المحبوب عبد السلام حاشية فضيّة على حافة الغمامة
عبد الحميد أحمد
عندما جاوزنا النيل إلى أم درمان، بدا أنّ الوجهة ليست قريبة والسفر غير قاصد، الازدحام المروري المريع، تكشفت من خلفه حواجز وسدود، اكتنفتها غمائم الدخان الأسود، ثمة فتية أيفاع، أشعلوا الحريق وسدوا الطريق، لتصل إلى وجهتك لا مناص من أن تجوب باطن الأحياء والحارات، كما جابت إبل أبي الطيب، بُسيطة جوب الرداء بين النعام وبين المها، على طول الطريق كان النعام! يمشي بين أيدينا ومن خلفنا، يتسخّطُ ويظهر البرم بثوران الفتية الأشاوس ويدفن رأسه في التراب! إن لم نتصدّ هذا الانقلاب سنسقط جميعاً تارة أخرى في براثن حكم دكتاتوري الله أعلم كم يطول مداه.
من خلف مقود السيارة أدارت الزميلة “مزدلفة عثمان” مؤشر الراديو، فاستقر عند إذاعة البيت السوداني، ثمّة مغنٍ أم درماني يشدو: “بلغي المحبوب سلامي” ونحن على تخوم حي المهندسين كان “المحبوب” قريباً، وبعيداً وراء السدود، كالنيل كما تصوّره الطيب صالح، النيل بعيد، النيل ليس موجود أصلاً، تخطينا إليه من عُسر بزماع الأمر والهم الكنِع، فوصلناه في حرور ينضج اللحم بها.
استقبلنا الأستاذ واقفاً بالشارع، يرتدي جلباباً سودانياً ناصعاً، هو هو، خصيب الوجه كما عهدناه، يشرب قهوته الإسبريسو، وينثر المودة على رفاقه، يتوضأ ويصلي، يقرأ ويتدبر القرءان لا كما يقرأه الذين اسماهم “غير أولي الحس” قلت له هذا جيد فأنت لمّا تزل هنا، تبسم ضاحكاً من قولي أخبرني كيف أن سيدة سودانية اختارت مناسبة شبيهة لتقول له: “منذ فترة وأنا أود أن أسألك فيردني الحياء، صحي يا محبوب أنت ارتديت”
في فبراير من العام 2001 وقّع الأستاذ “المحبوب عبد السلام المحبوب” و”فاقان أموم” في جنيف مذكرة تفاهم بين المؤتمر الشعبي والحركة الشعبية لتحرير السودان، على هامش الحدث يقصُّ “ياسر عرمان” واقعةً طريفة، في التعبير الأحد عن التشنج السياسي، ورفض التفاهم، مهما يكن دعوةً صادقةً لحوار وطني أو سانحة طيبة للدفع بالتي هي أحسن.
وقفت الأستاذة “فاطمة أحمد إبراهيم “عند رأس “يوسف كوة مكي” وهو ينازع الموت بمشفى في لندن ثم انطلقت تخاطب ياسر غاضبةً: “أنا ما في حاجة مقطّعة مصاريني زي مباراتك للمحبوب عبد السلام” في الخرطوم تقطعت مصارين آخرين، رأوا المحبوب متآمراً، فنفثوا غيظ قلوبهم بوجه الشيخ الترابي، فلبث في السجن بضع سنين، ثم أغروا به غلاة السلفيين و”طائرة البطريق – جعفر إدريس” ليكفروه، ففعلوا.
من بعدُ رأت فاطمة إبراهيم القائد “كوّة” يخطر للموت ونعشاً يتوارى، وشهدت الحرب الأهلية تضع أوزارها، والفرقاء يوقعون اتفاقاً للسلام في نيفاشا، قبل أن تعود إلى الخرطوم، تعانق “عمر البشير”، وتقبل التعيين عضواً في برلمانه الافتراضي، وبدا أن سورة الغضب قد انطفأت كأن شيئاً لم يكن.
لو لا أنّ كرّ الأيام والسنين أظهر أن تلك “الحالة الفاطمية” خصلة راسخة، تتلبس طيفاً واسعاً من الناس، الذين رأوا محبوب، يومئذٍ، متآمراً والذين رأوا أنه هادم الأوثان جميعهم اليوم، يذكر اسمه فإذ هم يتحرّقون غيظاً، كمن هو قاعد في النار، وسقوا ماءً حميماً فقطّع أمعاءهم، بدأت نِغمتهم عليه، أول مرةٍ أن قال: “إن الحركة الإسلامية قد استنفدت أغراضها” وإمعاناً في الزراية بهم قال محبوب: ” إنّ تيار الإسلام السياسي هو كيان مصطنع وفق مصطلحات علم الاجتماع السياسي وليس نعتاً يقصد به الإساءة، هو كيان مصطنع يتبدد في التيه من طنجة الى جاكرتا وفقاً لجغرافيا بن نبي نفسه وهو يعجز عن التحديث فضلاً عن الحداثة…”
لقد أدرك المحبوب، كما لم يدرك المنغلقون على ماضيهم البائد، طرائق التفكير لدى هذه الأجيال الناهضة، وهي تجد أنّ مجرّد الدعوة لتكرار الخيبات الكبار، واستدعاء ذات الأفكار والشخوص من ذوي الجهالة والغلظة والتعصب مما يتناقض مع أخلاق الدعاة، والتغاضي عن كل أخطاء الماضي كأن شيئاً لم يكن، فيه استهانة بالغة بعقول الناشئة من الشباب المسلمين الذين برئوا من الخطايا التي قارفها سلفهم الطالح على مدى ثلاثة عقود من الحكم الفاشي، أزروا خلالها بكل التراث الإسلامي حتى بغّضوا الناس في الدين وأغروا بعض الشباب بالإلحاد، ولا يزالون يصرون على الحنث العظيم، كما تنطوي محاولة بعث الموتى وإحياء الرميم على ازدراء عظيم لعقول الناس وفي عبارة الدكتور منصور خالد: “تؤكد التجارب أنّ محاولة القدامى إعادة إنتاج أنفسهم كانت دوماً بأسوأ ما فيها” فكيف بها وهي أنفس أشحة على الخير، شمولية، مستبدة تؤمن بأنها هي دون الآخر الحامي للحقيقة الموحى وتقتفي أثر الكهنوت المسيحي: “لا مكان إلا داخل الكنيسة”
على النقيض من ذلك، يقف الأستاذ المحبوب حيث يؤمن، أبداً على تخوم الإبداع بين ثقافتين، يُمسِّك بالكتاب بقوة، وهو إلى ذلك قد التقط الإشارة التي أوردها “محمد إقبال”: “إنّ العالم الإسلامي لن ينهض إلا بقلب شرقي وعقل غربي.” تجده شديد الانفتاح، تقوده الثقة بالنفس، بعيداً عن الجمود والانكفاء على التاريخ، فيرود الأفكار الأبكار ويستكشف المعرفة والحكمة، ضالة المؤمن، حيثما وجدها أخذها.
بمثل ما انتهى به بحثه إلى آفاق رحيبة باهرة الضياء، انتكست النِغمةُ بثلة “غير أولي الحس” إلى الطعن في دينه، فانحرفوا نحو تحوير الخلاف الفكري والانتقال به إلى ميادين التكفير والتشهير وطاروا بحديث له مجزوء زعموا أنه يعارض صريح القرءان، كان ذلك إفك أفتروه، وأعانهم عليه آخرون، سماعون للكذب، سماعون لقوم آخرين يحرفون الكلم عن مواضعه، نظموا من قبل “فرفرة دجال” في جامعة الخرطوم، وكما استنهضوا آنفاً كاتباً ذا لوثة من وهدته لدى شواطئ نهر المسيسيبي، ليشهروا بالشيخ الترابي، استعدوا، هذه المرّة، بالتحريش على المحبوب رجل أفين، كذلك هو –راسبوتين الإنقاذ- فلم يضرّوه إلا أذى.
ما أبدع خلاصة “منصور خالد” حين ذهب إلى “أنّ أكثر من عرف بخصلة – الحسد – الذميمة من أهل السودان هم صفوته مما يعني أنّه ليس لأولئك شية من صفاء” ومعه نسأل: “صفوة كانوا أم عُكارة لماذا تفشّت ظاهرة الحسد أو الغيرة المفرطة بين هذه الفئة وبصورة لا تمت للعقلانية بسبب؟”