Monday , 30 December - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

 اللاءات الثلاثة وبراجماتية السياسة فى رهان

حسين مناوي

حسين أركو مناوي

حسين اركو مناوي

“الأجانب يظنون أنّ السياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية هى سياسة محكمة ومرسومة بعناية. ولكن فى الحقيقة هى ليست سوى شكل من أشكال التوافق win-win deal بين أجهزة الحكم المختلفة” . هنري كسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق.

نحن أمام تجربة بشرية عظيمة, تجربة الولايات المتحدة التي تُلهم البشرية بتحقيق حكم راشد على الكرة الارضية وتتحكم على أعنة العلاقات الدولية كي لا يستبد بها جموح السياسة.  اليوم العالم الذي يحيط بنا ويُشكّل حياتنا هو نفسه نتاج تفاعلات من تجارب أفراد وجماعات وشعوب مختلفة وافكارنا تتشكل نتيجة لتبادل هذه الخبرات بين سكان الكرة الأرضية. نحن أثناء تفاعلنا مع الأحداث نستمد خبراتنا من تجارب الآخرين والتجارب كالسلع فى السوق والخيارغالباً يأتى بالتفاضل وفق قاعدة أىّ أفضل وأنفع ويتم ذلك ببراجماتية عالية. .  فى هذا لا شك الولايات المتحدة الأمريكية لديها تراكم هائل من الخبرات الخاصة بها, إلا أنّ هذه الخبرات ايضاً يمكن أن تصبح مصدراً مهماً للمعرفة تستفيد منها دول وشعوب أخرى ومنها نحن السودانيون

إذا كانت دولة راسخة في الديمقراطية مثل أمريكا تدير السياسة وفق مبدأ التوافق, win-win وقد يكون التوافق خارج أطر سياسات مرسومة من المؤسسات يجب علينا نحن السودانيون الذين لازلنا البعض منا يقتل البعض في حروب سياسية من أجل تحديد ملامح دولة لم تتكون بعد, يجب علينا أن نفهم قيمة التوافق في إدارة الشؤون العامة وخاصة شؤون الدولة ويجب أن نستفيد من تجارب الأمم سبقتنا فى إدارة أزماتها السياسية من خلال منهج التوافق.

الكلمة المفتاحية في الكلام المقتبس لهنري كيسنجر هي التوافق ودرجة التعقيد فى الوصول الى التوافق  تتباين من دولة إلى أخرى ومن شعب الى آخر والحالة السودانية تعتبر من أعّقد الحالات فى تاريخ البشرية. الساحة السياسية السودانية تعج بألوان مختلفة من القوى تشمل القوة الخشنة (العسكرية) والقوى السياسية والقوى الشبابية والقوى الجهوية. لكل هذه القوى دورها الخاص في خلق التوازن وهو النقطة المركزية التي أشار اليها هنرى كيسنجر فى خلق التوافق win-win

مثلما تفضل رجل الدبلوماسية الأمريكية الأسبق النجم, هنرى كيسنجر فى فك بعض طلاسم السياسة فمن الصعب سبر غور السياسة ما لم تتيسر مجموعة وتشكيلة من المعارف وصفات تقوم بمقام أدوات متكاملة فى التعامل مع الطبيعة الزئبقية للسياسة وهي جملة من مهارات لا غنى عن أيّ منها ومن بينها الالمام بالحكمة, التحصيل الأكاديمي, الخبرة, العلاقات الاجتماعية, عدم التردد فى اتخاذ القرار, المغامرة والجرأة فى الظروف الاستثنائية   و…..الخ.  وفى مجتمعات أقل تحضراً تزداد الحاجة لمهارات أخرى أو صفات أخرى مثل الكرم وحب الآخر والفكاهة.

عرّاب السياسة الامريكية هنرى كيسنجر يريد أن يقول لنا السياسة تستجيب للواقع والتعامل مع الواقع يتم ببراجماتية, لأنّ كل التوسع الذي يحدث في مجال المعرفة ومستوى التداخل  بين التخصصات interdisciplinary تجد السياسة من المعارف التي تزحف يومياً لتحتل مساحات في إقاليم المعارف الأخرى. السياسة اقتحمت تخوم العلوم النووية واشتبكت معها فى معارك ضارية كالتى أودت بحياة العالم المصرى فى مجال النووي يحيى المشد في باريس في يونيو 1980.

عندما واجهت دولة أفريقية مثل كينيا اكبر تحدي في تطبيق الديمقراطية, تدخلت السياسة بثوب مبتكر وجاءت بتوليفة سحرية بين ديمقراطية وستمنستر والديمقراطية القبلية ( tribal democracy) , لتأتي الانتخابات بأوهورو في سدة الرئاسة محمولاً على أكتاف قوميته الكيكويو.

الراحل الدكتور جون قرنق, قاتلَِ أكثر من عشرين سنة تحت راية السودان الجديد الذى يقوم على المواطنة المتساوية ولكنه فى النهاية أدار السياسة باسلوب نادر من الحنكة وبراغماتية عندما شعر من الاستحالة تحقيق انتصار كاسح على خصمه, فابرم اتفاقاً مع حكومة الأمر الواقع واستطاع فى ذلك الاتفاق أن يمرر ببراجماتية يحسد عليها نصوصاً تمنح مساحة واسعة للمناورة ما بين الوحدة والانفصال.

ظاهرة هجرة العقول فى عالم اليوم ترتبط ارتباط وثيق بالقرار السياسي. يقال قوة أمريكا اليوم ليست بمواردها الطبيعية ولا بتفوق Uncle Sam على بقية السلالات البشرية,إنما بسبب العقول المهاجرة تحت مسمى تأشيرة آينشتين أو EB-1 وهى تأشيرة تُمنح للأشخاص الذين لهم مواهب استثنائية وهذا هو سر قوة أمريكا التى لا تُقْهر وذلك بفضل القرار السياسي الذي يهدف إلى بناء أمة قوية على حساب امم اخرى من خلال برنامج ظاهرياً مكان الترحيب وباطنياً هجرة عقول امم اخرى وافقارهم. السياسة هي التي ابتكرت منطقاً يُميز درجات الهجرة فى الولايات المتحدة وتجعل البعض منها مقدساً فى قانونهم أكثر من مكانة مواطن من أصول  Uncle Sam.

الكاتب الانكليزي جورج اورويل في كتابه لماذا اكتب, ( Why I write) يتحدث عن طبيعة الديمقراطية في بريطانيا ويقدم لنا وصفاً قد يدهش البعض فى الوهلة الاولى ولكن عند اصحاب الخبرة السياسية لا يجادلون فى أنّ هذا الوصف هو سر نجاح السياسة فى بلادهم. لصياغة ما قاله جورج أورويل  فى رأيه, الديمقراطية في بريطانيا رمزٌ لمزيج غريب من الواقع والوهم والامتيازات والهراء واللياقة. هى عبارة عن “شبكة خفية من التسويات التي من خلالها تحافظ الأمة على شكلها المألوف”.

” Subtle network of compromises by which the nation keeps itself in its familiar shape”.

جورج أورويل وهنرى كيسنجر يتفقان تماماً فى السياسة على أنها مساومة قائمة على مبدأ win-win أى لا مهزوم ولا منتصر. ويبدو هذا المبدأ هو الذى يحفظ وحدة أى بلد وهذا يقودنا الى مواقف القوى السياسية السودانية. عندما ترتفع أصوات من بين القوى السياسية السودانية وتنادى بمبدأ الحوار الوطني, هذه الأصوات ليست لمصلحة خاصة تجنيها  لتنظيماتها إنما تنادي لمصلحة الحفاظ على وحدة السودان وشعبها.