Friday , 19 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

تحديات التغيير الجذرى فى ظل التابوهات السياسية والمسكوت عنه فى السودان (٢ –٤)

الجاك محمود أحمد الجاك

الجاك محمود أحمد الجاك

ما يزال الحديث عن العبودية والرق والعنصرية من أكبر تابوهات السياسة والمسكوت عنه فى السودان، إذ لا يطيق من يتربعون على عرش السلطة والنخب من منسوبى النادى السياسى القديم سماع أى حديث صريح عن العبودية والرق والعنصرية. وعلى الرغم من أننى أعتبر نفسى من ضحايا العنصرية وخطاب الكراهية فى السودان، إلا أننى أومن وأعتقد بشدة أن العنصرية المضادة لا يمكن أن تبنى دولة. إذ يحتم علينا إيماننا وإلتزامنا بمشروع السودان الجديد الذى ينادى ببناء سودان يسع الجميع النأى بأنفسنا عن ممارسة العنصرية المضادة وبث خطاب الكراهية، غير أننا سنمضى فى كشف وتعرية المسكوت عنه بالكتابة عن الرق والعنصرية فى السودان. والحقيقة أن العبودية والرق هما أعمق جذور المشكلة فى السودان والتى ما تزال آثارها باقية ومستمرة، إلا أنه لم يحدث حتى أى إعتذار عن ممارسة الرق.

لقد جاء فى منفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال للعام ٢٠١٧ – الفصل الأول والذى يتناول فى صفحتى (٤ – ٥) العبودية وتجارة الرقيق ضمن الجذور التاريخية لمشكلة السودان: (إن ظاهرة الرق قديمة فى السودان، ولكنها أخذت شكلها المكتمل كممارسة وكتجارة فى عهد الممالك والسلطنات الإسلامية، خاصة فى سلطنة الفور ومملكة الفونج وقد بلغت الظاهرة ذروتها فى عهد الإستعمار التركى المصرى والمهدية. غير أنها، وحتى بعد إضمحلالها كنتيجة لإلغاءها بواسطة المستعمر الإنجليزى فى أوائل القرن العشرين، لكن ظلت آثارها العميقة باقية حتى الآن، ولعل أبرزها وأعمقها هو الإنقسام التاريخى الثنائى غير البسيط (Dichotomy) للشعوب السودانية والذى نتجت عنه أسطورة السيد العربى المسلم، ولو كان فاحم السواد فى مقابل الأسود غير العربى العبد، ولو كان مسلما ولم يقع مطلقا فى أسر الرق).

وتتجلى الآثار الإجتماعية للرق فى ظاهرة الإستعلاء العرقى والثقافى المتفشية فى السودان، فيما تتمظهر آثاره النفسية فى تفشى ظاهرة العنصرية المتأصلة المبنية على وهم التفوق العنصرى، وهى عنصرية السيد العربى المسلم ضد الكل. ولعل أوضح دليل على وجود ظاهرة الإستعلاء العرقى ووهم التفوق العنصرى هو الإساءة والتى وجهت للأستاذ لقمان مدير الهيئة القومية للتلفزيون عندما تم شتمه ووصمه بمفردات عنصرية نتنة: (العب أب مناخير ده قايل نفسو حاكم البلد دى ولا شنو). ودليل آخر لا يقل نتانة هى الإساءة التى وجهها شباب لجان مقاومة الحتانة لعضو مجلس السيادة الفريق أول شمس الدين الكباشى عندما تم سبه ووصفه بالعبد، ولم يشفع له كونه شخصية سيادية فى الدولة، كما لم يحفظ له من سبوه حتى شرف الجندية كضابط كبير فى المؤسسة العسكرية. لم أضرب المثل الثانى دفاعا عن الكباشى، فوجود الكباشى فى مجلس السيادة لا يمثل سوى شخصية مؤدلجة تمت إعادة إنتاجها لتتماهى مع المركز الإسلاموعروبى ومؤسسة الجلابة، ولكن بيت القصيد هنا هو توضيح المستوى الذى وصلت إليه العنصرية الممارسة فى السودان والتى لم تسلم منها حتى الشخصيات الكبيرة فى الدولة. كما ذهلت كيف لجيل صاعد ومستنير ينشد التغيير وينادى بالسلمية وسيلة للتعبير، وشعارا للثورة أن يستخدم العنف اللفظى ويمارس العنصرية علنا وهم ذات الشباب الذين دوت بالأمس هتافاتهم عالية ضد العنصرية: (يا عنصرى ومغرور، كل البلد دارفور). كما تتمظهر الآثار الإجتماعية والنفسية للرق فى العنصرية المستبطنة، وهى العنصرية التى يستبطنها المستلبون الذين يتماهون فى مضطهديهم ويمارسونها بشكل أكبر ضد الآخرين وضد أنفسهم فى آن واحد. وأخيرا تتمظهر الآثار الإجتماعية والنفسية للعبودية والرق فى العنصرية المضادة والتى تعبر عن كراهية ضحايا العنصرية للذين يضطهدونهم. بالطبع هذه الآثار باتت تداعياتها الخطيرة على وحدة وتماسك الوجدان الوطنى واضحة وشاخصة، خاصة فى ظل رفض الإعتذار للضحايا والتذاكى فى الإصرار على تكريس ممارسة العنصرية، دعك من عدم إعمال وتطبيق مبدأ العدالة الإنتقالية والمحاسبة التاريخية اللتان من شأنهما إنصاف الضحايا والإسهام فى تحقيق التعافى الوطنى National healing لتجاوز مرارات عصر العبودية وتجارة الرق.

سنواصل من جانبنا فى تعرية ظاهرة العبودية وتاريخ تجارة الرق فى السودان بالتركيز على الآثار الإقتصادية والسياسية لهذه الجريمة التاريخية، وعلاقة ذلك بالعنصرية الممارسة عمليا والمسكوت عنها فى سودان اليوم، لأن هذه الآثار كما قلنا عميقة جدا وما زالت باقية وقد تضررت منها الأغلبية المهمشة فى السودان، وبالتالى لا يمكن إستمرار السكوت عنها. نعم، سنتحدث عن ذلك بتفصيل وووضوح شديد شاء من شاء، وأبى من أبى. وليكن ذلك محل خلاف أخلاقى ومبدئى مع كل من يحاول إنكار هذه الحقائق، أو لا يطيق سماعها.

وتتجلى الآثار الإقتصادية للعبودية والرق فى قوانين الملكية وتقسيم العمل. فالدولة تنحاز، أو على الأقل لا تلتزم بالقوانين عندما يتعلق الأمر بمن تعتبره العربى المسلم الحر، وخاصة إذا كان ينتمى إلى الشمال والوسط النيلى. أما عندما يتعلق الأمر بغير العربى، أو غير المسلم، فهى تصادر حقه، أو على الأقل تتحيز ضده وكأن هذا هو الوضع الطبيعى. أما فيما يتعلق بتقسيم العمل، فهذا الأمر واضح ويظهر جليا فى الآتى:

١. كانت وما تزال الأعمال اليدوية والحرفية (العمل الجسمانى) والأعمال الوضيعة تمارس فى الغالب الأعم بواسطة المنتمين إلى المجموعات المهمة ممن تعتبرهم المجموعة المسيطرة عبيدا، أو بإعتباره عملهم الطبيعى. بينما التجارة والإدارة والوظائف الكبيرة فى دولاب الخدمة المدنية والسلك الدبلوماسى، والرتب القيادية العليا فى القوات المسلحة والرتب الرفيعة فى القوات النظامية الأخرى تكاد تكون محتكرة لأعضاء المجموعة المسيطرة والذين يعتبرون أنفسهم السادة، وبإعتبار أن هذا هو عملهم الطبيعى أيضا.

ومن ناحية أخرى فإن سيطرة الأقلية على مفاصل الإقتصاد قاد إلى شيوع نمط إقتصاد الريع العشائرى (The rentire economic system). والريع هو كافة أشكال الدخول المكتسبة دون مشاركة حقيقية فى عملية الإنتاج، مثل الدخول العقارية ونظام الشيل، وكافة عمليات تدوير الأموال بعيدا عن دائرة الإنتاج مثل المرابحة والمضاربة والسمسرة فى السلع والمحاصيل. ينظر الإقتصاديون إلى أصحاب الريع العشائرى على أنهم عناصر غير منتجة، بل غير إجتماعية وذلك لمشاركتهم فى جنى ثمار الإنتاج دون أن يكون لهم دور مقبول فى تحقيق هذا الإنتاج. وغالبا ما يكون إقتصاد الريع العشائرى مرتبط بأنظمة القرابة وشيوع القيم الأخلاقية التى لا تشجع على العمل المنتج كالمحسوبية والمحاباة والتمكين على أساس القرابة والإنتماء العرقى والثقافى، وذلك بإتاحة فرص أكبر من خلال تسهيل إجراءات التعيين والتوظيف، أو بتمليك أدوات الإنتاج كمنح القروض والعطاءات، والتصاديق والتراخيص والإعفاءات الجمركية. ومن إفرازات الإقتصاد الريعى أن المجموعة المسيطرة درجت على نهب وإستنزاف موارد وثروات الهامش (الزراعية والغابية والمعدنية)، والإستيلاء على أراضيه الإستراتيجية وتخطيطها كمشاريع إستثمارية لصالح التجار وكبار الموظفين والرتب الكبيرة من ضباط الجيش والقوات النظامية الأخرى.

أما الآثار السياسية للعبودية والرق فى السودان فهى الأكثر وضوحا، وتتمظهر فى الآتى:

١. دور التفوق الإقتصادى فى تمكين الأقلية من إمتلاك مصادر القوة من خلال الهيمنة على السلطة والسيطرة على مفاصل الإقتصاد وإحتكار أدوات العنف، والتفوق فى مجالات التعليم.

٢. إستغلال الدين فى فرض هوية وثقافة مجموعة إثنية محددة على جميع مكونات السودان، وهى فى الحقيقة هوية أحادية إقصائية Monolithic exclusive identity قائمة على تصورات خاطئة ومناقضة لحقائق التنوع التاريخى والتنوع المعاصر. ترتب على ذلك إتباع المجموعة المسيطرة سياسة التهميش بكافة أشكاله. والتهميش هو عملية إستبعاد الأفراد والجماعات من حيازة السلطة والثروة، وذلك بخلق الموانع التى تحول دون تكافؤ الفرص وتعمل على تضييق سبل حيازة السلطة والثروة، هذا إلى جانب التهميش الثقافى، والنتيجة هى إقصاء الأغلبية وقهر الآخر العرقى والثقافى، والإضطهاد الدينى لغير المسلمين فى السودان. هذا الإستبداد السياسى للإسلاموعروبيين الذين لا يقبلون بالعدالة والمساواة مع الجميع على أساس المواطنة، ويرفضون شراكة من يعتبرونهم عبيد فى السلطة والثروة والسيادة فى الوطن، قد ولد الحروب الأهلية التى دفعت جنوب السودان إلى الإستقلال حفاظا على هويتهم، وليعيشوا بكرامة فى بلدهم، وما زالت هذه الحروب الأهلية تهدد وحدة ما تبقى من البلاد. ولضمان إستمرار هيمنتها أصبحت المجموعة المسيطرة أمام أربعة خياريات:

أ- إما إقناع الآخرين بالإستسلام وقبول وضعيتهم كمواطنين من الدرجة الثانية فى وطنهم.

ب- تصنيفهم كأعداء وإبادتهم إن قاوموا.

ج- قمعهم وإخضاعهم بالقوة، إن إستطاعوا إلى ذلك سبيلا، مع الوضع فى الإعتبار صعوبة وكلفة هذا الخيار فى ظل تنامى الوعى السياسى لدى الأغلبية المتضررة من سياسات وممارسات الأقلية الحاكمة، وفى ظل توازن القوة وإصرار المتضررين على مقاومة وتصحيح هذه الأوضاع المختلة، أو

د- الجنوح للتعقل والواقعية والقبول بتسوية تاريخية عادلة تعيد الجميع إلى منصة التأسيس لإعادة هيكلة وبناء الدولة السودانية على أسس جديدة يتم بموجبها قيام الدولة على مشروعية العقد الإجتماعى، والإتفاق على قبول قاعدة جديدة للعيش المشترك.

هناك أوجه أخرى كثيرة لتجليات العنصرية فى السودان على المستوى الرسمى للدولة، ومن الأمثلة التى تثبت صحة ما نقول على المستوى الرسمى:

* تصميم مناهج ومقرارات التربية والتعليم بهدف تنفيذ سياسة التعريب والأسلمة.

* وضوح العنصرية فى توجهات السياسة الخارجية للدولة والتى ظلت مهمتها ورسالتها الأساسية تقديم السودان وتعريفه للعالم كدولة عربية إسلامية. كما تتجلى العنصرية فى الخطاب الرسمى للدبلوماسية السودانية إذ أنها لا تخفى تلك العنصرية عندما تخاطب العرب ب (الأشقاء العرب)، بينما تخاطب الأفارقة ب (جيراننا الأفارقة).

* إرتكاب الدولة للإبادة الجماعية، التطهير العرقى، جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية فى حق شعوب سودانية أصيلة، وعلى أساس عرقى فى جنوب السودان قبل إستقلاله، وفى جبال والفونج. وأخيرا فى إقليم دارفور.

* فتوى إعلان الجهاد على النوبة والتى أصدرت فى الأبيض فى العام ١٩٩٢، والسودان هو الدولة الوحيدة التى تعلن الجهاد على جزء من مواطنيها فى القرن الواحد وعشرين.

* تبنى الدولة لسياسة التغيير الديموغرافى، أى (مخطط إحلال وإبدال السكان الأصليين) من خلال إرتكاب الإبادة الجماعية والتطهير العرقى، وإتباع سياسة الأرض المحروقة بهدف تهجير وتنزيح السكان الأصليين من مناطقهم توطئة لتنفيذ برنامج الإحتلال والإستيطان، ونهب الموارد التى تذخر بها تلك المناطق. يحدث كل ذلك فى الوقت الذى يتم فيه تشجيع هجرة الأجانب إلى السودان وتجنيسهم بمنحهم الرقم الوطنى، ويبدو الأمر كما لو أن هناك من يعتقد بأنهم فقدوا الأندلس، ولكن الله قد عوضهم بالسودان!!

* حادثة عبر جودة فى العام ١٩٥٥ والتى راح ضحيتها المئات من المزارعين إختناقا ومعظمهم من أبناء غرب السودان، وقد أحرجت الحادثة حكومة الإستقلال بزعامة إسماعيل الأزهرى لأنها كشفت عن حقيقة ممارسة العبودية الإقطاعية Feudal slavery

* برنامج الكشات العنصرية إبان حكم الرئيس الأسبق جعفر محمد نميرى.

* مذبحة الضعين إبان الديمقراطية الثالثة عندما الصادق المهدى رئيسا للوزراء.

* الجزية التى كانت تفرض على البالغين من أبناء النوبة تحت مسمى الدقنية، والتى إستمر فرضها حتى بعد ما يسمى بإستقلال السودان (تسع سنوات) إلى أن نجح الرعيل الأول من مناضلى إتحاد عام جبال النوبة فى إسقاط الدقنية ولكن بعد مقاومة شرسة أبدتها قوى السودان القديم والتى كانت ترفض مجرد المطالبة بإلغاءها.

* تخليد ذكرى أكبر تاجر رقيق وتمجيد تاريخه بإطلاق إسمه على أحد شوارع العاصمة الخرطوم (شارع الزبير باشا).

العنصرية متفشية كذلك فى الوسط الفنى والثقافى عبر الأغانى والنكات والأمثلة كثيرة:

* كنا عشرة ونوباوية

* غنى وشكرى يا أم قرقدا هسو

* دوحة العرب أصلها كرم وإلى العرب تنسب الفطن

* أغانى الدوبيت وأشعار أخرى كثيرة تمجد الهمبتة، وتشجع سفك الدماء بدون وجه حق، وللأسف يروج لها وتبث رسميا فى التلفزيون والإذاعة القومية.

 

صفوة القول، نعلم أن الحديث عن تاريخ العبودية وتجارة الرق والعنصرية الموجودة فى السودان، وآثارها العميقة فيه حقائق صادمة وخطيرة ومؤلمة قد لا يطيق البعض سماعها. كما نعلم أن مثل هذه الكتابة ستغضب الكثيرين ممن يريدون لى عنق الحقيقة، وخاصة المحسوبين على النادى السياسى القديم وأشبالهم الذين يستنكرون كسر مثل هذه التابوهات السياسية والتجرؤ بالحديث عن المسكوت عنه بهذا الوضوح، مع أن العنصرية موجودة وممارسة على المستوى العملى فى السودان….لكن من جانبنا نعتقد أن الحل يكمن فى مواجهة هذه الحقائق بكل حسم ووضوح ومعالجة آثارها وتداعياتها، وليس طبطبتها والسكوت عنها، مع أننا نعلم أن الجاك سيقاوم، وسوف لن يقبل بهدم البيت الذى بناه، لأن أى حديث صريح عن هذه الأوضاع المختلة سيفضح حقيقته ويكشف عورة مشروعه الآيديولوجى الإسلاموعروبى، ويهدد مصالحه وإمتيازاته.

ونواصل فى الحلقة القادمة