Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

تحديات التغيير الجذرى فى ظل التابوهات السياسية والمسكوت عنه فى السودان (٤ – ٤)

الجاك محمود أحمد الجاك

الجاك محمود أحمد الجاك

تناولنا فى الجزء الأول من المقال أسباب فشل الدولة السودانية، كما تحدثنا عن المسكوت عنه فى السودان والتابوهات السياسية التى تشكل مجتمعة تحديات حقيقية أمام التغيير الجذرى فى السودان. المؤسف أنه لا توجد إرادة حقيقية لدى النادى السياسى القديم والذى يمثل المركزية الإسلاموعروبية لإحداث تغيير جذرى فى السودان، فالمجموعة المسيطرة ما زالت وستظل تقاوم أى محاولة للمساس ببنية الدولة القديمة، لأن فى ذلك تهديد حقيقى لهيمنتها وإمتيازاتها. وليس مستغرب أن يعتبر منسوبو المركز الإسلاموعروبى ما أسميناها بالتحديات ثوابت وطنية وخطوط حمراء، فيما يتمسك المتضررون من الأوضاع القائمة فى السودان، أى الأغلبية المهمشة بالتغيير الجذرى كشرط ضرورى للعودة بالوطن إلى منصة التأسيس لإنجاز مشروع وطنى حقيقى يعبر عن جميع الشعوب السودانية بعد فشل الآيديولوجيا الإسلاموعروبية وإنكشاف عورتها.

يبدو أن البلاد مقبلة على مرحلة من الظلام وعدم اليقين وهى محاصرة بأزمات كبيرة ومستفحلة، وباتت نذر الإنزلاق إلى حالة اللا دولة والفوضى العارمة (State of anarchy) واضحة للمواطن البسيط، فأصبح بكل أسف إنعدام الأمن والسلام الإجتماعى وتفشى النزاعات القبلية والإثنية المسلحة والدامية عنوانا للبلد، وساد خطاب الكراهية حتى فى من يفترض فيهم التصرف كرجال دولة بحكم مواقعهم ومن منطلق مسئولياتهم، وليس أدل على ذلك من خطاب البرهان الأخير فى ولاية نهر النيل وهو خطاب عنصرى أزاح الستار وكشف عن السياسات والتوجهات الحقيقية واللا عقلانية للدولة، وقبل خطاب البرهان بولاية نهر النيل كانت تهديدات ووعيد نائبه حميدتى بالقادم الأسوأ (مطر بدون براق) لسكان جبل مون الذين يمارسون حقهم المشروع فى الدفاع عن وجودهم وأرضهم من الغزاة ومافيا الذهب. ولم تمض أيام على خطاب البرهان ووعيد حميدتى حتى قامت فتنة أخرى أشعلها عضو مجلس السيادة مالك عقار وإبن أخته أحمد العمدة بدعم وتواطؤ واضح من قوات الدعم السريع والأجهزة الأمنية فى إقليم النيل الأزرق بين الهوسا وقبائل الفونج وجميعها مكونات عرف عنها التعايش السلمى. ولعل مجموعة عقار ومن يقف خلفهم مصممون على إحداث ذات الفتنة فى جبال النوبة عبر وكيلهم هناك المدعو الرشيد عطية جبلين نائب والى جنوب كردفان المكلف. هكذا صارت مواقف من يمثلون جهاز الدولة تنم عن عقلية متبلدة، وممارساتهم تحاكى سلوك المخلوقات الشريرة وهى مواقف وممارسات لا يمكن أن تصدر من قادة يمتلكون ذرة من الوطنية والنخوة السودانوية. وما وقع من فتن فى النيل الأزرق وجبال النوبة وكسلا، بالإضافة إلى وعيد وتهديدات حميدتى فى دارفور لا يمكن قراءتها إلا فى سياق التوجهات العنصرية للدولة وكمؤشر لإستهداف الدولة رسميا للشعوب الأصيلة فى السودان ينبغى أن تنتبه لها أطراف النزاع حتى يفوتوا الفرصة على سياسة فرق تسد التى ينتهجها مركز السلطة فى الخرطوم لإحداث إنقسام فى الشارع السودانى وصرف أنظاره من القضية الحقيقية وهى إسقاط الإنقلاب وإنجاز مهام التغيير الجذرى. يحدث كل هذا كتمظهر من تمظهرات فشل الدولة السودانية، بينما يتحدث الجميع عن التغيير، كلا من منظوره ولكنه للأسف منظور فارغ من أى محتوى ينم عن وجود مشروع وطنى حقيقى، فيما تظل الهوة واسعة بين الشارع السودانى وأحزابه السياسية التى فشلت فى إنجاز مهام البناء الوطنى وعجزت عن إيجاد حلول ناجعة لمشاكل وأزمات السودان بسبب غياب الإرادة وتقاصر رؤى هذه الأحزاب.

من المؤكد أنه لن ينصلح حال السودان، ولن يحدث أى تغيير جذرى ما لم تتوفر الإرادة الصادقة لإحداث قطيعة كاملة مع الماضى البائس. كما لا يمكن حل مشكلة السودان إلا بالعودة إلى منصة التأسيس لإعادة هيكلة وبناء الدولة السودانية والتى تحتم إتباع وسائل تحقيق السودان الجديد، وهى:

أولا: إلغاء مشروعية العنف والغلبة وتبنى مشروعية العقد الإجتماعى، فقد فشلت الوحدة القسرية وفشلت مشروعية العنف والإستبداد السياسى بعد مضى ستة وستين عاما من الإستقلال، وإتضح أن ما يسمى بإستقلال السودان لم يعدو كونه خروج للمستعمر الأجنبى الذى سلم مفاتيح البلد لمستعمر داخلى. إذا لا بد من قاعدة جديدة للقبول بالعيش المشترك والإتفاق على كيف يحكم السودان حتى يضطر البعض لإعادة النظر فى الوحدة القسرية.

ثانيا إعادة النظر فى الهوية الأحادية الإقصائية، إذ أنه من المستحيل حدوث حل لمشكلة السودان دون المعالجة الجذرية لأزمة الهوية الوطنية والتى تشكل جوهر الصراع فى السودان.

ثالثا: كذلك لا يمكن حل مشكلة السودان بدون الحسم الواضح لعلاقة الدين بالدولة ومنع تسييس الدين وإستغلاله فى السياسة وفرضه كمحدد للهوية الوطنية، وذلك من خلال النص دستوريا على الفصل التام بين الدين والدولة مع إتباع خطوات عملية لتأكيد إعمال وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة فى التشريعات والقوانين، مناهج ومقررات التربية والتعليم، الإقتصاد، الإعلام وتوجهات السياسة الخارجية……إلخ وجعل هذا المبدأ من المبادئ فوق الدستورية، ولن يجدى التحايل ومحاولة الإلتفاف على فصل الدين عن الدولة بفكرة إحالة قضية علاقة الدين بالدولة إلى المؤتمر الدستورى، فالمؤتمر الدستورى مع أنه فكرة ومبادرة الحركة الشعبية لتحرير السودان عندما وقعت إتفاقية السلام السودانية فى ١٦ نوفمبر ١٩٨٨ والتى أصطلح عليها ب (إتفاق الميرغنى – قرنق)، لكنه لم يعد المنبر والآلية المناسبة لحسم جذور المشكلة السودانية. ومعلوم أن إنقلاب الجبهة الإسلاميةالقومية الذى تم بتواطؤ من الإمام الصادق المهدى كان هدفه الرئيسى هو قطع الطريق أمام المؤتمر الدستورى وإفشال إتفاق الميرغنى – قرنق الذى قضى بتجميد قوانين سبتمبر، أى قوانين الشريعة الإسلامية التى أعلنها الرئيس الأسبق المشير جعفر محمد نميرى فى سبتمبر من العام ١٩٨٣. ولأن الإسلاميين كانوا منتبهين ومتحسبين لحتمية قيام المؤتمر الدستورى يوما ما، فقد قاموا بإستنساخ أكثر من مائة حزب سياسى وقاموا بتسهيل إجراءات ودفع تكاليف تسجيلها، ولعل الهدف من تفريخ تلك الأحزاب هو خلق إصطفاف وتواطؤ آيديولوجى لضمان حسم نتائج المؤتمر الدستورى بأغلبية ميكانيكية زائفة لصالح المركز، والحيلولة دون المساس ببنية الدولة القديمة على غرار مؤتمر الوثبة الذى بصم على أجندة المؤتمر الوطنى (أحزاب التوالى السياسى على حد تعبير الترابى، أو أهل القبلة بمفهوم الإمام الصادق المهدى)، بمعنى أنها أحزاب تشاطر المؤتمر الوطنى وقوى السودان القديم والعروبيين التوجهات والثوابت الوطنية. ولذلك عادت قوى السودان القديم لتطالب بعقد المؤتمر الدستورى بعد أن هيأت الملعب لصالحها، وهذا ما لن ينطلى علينا (يعنى عايزين يتذاكوا علينا ويجيبوا تلاتة ألف جلابى أبو عمتين عشان يشتغلوا فلسفة وطق حنك ويحسموا الحقوق الطبيعية بالتصويت، وفى النهاية ينتهى المؤتمر الدستورى إلى نتيجة أشبه بمخرجات حوار الوثبة أو نموذج مؤتمر الكوديسا بتاع جنوب إفريقيا الفشل فى حل أهم مشكلة!!). إن تطبيق فصل الدين عن الدولة لا يعنى بأى حال من الأحوال محاربة للدين كما يروج لذلك أصحاب المشروع الإسلاموعروبى والمتماهين معهم ممن يحاولون شيطنة دعاة فصل الدين عن الدولة لتبرير فرض هوية مكون واحد على كل السودانيين وإستدامة هيمنتهم على مفاصل الدولة ثم التخندق فى الإمتيازات، فالدولة الوطنية الحديثة والتى نشأت بموجب معاهدة ويستفاليا فى العام ١٦٤٨ هيكليا هى دولة علمانية.

رابعا: تحقيقا للإستقرار الدستورى فى البلاد، لا بد من الإتفاق على المبادئ فوق الدستورية (Supra-constitutional principles).

خامسا: إصلاح القطاع الأمنى والعسكرى كشرط ضرورى لبناء جيش وطنى موحد، فالقوات المسلحة فوق أنها ظلت تشكل منذ تأسيسها العمود الفقرى لمؤسسة الجلابة وأحد أقوى أدوات العنف التى إحتكروها لإستدامة دولتهم، فقد صارت مطية للأحزاب السياسية فى تنفيذ الإنقلابات العسكرية. وقد عانى الوطن كثيرا من تقويض المؤسسة العسكرية للدستور وإستيلاءها على السلطة بقوة السلاح من لدن (عبود – نميرى – هاشم العطا – سوار الدهب – البشير – بن عوف – البرهان)، ولكم أن تلاحظوا أن ست وخمسين سنة من عمر الإستقلال هى مدة حكم الإنقلابات العسكرية فى السودان، فى الوقت الذى يتم فيه وصم مجرد محاولة إنقلابية يقوم بها أى شخص من أبناء الهامش بالإنقلاب العنصرى (يعنى حلال عليهم وحرام على الآخرين)، ولذلك من باب التواطؤ والإصطفاف الآيديولوجى، وتكريسا للإستبداد السياسى المحمى بالسلاح وقهر الآخر الثقافى والعرقى والجهوى، ظل نقد القوات المسلحة فى نظر سدنة المركز وحتى وقت قريب من التابوهات السياسية بوصفها خط أحمر (الحارس مالنا ودمنا…….جيشنا جيش الهناء). ومعلوم تاريخيا أن نواة القوات المسلحة هى قوة دفاع السودان (Sudan Defense Force) التى أسسها المستعمر الإنجليزى فى العام ١٩٢٥ لخدمة أهدافه الإستعمارية، لكن بعد خروج المستعمر الإنجليزى ظلت قيادة القوات المسلحة محتكرة للنخب من أبناء الشمال والوسط النيلى، وبإستثناء حالات الترميز التضليلى لعدد محدود من أبناء الهامش المؤدلجين الذين تمت إعادة إنتاجهم للتماهى مع أجندة وتوجهات المركز، فإن أى نظرة فاحصة لأى صورة تجمع قيادة أركان القوات المسلحة أو قادة الفرق والوحدات والتشكيلات تؤكد عدم قوميتها، وقس على ذلك سلك الضباط فى القوات النظامية الأخرى، ما يعنى إحتكار الأقلية المسيطرة لأهم وأخطر أدوات العنف. وقد إقتصرت تجربة الجيش السودانى منذ العام ١٩٥٥ على عدوانيته لأبناء الهامش وخوض حروبات الإبادة الجماعية والتطهير العرقى ضدهم، والعمل على تنزيحهم وتهجيرهم من مناطقهم الأصلية. والجيش السودانى فوق أنه مؤدلج ومسيس، فقد طاله التخريب وتم تلويثه سياسيا لمدة ثلاثة عقود من حكم الإنقاذ البائد لدرجة أنه صار على إرتباط بمنظمات إرهابية معلومة فى عهد الإسلاميين، وأصبحت القوات المسلحة مؤسسة لتفريخ مليشيات سيئة السمعة مثل الدفاع الشعبى والجنجويد وكتائب الظل…..إلخ، ولذلك يعتبر حل أو دمج هذه المليشيات أول خطوة ضرورية لإصلاح القطاع الأمنى (Security sector reform) وإفساح المجال لبناء جيش وطنى موحد، على أن تتبع هذه الخطوة مراجعة العقيدة العسكرية (Military doctrine) وإقرار عقيدة عسكرية وطنية للقوات المسلحة، فضلا عن دمج قوات مجموعات سلام جوبا ومراجعة قانون ولوائح القوات المسلحة وكذلك مراجعة قوانين ولوائح القوات النظامية الأخرى. كما يشمل إصلاح القطاع الأمنى بالضرورة إعادة النظر فى البرتكولات الأمنية وإتفاقيات الدفاع المشترك.

سادسا: تفكيك المركزية القابضة لمصلحة بناء نظام حكم لامركزى حقيقى يمكن الأقاليم من حكم نفسها.

سابعا: إعادة النظر فى التنمية الغير متوازنة، وتبنى سياسة التمييز الإيجابى (Affirmative action) للمناطق التى دارت فيها الحرب بهدف ردم هوة التفاوتات (To bridge the gap of disparities).

ثامنا: لا بد من العدالة الإنتقالية والمحاسبة التاريخية.

 

لا ندعى أنه من السهولة إنجاز حزمة الحلول المتمثلة فى النقاط الثمانية أعلاه لتفكيك بنية الدولة القديمة لمصلحة بناء السودان الجديد، كما ليس متوقعا أن يسمح أصحاب النادى السياسى القديم وقوى الثورة المضادة بحدوث ذلك، وهذا يفسر لماذا يرفض الجلابة فصل الدين عن الدولة صراحة بحجة عدم إيقاظ المارد النائم، وفى ذات الوقت لا يطيقون الكلام عن إعادة النظر فى الهوية الأحادية الإقصائية، أو إعادة هيكلة القوات المسلحة بإعتبار هذه المسائل خطوط حمراء لأنها تشكل المرتكزات والثوابت التى قامت عليها دولتهم، ولذلك يعتبرون أى حديث عن هذه المرتكزات والثوابت هو مساس ببنية الدولة التى تعبر عنهم، وتهديد لسلطتهم وإمتيازاتهم، كما أنهم وبسبب المكابرة والإستعلاء غير مستعدين نفسيا لقبول أن تأتى مثل هذه الأفكار والأطروحات الكبيرة من أبناء الهامش. لكن فى المقابل مؤكد لن تعود الأغلبية المهمشة من منتصف الطريق، ولن يحيد المتضررون من الأوضاع القائمة فى السودان عن الكفاح ومواصلة نضالهم المشروع من أجل بناء سودان جديد يسع الجميع…..إذا لا بد من الوصول وبلوغ النهاية المنطقية، وإن طال السفر.

 

وسلااااااام يا وطن