السودان.. سيرة بلد متقلب الأطوار
الجميل الفاضل
السودان هو وطن المفارقات الكبيرة المدهشة، مذ كان والي يومنا هذا.
واتصور ان قصته في الكون والوجود، تطابق الي حد بعيد في غموضها وغرابتها، قصة نبي الله “موسى” ، والعبد الصالح “الخضر”، الواردة في سورة الكهف.
فضلا عن أن السودان ظل على مر التاريخ وعلى علاته الراهنة، وطنٌا حمّالُ أوجهٍ، يُجيدُ لعبة الاختباءِ، وراءَ ظلال الأسماءِ، وجوقةِ الأصداءِ، كما صور حاله محمد المكي ابراهيم بقوله:
يختبيء البستان في الوردة
تختبيء الصدفة فى منعطف الطريق
والعسل البريئ فى الرحيق
وطائر الفينيق فى الحريق
يختبىء الحريق فى الشرر
يختبىء البستان فى الوردة
والغابة في الشجر.
إذ استطاع هذا البلد غريب الأطوار أن يقبعَ آمناً، بين سُطُور الكتب المُقدّسة القديمة، تارة يحمل وجه “كوش” القديم في التوراة، وفي الإنجيل، وتارة يخرج للناس بأقنعة “الحبشة” يُراقِصُ الحِراب في حضرة نبي يتبسّم بيثرب، وتارة أخرى ينطوي تحت إشارة “المغرب” البليغة، قبل أن يعود مطرقاً إلى مجمع البحرين، أو يمضي حُقباً ليزوي الأرض من أطرافها.
المهم فالسودان وصحيح الإسلام، ظلا وجهان لعملة واحدة، رغم تسلط ادعياء الدين الكذبة على حكمه لثلاثين عاما، شأنهم شأن “الأنبياء الكذبة” الذين قال السيد المسيح في وصف دقيق انهم: “بثمارهم يعرفون”. فالسودان ارضه أول أرض يحكمها حاكم مسلم في الإسلام، “النجاشي”، أول حاكم صار إلى الإسلام وهو على سدة الحكم، كان ذلك قبل قيام دولة المدينة، ودولة الخلافة، وقبل كل الفتوحات التي تأسّست عليها دولٌ من بعد.
كما ان هذا السُّودان الذي عرّفه البروفيسوران الراحلان حسن الفاتح قريب الله، وعبد الله الطيب.. يُعدُ أول بقاع الأرض التي دخلها الإسلام من باب الهجرة لا الفتح، ليأتي انتشار هذا الدين تبعاً لذلك.. بطلاقة الطوع، وسلاسة اللا قسر، وبيسر الوجه، ولين الجانب.
فقد قَطَع سيد الخلق في معرض الثناء على أهل هذه الديار بأنّ ثلة النبي الأمي لن يستكملها سوى أهل السودان من رعاة الأبل، فضلاً عن وصفه لأرضه على اختلاف المسميات والأقنعة.. بأنها “أرض صدق”، وهو اول واخر وصف معنوي يطلقه المصطفى على أرض.
مع إعلان من لا ينطق عن هوى: بأن سادة السودان في الجنات أربعة هم: لقمان، والنجاشي، وبلال، ثم مهجع.
وفي رواية أخرى قوله بصيغة الامر: (اتخذوا السودان فإن منه ثلاثة من سادات اهل الجنة، لقمان والنجاشي وبلال).
و بالتأكيد ليس ثمة حجاب الان بين السودان وأقداره الكبيرة المُنتظرة، سوى حجاب الوقت الذي وردت الإشارة إليه بسفر (أشعياء) كما يلي:
“في ذلك اليوم تُقدّم هدية لرب الجنود من شعب طويل وأجرد، ومن شعب مُخوفٍ منذ كان فصاعداً، من أمة ذات قوةٍ وشِدةٍ ودوس، قد خرقت الأنهار أرضها إلى موضع اسم رب الجنود جبل صهيون”.
قال الإمام محي الدين بن عربي في إحدى نصوصه النادرة: (فإذا بلغ اليتيمان اشدهما، وتوفت الأدوار امدهما، حينئذ يظهر الكنز، وتقوم دولة العز، اذا ظهر الأمر في مجمع البحرين، ولاح السر المكتوم لذي عينين)، ويمضي ابن عربي الى ان يقول: (هذا الأمر هو الكنز الخفي بالبحر الغربي).
وينصح بقوله: (فالذي يعرف حقيقة ذلك الكنز ومحل النجاة والفوز، يقيم جداره، ويسكن داره، ولا يطلب أجرا، ولا يحدث لمن انكر عليه ذكرا).
المهم فَمنذ ان اوحي سبحانه وتعالى لموسي عليه السلام بأن ثمة عبد اعلم يقيم بمجمع البحرين، وأوحي إليه أن يأخذ معه في سفره حوتًا ميتًا، ستعود له الحياة في مكان ما يقيم هذا العبد، انفتحت سيرة أرض من شأنها التقلب بين النوم واليقظة، وألموت والحياة.
فقد سار موسى وفتاه “يوشع بن نون” سيرًا طويلاً امتد لاربعين يوما، حتى وصلا لصخرة جوار النهر بناحية جزيرة “توتي”، جلسا يستريحان عندها من وعثاء السفر فناما، وما ان استيقظ الفتى يوشع، حتى رأى الحوت وقد دبت فيه الحياة، ليتخذ سبيله في البحر سربا، فلما استيقظ موسى نسى الفتى أن يخبره بالحدث العجيب، قبل أن يمضيا في طريقهما بحثا عن الرجل الصالح الذي يبغيان.
يصور القرآن ذلك المشهد على النحو التالي:
(قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا).
من ذلك الحين والي الان، ظلت يد القدرة تبدل في هذه الديار الحال بحال، بين غمضة عين وانتباهتها.
وبالطبع فامر السودان كله عجبا، مثله مثل هذا النموذج الخضري في التصرفات التي تبدو كأنها تخالف العقل والمنطق الطبيعي في كل شيء، رغم انها تجري في الحقيقة، بأمر ربها الي نهايات سعيدة، تختلف عن ظاهرها المخيف والموحش.
هنا تتساوق المنن في طي المحن، وتأتي المزايا في طي البلايا.
ليصبح خرق سفينة مساكين البحر خير لهم من سلامتها، وقتل فلذة كبد ابوين مؤمنين رحمة بهما، وبناء جدار في قرية البخلاء فضل مستحق.
في السودان كما قال الفيتوري:
لن تبصرنا بمآق غير مآقينا
لن تعرفنا
ما لم نجذبك فتعرفنا و تكاشفنا
أدنى ما فينا قد يعلونا
يا ياقوت
فكن الأدنى
تكن الأعلى فينا