الظروف والاحداث التي سبقت انقلاب 17 نوفمبر 1958 في السودان(6) والأخيرة
دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه
عبدالله خليل يصرح بأسباب الانقلاب
1
يُذكر ضمن أسباب الأزمة السياسية التي أدت إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958 فشل الأحزاب السياسية في تشكيل حكومة قوية ومستقرة. لذلك لم يكن مستغرباً أن أوضاع الأحزاب الشمالية الثلاثة وهي الأمة والوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي، كانت ضمن مباحث اللقاء التفاكري المشترك لتقييم الوضع السياسي الذي عقده في 6 نوفمبر 1958 سفير المملكة المتحدة سير تشابمان أندروز وسفير الولايات المتحدة الأمريكية جيمس موس.
2
في سياق هذا التقييم تعرضت الأحزاب الشمالية الثلاثة إلى نقد شديد. والأحزاب المعنية هي الأمة والوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي. فقد اتفق السفيران على أن ما يحتاجه السودان هو إعادة ترتيب الأحزاب السياسية. وذلك لأن الأحزاب السياسية القائمة:
* قد فقدت إلى حد كبير معناها.
* منقسمة على نفسها.
* لا يوجد استقرار في أي واحد منها.
* تضم أشخاصاً على طرفي النقيض في المواقف ووجهات النظر.
3
واتفق السفيران الأمريكي والبريطاني على أن «الطائفية على المدى الطويل سوف تضمحل، وأن حزباً سياسياً صرفاً وغير طائفي كالحزب الوطني الاتحادي، ربما يمارس في النهاية نفوذاً كبيراً في الحياة السياسية السودانية. الأمر الذي يجعل من الضروري لنا في المقام الأول الاحتفاظ بأوثق العلاقات الودية مع الحزب ككل».
4
من اللافت أن التقييم الذي أعده السفيران الأمريكي والبريطانيللوضع السياسي في السودان لم يشمل الحزب الشيوعي. ولكن في 10 يونيو 1959 قدم السفير جميس موس إيجازاً عن السودان في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ التي كان يرأسها آنذاك السيناتور وليام فولبرايت.
5
سأل السيناتور إسباركمان السفير جميس موس عما إذا كانت الشيوعية تنشط في السودان. فأجاب موس بقوله: «هناك القليل من النشاط الشيوعي. وقد اتخذت الحكومة الحالية تدابير أكثر فاعلية ضده بالمقارنة مع الحكومة الدستورية السابقة. وفي اعتقادي الخاص تمثل الشيوعية في السودان حالياً مصدر إزعاج لا مصدر خطر».
6
أثار إبطال انقلاب الفريق إبراهيم عبود لواحدة من الديمقراطيات البرلمانية المتبقية في الشرق الأوسط اهتمام الإعلام الغربي وبوجه خاص في الولايات المتحدة الأمريكية.
7
وبالنسبة لبعض المعلقين، فإن الدكتاتوريات في البلاد الحديثة الاستقلال كالسودان لا تعد أمراً مفاجئاً حيث لا يجيد سوى 10 في المائة من السكان القراءة والكتابة.
8
وعن الدول الأسيوية والافريقية التي تحولت إلى حكم العسكر، قالت صحيفة شيكاغو ديلي تربيون إن تلك الدول «لم تكن جاهزة من حيث مستوى الخبرة أو التعليم أو الاعتياد على الحكم النيابي لكي تحرز نجاحاً فيه».
9
وفي مقال افتتاحي أعقب تقريراً عن السودان أعده مراسلها جيمس والاس، قالت صحيفة وولستريت جورنال: «إن الحقيقة المؤسفة بشأن تلك الهزائم للديمقراطية هي أنه ما كان لها أن تحدث لو أن الذين اقترحوها، والذين قبلوها، قد أدركوا فقط بأن الديمقراطية ليست شكلاً من أشكال الحكم يمكن للشعوب تبنيه وفق قوالب جاهزة؛ بغض النظر عن تطورهم الاقتصادي والسياسي… إذ لا يمكن فرض الديمقراطية أو إنشاؤها لشعوب لا تعرفها، أو لا ترغب فيها».
10
وفي السودان قال محمد صالح الشنقيطي رئيس مجلس النواب الذي حله الأمر الدستوري رقم 3: «إن الديمقراطية الغربية في السودان لم تكن تعني الكثير خارج دائرة نصف قطرها خمسة أميال من مجلسي البرلمان».
11
في 26 نوفمبر 1958 -أي بعد حوالي تسعة أيام من وقوع الانقلاب – أجرى مراسل صحيفة «لوريون» L’Orient الصادرة في بيروتباللغة الفرنسية، مقابلة مع عبدالله خليل. وقد نُشرت المقابلة في 27 نوفمبر 1958 في صحيفة نيويورك تايمز.
12
وصف عبدالله خليل الانقلاب بأنه «خطوة عظيمة للأمام وحركة نقية لا تشوبها أي علاقات بأي قوى خارجية». وذكر أنه كان علي علم مسبق بأمر الانقلاب وأنه وافق عليه.
13
وأضاف عبدالله خليل بأنه «صحيح أنني كنت على رأس منصبي عند وقوع الانقلاب، ولكني شعرت بأن البلاد في حاجة إلى تغيرات جذرية في الحكم».
14
واتهم عبدالله خليل إحدى القوى في الشرق الأوسط بأنها ظلت تعمل مع بعض ضباط الجيش طيلة الأشهر الثلاثة الأخيرة لتدبير انقلاب «يمس باستقلال السودان».
15
ومضى عبدالله خليل للقول إن تلك القوة قد قامت أيضاً «بشراء الصحافة السودانية ودفع البلاد إلى حالة من الفوضى عبر الوسائل التقليدية التي فرضت بها ضغوطها على الدول العربية الأخرى».
16
وعند سؤاله عما إذا كان يقصد بذلك الجمهورية العربية المتحدة والرئيس عبدالناصر، أجاب قائلاً: «إذا ذُكِر المعتدي في الشرق الأوسط فإن جميع الأصابع تتجه إليه».
17
وتوقع عبدالله خليل أن يقبل الفريق عبود المعونة الأمريكية التي تم التصديق عليها في عهد حكومته.
18
وفعلاً قبل أن تكمل شهرها الأول، اعتمدت حكومة انقلاب 17 نوفمبر 1958 اتفاقية المعونة الأمريكية. فقد ورد في صحيفة الأيام بتاريخ 1 ديسمبر 1958، أن مجلس وزراء حكومة الانقلاب نظر في 29 نوفمبر 1958 في تقرير اللجنة المكونة من وزراء المالية والتجارة والخارجية والمعارف والعدل والزراعة بشأن اتفاقية المعونة الأمريكية ووافق عليها، لأن المعونة ستساعد في تنفيذ عدد من المشروعات المهمة التي لا يمكن تنفيذها من موارد البلاد المالية.
ولفائدة القارئ نذكر أن اللجنة ضمت في عضويتها أحمد خير وزير الخارجية، وزيادة أرباب وزير المعارف والعدل،وعبدالماجد أحمد وزير المالية والتجارة.
19
في التحقيق في الأسباب التي أدت إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958، قال الفريق عبود «لم أطلب من عبدالله خليل أي مستند أو أمر كتابي لأن ذلك ليس مقبولاً وليس متبعاً في نظام الجيش، وقد كان أمر عبدالله خليل لي أمراً من وزير الدفاع وقبلته بهذه الصفة. وأنا شفت كلامه في صالح استقرار البلد. كمان حسب كلامه لي وحسب ما شفته أنا في البلد».
20
إن دفع الفريق إبراهيم عبود بأنه امتثل لأمر عبدالله خليل لأنه صدر إليه بوصفه وزيراً للدفاع لن ينجيه من المسؤولية عن انقلاب 17 نوفمبر 1958 إلا في حالة واحدة. وهي إذا كان في الدستور المؤقت للعام 1956، أو في قانون القوات المسلحة للعام 1957 حكم يخوّل لعبدالله خليل تسليم السلطة المدنية لقائد الجيش، ويلزم الفريق ابراهيم باستلامها. بالبحث في هذين الصكين لم نجد حكماً كهذا.
21
ومن اللافت أن عبدالله خليل رئيس الهيئة التنفيذية، والفريق إبراهيم عبود القائد العام للقوات المسلحة تجاهلا تماماً مجلس السيادة. فالمادة 11 من دستور السودان المؤقت للعام 1956 تنص على أن يكون «مجلس السيادة السلطة الدستورية العليا في السودان وتؤول إليه القيادة العليا للقوات المسلحة».
22
فقد كان بوسع الفريق إبراهيم عبود أن يرفض تنفيذ الأمر الذي أصدره له عبدالله خليل بتسلم السلطة المدنية في 17 نوفمبر 1958. ومن ثم يرفع الأمر إلى مجلس السيادة باعتباره القيادة العليا للقوات المسلحة.
23
أياً كان الأمر، فإن مسؤولية الفريق إبراهيم عبود وأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن انقلاب 17 نوفمبر 1958 قد رفعت باتفاق تم بين ممثلي القوى السياسية وممثلي القوات المسلحة إبان ثورة 21 اكتوبر 1964. وقد حصل هذا الاتفاق على ضمان دستوري بموجب المادة 108 من الدستور المؤقت (المعدل سنة 1964).
24
وردت المادة 108 في الفصل الحادي عشر الموسوم «رفع المسؤولية عن الأفعال السابقة». تنص المادة 108 (109 في دستور 1964) على الآتي: «أي حكم أو أمر أو فعل صدر من أي شخص أو هيئة في الفترة من 17 نوفمبر 1958 إلى صدور هذا الدستور لا يجوز الطعن فيه أو اتخاذ أية إجراءات قانونية بصدده أو على أساسه أمام أية محكمة جنائية أو مدنية أو إدارية مادام قد صدر ذلك الحكم أو الأمر أو الفعل من ذلك الشخص أو تلك الهيئة أثناء تأدية الواجب أو بغرض حماية القانون والنظام أو حفظ الأمن وفقاً لأي تكليف من القوات المسلحة السودانية على أية صورة عسكرية كانت أم مدنية».
25
نشرت صحيفة الحياة اللندنية في 4 ديسمبر 1998 بمناسبة الذكرى الـ 40 لانقلاب 17 نوفمبر 1958، لقاءً أجرته مع الفريق الفاتح محمد بشير بشارة، مدير مكتب الفريق عبود إبان فترة حكمه، ونائب رئيس هيئة أركان القوات المسلحة من بعد. في ذلك اللقاء قال الفريق الفاتح: «إن عبود قاد المؤسسة العسكرية كلها إلى الحكم… تصرف عبود وفقاً للدستور حين قام بانقلابه، لأن إحدى مواد الدستور تلزم القوات المسلحة التدخل لصون البلاد وحمايتها إذا كانت تواجه خطراً عظيماً».
26
لا توجد مادة كهذه في دستور السودان المؤقت لعام 1956. بدليل أن عبود نفسه لم يستدل بهذه المادة المزعومة في التحقيق في الأسباب التي أدت إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958. ولما كانت هناك حاجة لتضمين الدستور المؤقت مادة ترفع عن عبود ورفاقه المسؤولية عن انقلاب 17 نوفمبر 1958.
27
من المآخذ على عبدالله خليل أنه أدخل الجيش في السياسة عندما سلم السلطة للفريق إبراهيم عبود في العام 1958. في الواقع أن من فعل ذلك هو الصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد القومي والدولة لشؤون السودان في الحكومة المصرية وذلك بإنشائه في العام 1954 تنظيماً للضباط الأحرار في الجيش السوداني على غرار صنوه المصري. وهذا التنظيم سياسي وسري هدفه الوصول إلى السلطة عبر استخدام القوة العسكرية. في بداياته الباكرة كان هذا التنظيم ناصرياً. والناصرية آنذاك – وربما بعد ذلك أيضاً – لم تكن تعني في السودان أكثر من الإعجاب بشخصية جمال عبدالناصر. وعلى مر الزمن ترهل هذا التنظيم بنمو خلايا داخله تنتمي إلى تيارات وعقائد مختلفة. وقد ائتلفت ثلاث من هذه الخلايا في الانقلاب الذي استولى على السلطة في 25 مايو 1969.
28
وهناك من يُحمّل عبدالله خليل مسؤولية فتح طريق الانقلابات لضباط الجيش السوداني. وذلك بتسليمه السلطة المدنية للفريق عبود في 17 نوفمبر 1958. ولكن بالاطلاع على شهادة اللواء أحمد عبدالوهاب في التحقيق في الأسباب التي أدت إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958، تبين لنا أن ثقافة الانقلاب كانت سائدة في الجيش السوداني منذ العام 1954.
29
فقد ذكر اللواء أحمد عبدالوهاب في شهادته في التحقيق: «الانقلاب عدوى تنتقل إلى الشباب من الضباط. وكنت في سنة 1954 حضرت من دارفور ووجدت روح الانقلاب والتفكير فيه عند الضباط الصغار والذين وُعدوا من جهات أخرى بسلاح وفلوس. فلم أوافق على هذا الاتجاه بحجة أنه عندنا حكومة وطنية ولا أرى مبرراً للانقلاب. ولكن إرضاءً للشباب من الضباط تقدمنا بطلبات لرئيس الحكومة خاصة بإصلاح الجيش وانتهينا عند هذا الحد.
ولكن يبدو أنهم لم يكونوا مقتنعين بذلك فعلمت أنهم كانوا يجتمعون سراً في أماكن مختلفة واتصلنا بهم ونصحناهم بإيقاف اجتماعاتهم».
30
ورب سائل: وما هي الجهات الأخرى التي وعدت الضباط الصغار بسلاح وفلوس؟
أترك الإجابة لفطنة القارئ.
31
في الحلقة الرابعة من برنامج «شاهد على العصر» الذي تبثه قناة الجزيرة، ذكر الإمام الصادق المهدي -عليه رحمة الله ورضوانه- أن مجلس إدارة حزب الأمة المكون من 15 عضواً قد صوت بأغلبية 13 عضواً ضد اقتراح بتسليم السلطة للجيش وأضاف إن «هذا مثبت». إن كلمة «مثبت» هذه تعني للمرء أنه -أي القرار- مدون في محضر وموثق. وعلى أي حال، فإن الإمام الصادق لم يحدد تاريخ صدور القرار، ولم يبرز نسخة منه. كما لم يوضح المظان أو المواضع التي يُرجَّح أن يكون فيها القرار حتى يجتهد الباحثون وكُتَّاب التاريخ في التنقيب عنه.
32
فإذا سلمنا جدلاً بوجود القرار الذي نوه عنه الإمام الصادق في شهادته على العصر، فماذا فعل مجلس إدارة حزب الأمة لإشهار هذا القرار المهموالترويج له؟ وهل أتْبَع المجلس القرار بقرارات وإجراءات أخرى تَحُول دون تسليم عبدالله خليل السلطة للجيش أحادياً —مثل عزله عن مواقعه في الحزب وفي الحكومة؟ وهل بُلِّغ راعي الحزب، الإمام عبدالرحمن المهدي، بالقرار حتى يمتنع عن تقديم مثل هذا التأييد القوي للتسليم أو الانقلاب – كيفما كان التكييف؟
33
ومن التساؤلات المشروعة أيضاً: لماذا لم يأمر مجلس الإدارة وزراء الحزب الستة الذين استقالوا من الحكومة في 15 نوفمبر 1958 بالبقاء فيها حتى يحجب مجلس النواب الثقة عن الحكومة في 17 نوفمبر 1958، وتسقط بذلك ولاية عبدالله خليل على الحكومة وعلى وزارة الدفاع؟ وأهم من ذلك كله، لماذا صمت مجلس إدارة حزب الأمة واختفى تماماً من المشهد في الفترة من 1 إلى 17 نوفمبر 1958 عندما كان الحديث عن التسليم والتسلم يدور على ألسنة الناس في الشارع؟
34
في تقديري، وفي ضوء ما سبق ذكره، فإن عبدالله خليل قد ظُلِم باتخاذه كبش فداء، وتحميله وحده مسؤولية تسليم السلطة المدنية للجيش. إن حزب الأمة كمؤسسة هو الذي سلم السلطة المدنية للجيش بالتعمد أو التقصير، ويتحمل مسؤولية ذلك.
35
لقد تصرم 66 عاماً على استقلال السودان. إبان هذه الفترة، تمكنت 3 انقلابات من الاستيلاء على السلطة بسهولة ويسر. وأخفق ما يزيد بكثير عن 25 محاولة انقلابية. فهل تبرِّر كبوات أو عثرات تطبيق الديمقراطية إنتاج كل هذا الكم من الانقلابات والمحاولات الانقلابية؟ يبدو للمرء أن هناك أسباباً أخرى أعمق وأخطر تتعلق بالولاء والعقيدة العسكرية والمهنية والانضباط. وبدون معالجة هذه الأسباب فسيبقى السودان أسيراً للحلقة المفرغة التي ظل يدور حولها منذ الاستقلال.