في القرن التاسع عشر ، فهم قد ساهموا بشكل ملحوظ في العديد من جوانب البناء الوطني بما في ذلك القيادة والقوى العاملة والثقافة ، والموسيقى الرياضية. .
قدمت “اثنية الهوسا” السودانيون العديد من الشخصيات القومية البارزة التي ساهمت في أحداث السودان الحديثة و في مقدمتهم السيد إسماعيل الأزهري (أول رئيس وزراء سوداني) الذي ينتمي إلى أصوله “الهوساتية” من مدينة الأبيض في إقليم كردفان. كما أن الراحل رشيد الطاهر بكر (الذي ينحدر من مدينة القضارف في شرق السودان) و كان نائبًا للرئيس في عهد جعفر النميري هو أيضًا ينحدر من “الفولاني/الهوسا”. ومن الشخصيات الوطنية البارزة الأخرى من هذه الاثنية هي الفنانة السودانية الشهيرة عائشة الفلاتية ، وهي أول امرأة تغني في الإذاعة الوطنية في السودان عام 1942 وقد اكتسبت الفنانة عائشة شعبية كبيرة غير مسبوقة في عهدها مع أغانيها العاطفية وكذلك الأغاني ذات المحتوى السياسي ، خاصة في الفترة التي سبقت الاستقلال و قد لعبت دورًا فريدًا عندما قامت بجولة في القارة الأفريقية خلال الحرب العالمية الثانية تلهب القوات السودانية التي تقاتل من أجل البريطانيين.

في مجال العمالة خاصة الحرف اليدوية يشكل الهوسا الجزء الأكبر من القوى العاملة السودانية (وخاصة العاملين في مشروع السودان الأولي (مشروع الجزيرة) و كانوا رواد في القوى العاملة في بناء سد الروصيرص في النيل الأزرق في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
يُعتقد ان “الهاوسا السودانيون” هم من اوائل الجماعات التي أدخلت تقاليد صيد الأسماك في السودان (خاصة في النيل الأبيض) و هم يشكلون اليوم غالبية المزارعين في منطقة القضارف في شرق السودان بالإضافة إلى اعدادهم الكبيرة في القوة العاملة في ميناء السودان الرئيسي (بورتسودان).

فضلا الي ما تقدم اعلاه فان لهاوسا السودانيين تأثير على المجالات الاخري للثقافة السودانية بصورة لا يمكن التقليل منها (خاصة في المائدة السودانية والموسيقى). لا يمكن سرد تاريخ الموسيقى في السودان دون ذكر فنانين بارزين من اثنية الهوسا و منهم كما زكرنا النجمة عائشة موسى أحمد إدريس الملقبة بعائشة الفلاتية هي أول مغنية تغني في الإذاعة الوطنية في السودان عام 1942 و كذلك منهم أول و رائد موسيقي الجاز في السودان الفنان البارز شرحبيل أحمد.

تشتهر “أثنية الهوسا” بإثراء المطبخ السوداني عن طريق إدخال ونشر عدة أنواع من الطعام في جميع أنحاء السودان ، بما في ذلك الاكل الشهير “الأجاشي” (الكباب المشوي ذات الطعم اللذيذ من اللحم البقري أو الضأن أو الدجاج) و الذي يمثل اليوم الطعام المفضل للسودانيين في جميع أنحاء البلاد. كما أدخلت الهوسا عجينة “القدوقدو” التي يفضلها الأطفال و الكبار علي حد سواء.

في الختام ، مع الأخذ في الاعتبار كل هذا التاريخ الطويل من الإنجازات و المساهمات الوطنية و التأثير الثقافي المميز و عهودا من التعايش السلمي مع الآخرين ، انه من الملفت للنظر أن نجد (احيانا)، من يتسأل عن “اصولية” تاريخ “اثنية الهوسا” في التربة الاجتماعية السودانية!
لا يسع المرء إلا أن يفسر هذه الظاهرة علي اعتبارها من مخلفات الارث السياسي/الثقافي “للدولة الفاشلة” تجاه المجموعات الاثنية التي لها امتدادات خارجية مثل الحلفاويين و المحس و الدناقلة في الشمال الأقصي و البجا في شرق السودان و الأنقسانا علي النيل الأزرق والمساليت والزغاوة في غرب السودان.