“ساعة الحقيقة” آتية لا ريب فيها !
الجميل الفاضل
إن جرس “ساعة الحقيقة” أوشك ان يدق، وعقاربها كادت ان تقترن.. تلك اللحظة بالضبط، هي ما كانت “الحركة الاسلامية” عنه تحيد.
فلنحو ثلاثة أعوام ونصف، جربت هذه الحركة الماكرة كل الحيل التي بيدها، لإعادة عقارب الساعة الي الوراء، أو لايقافها حيث هي، أو لابطاء سرعتها على الأقل.
لكن هيهات.. فإن لكل اجل كتاب، ولكل كتاب غلاف، يبرز عنوانه، ويشف عن فحواه.
فالحركة الإسلامية “متناسلة الأسماء”، اضاعت منذ حين بعيد، الطريق إلى السفين وراءها، لتجد امامها عدوا ذا بأس شديد تخشي ملاقاته، وبحرا خلفها لا قبل لها بخوض لججه.
سيكتب التاريخ ان حركة صغيرة شرهة، حاولت بالحاح، ولنحو ثلاثين عاما، أن تزدرد في جوفها الضامر، شعبا عملاقا وافر الكرامة والكبرياء، ودولة ذات صيت وتاريخ، مترامية الأطراف، غص بها حلق الحركة القاصرة القصيرة، التي عانت عسرا في هضم، شعب بقامة شعب السودان، وقطرا بطوله وعرضه وحجمه.
قطرا عبثت به ايادي هذه الحركة الآثمة، فعمدت لتقطيع اوصاله، توهما في أن تشطيره، قد يسهل عليها مهمة ابتلاعه وهضمه.
يقول دكتور الترابي: ( سيطرنا علي الشرطة، والجيش، والامن، والمجتمع، لتثبيت اركان الحكم، فقد بدانا منذ مرحلة مبكرة الدخول في الجيش للسيطرة عليه، حددنا نحو عشرة الي عشرين سنة، لتنفيذ ما حدث في يونيو (٨٩)، حيث كنت قد اعددت مذكرة سرية للوصول الي السلطة، شاركنا على ضوئها النميري لكي نرتب اوراق هذه المهمة).
وعطفا على هذا التصور يعتقد غالب الاسلاميين ان انقلاب الثلاثين من يونيو جاء كميلاد لدولة الحركة الإسلامية، التي جادل البشير شيخه الترابي حولها، بعد اعلان الاخير حل هذه الحركة نفسها بقوله (اي البشير): قلت له الدولة ملك من يا شيخ حسن؟.. فنحن مقتنعون بأنها ملك للحركة الإسلامية.
واستطرد البشير مذكرا شيخه بأنه يوم ان اتاهم وهم ضباط بالجيش وقال لهم: إن إخوانهم قرروا تسلم السلطة.. اضاف البشير انهم كضباط لم يسألوا الترابي حينها من هم إخوانهم الذين قرروا تسلم السلطة واردف البشير: بل قلنا له سمعا وطاعة.
من تاريخ ذلك اليوم والي يومنا هذا اعتقد ان كثير من الدلائل تشير الي ان أجهزة الدولة العسكرية اضحت غرفة تحكم وسيطرة سرية لحركة الإسلام السياسي على الحكم، ومن ثم علي البلاد برمتها.
فالاستاذ المحبوب عبدالسلام في كتابه “الحركة الإسلامية.. دائرة الضوء، وخيوط الظلام” يقول ان الحركة الإسلامية استثمرت انخراطها في المصالحة مع نظام نميري بتوسعها في اختراق الأجهزة النظامية بتجنيد ضباط في الجيش والشرطة، وفي تدريب طائفة من عضويتها المدنية عسكريا، لانفاذ خطة ترمي لحماية الحركة انذاك، تطورت لاحقا لخطة اعداد لاستلام السلطة بانقلاب عسكري وهو ما حدث بعد ذلك في العام (٨٩).
فالبشير اعترف في وثائقيات قناة العربية بتحكم الحركة وسيطرتها على الدولة بقوله: “الإخوان يتواجدون الان في كل مفاصل الدولة.. كل مفاصل الدولة يمسك بها الاخوان.. والناس الذين عابوا علينا اننا اتينا بالإخوان، الان شاهدوا ما حصل بمصر، لأن مفاصل الدولة كلها هناك ضد الاخوان، ازالوهم في يوم واحد”.
وعلى عكس ما حدث لإخوان مصر وفق تفسير البشير، فإن الردة والتراجع الكبير عن أهداف ثورة ديسمبر المجيدة بعد انقلاب البرهان، تؤكد ان سيطرة الحركة الإسلامية على السلطة، لم تتأثر باقتلاع رأس النظام عمر البشير.
وهذا عين ما اكده الاكاديمي الإسلامي الدكتور حسن مكي الذي قال: في اعتقادي الي عشر سنوات قادمة سيظل الحكم يدور في إطار الإسلاميين، وعزا مكي اسباب سيطرة الإسلاميين بقوله: اذا كانت هناك ١٠ آلاف وظيفة ستجد ان الإسلاميين يحتلون منها ٨ آلاف وظيفة.
وفي ذات السياق قطع السفير خالد موسى بالقول: لا اتطرف اذا قلت ان حكم السودان دون وجود الإسلاميين يعتبر ضربا من المستحيل في الوقت الراهن، الا اذا تغيرت معادلات الواقع، وهذا لا يلوح في الافق القريب.
ولذلك فإن سودان ما بعد “الجبهة الإسلامية” ظل لغزا غامضا وكبيرا.. يصعب تصور كيف يمكن أن يكون، أو لا يكون؟.
إذ يبدو ان من عرفوا بالاسلاميين بات رهانهم الاخير على مؤسسة الجيش التي افرغوا جل جهدهم منذ العام (٧٥) في التدبير والعمل لاحكام قبضتهم عليها.
وبالطبع فان كل تصرفات وقرارت جنرالات انقلاب الخامس والعشرين من اكتوبر تصب الي الان على الاقل في خانة تصديق ان مخطط “الجبهة الإسلامية” القديم قد نجح ليس في الاستيلاء على السلطة فحسب، بل في الاستحواز بالكامل على مقاليد امور هذه المؤسسة القومية المهمة للغاية.. التي يبدو أنها قد اضحت وفق شواهد لا تخفي، غرفة لاستمرار تحكم وسيطرة هذا التنظيم الذي ثار الناس عليه وعلي حكمه الذي امتد لثلاث عقود كاملة.
والي وقت قريب كنت اتشكك بدرجة كبيرة في صحة معلومات اثبتها الكاتب الصحفي عبد الماجد عبد الحميد في مقال بعنوان:
“البرهان إذا قال لا يعلم، فهو يعلم”
إذ ابدي عبدالماجد استغرابا من واقع معرفته بما يدور في دهاليز هذه الحركة لافادات للبرهان في حديثه لمدير التلفزيون السابق لقمان أحمد يقول عبد الماجد عبدالحميد: (فاجأني الفريق برهان بمواقف جديدة، علمت وربما للمرة الأولى أن الفريق برهان لا يعلم أن الحركة الإسلامية السودانية (دعنا نسمي الأشياء بمسمياتها) لديها وجود قوي ومؤثر وفاعل ومنظم داخل القوات المسلحة السودانية، بل وكل الأجهزة الأمنية، والشرطية، وكل الأجهزة الخاصة، الظاهر منها، والباطن.. الفريق البرهان لا يعلم هذه الحقيقة.. ولهذا فهو يستغرب أن يقوم النظام البائد، بتحريك أذرعه هذه ضد الشرعية الثورية، التي حملت البرهان على رأس المكون العسكري، وجعلته حليفاً مقرباً من قوى الحرية والتغيير. الفريق البرهان قال بالصوت العالي: إنه فوجئ بوصول عناصر النظام البائد الي ساحة القيادة العامة للجيش، وهي ترفع صوتها منددة بحكومة حمدوك، ومساندة للقوات المسلحة، في وجه حملة التشويه المنظمة والشرسة، التي تقودها قوي اليسار.
الفريق البرهان قال إنه لم يكن على علم بكيفية وصول (حشد) الى قيادة الجيش، ويستغرب كيف يتجرأ فلول النظام البائد على رفع صوتهم ضد شرعية الثورة التي أطاحتهم.
ما قاله الفريق البرهان يطرح أسئلة جديدة حول أسباب صمت الرجل عندما خرجت جموع تيار نصرة الشريعة، وبعدها جموع الزحف الأخضر، وبعدها حشود حشد، كل هذه مسيرات طرقت هتافاتها مسامع الرجل، لم يقل شيئاً، لأنه لم يكن يعلم ماذا تريد هذه المجموعات، التي أعادت التوازن للساحة السياسية؟، رغم أنها لم تتحرك بكامل القوة التنظيمية والجماهيرية التي تتوفر للتيار الإسلامي والوطني، الذي يملك أدوات ومفاتيح الفعل السياسي المؤثر، إن أراد التحرك بكامل طاقته وشراسته التي يعرفها البرهان، ومن يناصرونه في قوى الثورة المصنوعة).
فلو ان حديث البرهان للقمان في ذلك الوقت قد فاجأ عبدالماجد الذي جزم بأن البرهان لو قال انه لا يعلم في ذلك الوقت، فهو يعلم.
المهم بعد الخامس والعشرين من أكتوبر بات الكل يعلم كما ينبغي ان يعلم بأن الحركة الإسلامية السودانية لديها وجود قوي، ومؤثر، وفاعل، ومنظم داخل القوات المسلحة، بل وفي كل الأجهزة الامنية والشرطية، وكل الأجهزة الخاصة، الظاهر منها والباطن.
وان هذا الوجود الذي رتب له شيخ الحركة وفق مذكرته السرية التي أشار اليها، قبل ٤٧ عاما بقوله: (بدأنا منذ مرحلة مبكرة، الدخول في الجيش للسيطرة عليه) انها مذكرة أتت أكلها امس، ولا زالت تؤتي ثمارها الي يومنا هذا.