Thursday , 28 March - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

في الإرث المشترك بين النُّوبة

راقصي فن شعبي من جبال النوبة

راقصي فن شعبي من جبال النوبة

الدكتور عمر مصطفى شركيان

[email protected]

 

في إطار اطلاعنا على ما سوَّدته الأقلام الأجنبيَّة أولاً، والمحليَّة ثانياً، عن النُّوبة عثرنا على قواسم مشتركة في مسألتي اللغة والثقافة، بحيث يمكن أن تساهم هذه القواسم المشتركة في مسألة التقاء النُّوبة على كلمة سواء، والارتقاء بالمفهوم الجمعي لقوميَّة النُّوبة.  فإذا تمعَّنا في بعض المفردات اللغويَّة في أقسام قبائل النُّوبة لوجدناها متشابهة إلى حدٍّ بعيد، وقد توصَّلنا إلى هذه الحقيقة، التي ربما قد غابت عن بعضنا البعض، في الحين الذي كنا فيه نطَّلع على مسودَّة كتاب “مدخل لدراسة قبيلة دميك: الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة والدِّينيَّة”، الصادر العام 2015م للأخ الصديق الدكتور قندول إبراهيم قندول، ومن قبل في المقالات المتفرِّقة التي نشرها الإداريُّون البريطانيُّون إبَّان الحكم الثنائي (1898-1956م) في حوليَّة “السُّودان في رسائل ومدوَّنات” (Sudan Notes and Records)، علاوة على مؤانستنا التي لم تنقطع مع الأصحاب والأحباب من القبائل الأخرى في المنطقة من أجل إجراء مقاربات لغويَّة.

إنَّ اللغة لها دلالة قوميَّة، وتعبِّر عن الوجدان الذاتي، والعواطف الجيَّاشة للمتحدِّث بها، كما أنَّها تساهم في تأطير الهُويَّة الشخصيَّة للفرد، والاعتداد بالنَّفس، وبخاصة لغة الأم.  ففي هذا الأمر كان الشاعر الإسكوتلندي الأشهر روبرت بيرنز (1759-1796م) قد طُلِب منه عدم الكتابة بلغته القوميَّة، لأنَّ ذلك سوف يقلِّل من جماهير سامعيه، ويحول دون فهم أعماله والتواصل بينه وبين مواطني لندن.  كذلك حثَّت الرسائل التي بعثها إليه معجبوه على تجنُّب القضايا السياسيَّة.  لكنه تجاهل تلك الوصايا، وإذا التاريخ يخبرنا بأنَّه كان على حق.  هكذا صدف بيرنز عن تلك الوصايا صدوف المهرة العربيَّة إذا سمعت صلاصل اللجم، والصدوف هو الانصراف والإعراض عن الشيء والصد عنه.

على أيٍّ، فعند تصنيف المجتمعات الإنسانيَّة قد يتشابه مجتمعان في شيء ما، وفي الآن نفسه قد يختلفان في شيء آخر.  إزاء ذلك يستوجب مقارنة المجتمعات استناداً إلى مرجعيَّة بعينها، أو إلى جزء من المنظومة الاجتماعيَّة الكليَّة – على سبيل المثال النسق الاقتصادي، أو المؤسَّسة السياسيَّة، أو النظام القرائبي، أو الشعائر الطقوسيَّة.  عليه قام رادكليف-براون بدراسة الأبورجيين (الشعوب الأستراليَّة الأصليَّة وسكان جزر مضيق توريس)، وأقدم على تقسيمهم إلى بضع مئات من القبائل، كل قبيل يحمل لغته الخاصة ومنظومته الاجتماعيَّة وعاداته ومعتقداته.  بيد أنَّ الاختبارات التي أُجريت على نماذج كافية منها أثبتت تشاركها في سمات عامة، وهي التي شكَّلت – بشكل عام – النمط الأسترالي.  وحين تتم مقارنة ومقاربة هذه العوامل الحياتيَّة المشتركة يمكن الوصول إلى عامل أحادي مشترك يجمع هذه الأقوام في قوميَّة واحدة، وهذا ما تمَّ، ومن ثمَّ أخذوا يشارون إليهم بالأبورجيين.

وعوداً إلى جبال النُّوبة، دعنا ننظر إلى مسألة الثقافة والعادات والتقاليد والممارسات التعبُّديَّة وسط النُّوبة.  في الجانب الثقافي، حيث تمثِّل العادات والتقاليد والطقوس الدِّينيَّة عناصراً هامة فيها، نجد أنَّ الدكتور أس أف ناديل قد ترك لنا سفراً قيِّماً في هذا المضمار، وذلك في كتابه الأعظم “النُّوبة: دراسة أنثروبولوجيَّة عن القبائل الجبليَّة في كردفان (The Nuba: An Anthropological Study of the Hill Tribes in Kordofan)، وهو ذلكم الكتاب الذي نشرته دار جامعة أوكسفورد للنشر العام 1947م.  فبرغم من أنَّ الكتاب قد اشتمل على دراسة بعض القبائل النُّوبويَّة كنماذج بعينها في البحث الميداني، إلا أنَّه – وبفضل ما جاء فيه – أخذه الإداريُّون البريطانيُّون بقوَّة، واعتبروه إنجيلاً في كيفيَّة التعامل مع أهالي النُّوبة في سبيل ترويضهم بعد أن وجدوهم متمرِّدين، ولا ينصاعون أو يحبذون الخضوع والخنوع لأيَّة سلطة مركزيَّة مهما يكن من أمر.  علاوة على هذا السفر القيم، فقد نشر الدكتور ناديل أوراقاً شتي في غاية الأهميَّة عن بعض المجتمعات النُّوبويَّة الذي لم يشمله كتابه إيَّاه، ولعلَّ القارئ يمكن أن يجد هذه الأوراق مبثوثة في أعداد حوليَّة “السُّودان في رسائل ومدوَّنات”.

في دراسته للأصل الثنائي الأحادي (Double unilateral descent) في نوبة الجبال، بحث ناديل نمط هذه الظاهرة الاجتماعيَّة التي تتماهى العشيرة في الانتماء إلى جانب الأب والأم على حدٍّ سواء، وبذلك ينتمي كل فرد إلى مجموعة الأصل الخارجي من ناحية الأبويَّة والأمومة في الحقوق والواجبات المؤتلفة المميَّزة (Syncretic and diacritical-symbiotic rights and obligations).  لقد تمَّ رصد هذه الظاهرة في عدَّة مناطق بغرب إفريقيا، مثلاً عند قبائل أشانتي وقا وفانتي وياكو، وكذلك وسط قبيل كوناما في غرب إريتريا، وهي مجموعة زنجيَّة وسط قبيل البني عامر الحامي؛ وكوناما – في كثرٍ من الأحوال – مشابهة للنُّوبة في السُّودان.  ففي الدراسة إيَّاها اكتشف ناديل وجود هذه الظاهرة وسط بعض القبائل في جبال النُّوبة، أي كاو-نيار وفنقور في أقصى الجنوب الشرقي في جبال النُّوبة، وكذلك في تلشي في الجبال الغربيَّة.  لعلَّ تواجد هذه الظاهرة الاجتماعيَّة وسط المجموعتين يثبت – برغم من تباعدهما مكانيَّاً – فرضيَّة أنَّ النُّوبة كانت في الماضي السحيق إثنيَّة واحدة كبيرة، ثمَّ أنَّ هذه الرَّابطة الاجتماعيَّة (الثقافيَّة) ربما جاءت من جراء الهجرات المحليَّة في إقليم جبال النُّوبة.

مهما يكن من شيء، فبعد قراءتنا لهذه الأسفار وغيرها مما كُتِب عن أنثروبولوجيا النُّوبة، توصَّلنا إلى حقيقة مفادها أنَّ جميع قبائل النُّوبة كانت أمة واحدة كبيرة.  إذاً، ما الذي حدث وتسبَّب في هذا التباين اللغوي إلى حدٍّ ما، حتى تجمَّع بعضها في مجموعات شبيهة؟  لعلَّ الأسباب في كل ذلك تعود إلى الهجرات الإقليميَّة والنزوح المحلي، وكانت العلل السببيَّة لهذا النزوح تتمثَّل في المجاعات والحروب القبليَّة التي افتعلتها غارات الاستعمار في سبيل الحصول على الرَّقيق، وبخاصة إبَّان العهد التركي-المصري في السُّودان (1821-1885م)؛ ذاك الاستعمار الذي جعل منطقة جبال النُّوبة وجنوب السُّودان والنيل الأزرق مرتعاً لاصطياد الرَّقيق، وبذلك تكون تلك القوميَّات قد اشتركت في الألم العظيم، والألم العظيم يخلق الرجل العظيم، كما يقول المثل الفرنسي.  هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان تقوقع بعض القبائل في محميات جبليَّة كملاجئ آمنة من أجل البقاء قد جعلها تطوِّر لغاتها بطريقة فريدة، نطقاً وتحريفاً وابتكاراً لمفردات لغويَّة جديدة حسب البيئة المحليّة المحدودة، وبذلك يلعب عاملا الجغرافيا والتاريخ دوراً رئيساً في التطوُّر الثقافي للشعوب.  ففي حقيقة الأمر يتفق معظم الباحثين أنَّ للبيئة الجغرافيَّة أثراً في حياة المجتمع ومظاهر نشاطه، وذلك لأنَّ البيئة الجغرافيَّة تتحقق آثارها بفضل ما يحدث بينها وبين العوامل الجغرافيَّة الأخرى من جهة، وما يحدث بينها وبين استعدادات الشعوب من تفاعل الهمم وتضافر الجهود من جهة أخرى.  فلئن لم يتم ذينك التفاعل والتضافر لم تستطع هذه البيئة سبيلاً إلى إحداث أثرٍ ما في حياة الجماعات.

الجدير بالذكر أنَّ أغلب أسماء قبائل النُّوبة قد تمَّت تسميتها من قبل الأعراب الذين وفدوا واستوطنوا في المنطقة في القرن الثامن عشر، ولئن لم يتوطَّنوا (They have not been nativised)، والدليل على ذلك نكران انتمائهم لإفريقيا، وتماهي هُويَّتهم بالعروبة في تهامة ونجد وعسير في شبه الجزيرة العربيَّة.  إمعاناً لإساءتهم لبعض الأقوام النُّوبويَّة جاءت أسماؤهم لهذه القوميات سيئة موغلة في البطر، فبئس الاسم الفسوق.  كما أنَّ في بعض الأسماء تمَّت إضافة أعلام عربيَّة إليها كي تفصح عن التعريب الذي استشرى في البلاد، وها نحن نثمن النهضة النُّوبويَّة والصحوة الثقافيَّة التي ألهمت أبناء المنطقة وشرعوا في تأصيل أسماء قبائلهم ومناطقهم بعيداً عن غلواء العروبة والإسلام.  كذلك استحوذ بعض القبائل أسماءها من قبل جامعي الضرائب في العهد التركي-المصري، أو الحكم الثنائي (البريطاني-المصري).  إذ ارتبطت أسماء قبائل النُّوبة قبل الأسماء المستحدثة بمعالم المنطقة كاسم جبل أو مجرى مائي، أو بصفة تعني النَّاس أو الشعب أو القوم.

نذكر من المناطق التي تمَّ تغيير أسمائها منطقة كورونقو، والاسم الأصلي لها هو سنقالي وهو الجد المؤسِّس للقبيل.  أما عبد الله الذي يجيء مقروناً دوماً بالاسم فهو اللقب الذي أطلقه العرب على كجنقر، وكجنقر من أوائل الناس في المنطقة الذي كان يجيد اللغة العربيَّة، وكان يعمل مترجماً لمك القبيلة كفي-بانجي في المحادثات الرسميَّة مع السلطات الحكوميَّة في تصريف الأوامر السياسيَّة، أو العرب في فض النزاعات، ومن ثمَّ ظلت المنطقة تُعرف ب”كورونقو عبد الله”.  كذلك تمَّ تعريب اسم “لقي” إلى أبو سنون، وهي المنطقة التابعة لمحليَّة ميري.  أما قرية “نيماقولو” التابعة لمنطقة كورونقو، وتقع بين تمة وبلنجا في طريق كادقلي-كورونقو، فقد تمَّ تعريبها هي الأخرى إلى “بركة”؛ والاسم الأهلي لقرية أبو هشيم في منطقة المورو هو “بندلِّي”.  وتمَّ أيضاً تغيير الاسم الأهلي لقرية “طورا” في منطقة البرام إلى الإحيمر.  أما في منطقة النيمانج فقد تم تغيير أسماء بعض المناطق نذكر منها “فوجيني”، الذي أمسى فوسو ثمَّ تمَّ تصحيفها إلى الفوز، وكرمتي كانت تسمَّى في الماضي “كندونقول”، وتنديَّة كان اسمها الأصلي “تونا”.  وفي منطقة دميك تمَّ تغيير اسم “موجوك” إلى دبكاية، و”كوكوقادي” إلى درنقاس، حيث يستوطن قبيل المسيريَّة المستعربة.  وفي كتلا تمَّ تغيير اسم منطقة “كتكوك” الزراعيَّة إلى الأغيبش، و”طوال أو توال” إلى أم خير.

إزاء ذلك ذكر التقرير الذي أعده أفريكان رايتس بأنَّ كلمة “نوبة” ليست مؤصَّلة في أي من لغات نوبة الجبال، وبصورة جوهريَّة استخدمت كلمة نوبة من قبل المصريين والسُّودانيين الشماليين للإشارة إلى السُّود الذين يقطنون جنوبهم، والذين يمكن استرقاقهم.  حتى الأسماء التي تطلق على قبائل النُّوبة هي نفسها كثيراً ما تكون من صنع العرب الأجانب، وتعكس مواقف عنصريّة.  وقرية مساكين اسمها الأصلي “لافي”، وهي تتبع لمجموعة تلودي اللغويَّة.  ومن أسماء القبائل أيضاً تعني كلمة “أما” النَّاس في لغة “نيما”، أي النيمانج؛ وكذلك تعني كلمة “أورونقي” حرفيَّاً النَّاس في لغة تيمين.  بيد أنَّ أكثر ما استرعى انتباهنا ثقافة تسمية المواليد عند مجموعة “كا قولو” اللغويَّة في جبال النُّوبة، وتأتي أسماء البنين عندهم على النحو التالي: كوكو وكافي وكجو وكندة وكبي وكوجي وككي، وذلك حسب الترتيب في الميلاد ابتداءً من الأول.  أما عند البنات فتأتي أسماؤهن على النحو التالي: كاكا وكوجي وكني وكوشيه وكندالة وغيرها.  وهناك من الأسماء الشائعة في جبال النُّوبة مثلاً: كربوس وكرتكيلا ودلدوم وغيرها.

في دولة غانا بغرب إفريقيا نجد أنَّ لقوميَّة أكان، التي تمثِّل إثنيَّة الأشانتي أكبر فروعها، إرث اجتماعي في تسمية المواليد، وذلك حسب أيَّام الأسبوع، وترتيب الطفل في الأسرة.  فعلى سبيل المثال يحمل اسم كوامي نكروما (1909-1972م)، وهو أول رئيس وزراء ورئيس غانا، مدلولاً ثقافيَّاً في المجتمع الغاني.  إذ يعني كوامي يوم السبت، ونكروما الرَّقم تسعة، ومن ثمَّ يعني الاسم الطفل الذكر المولود يوم السبت من أيَّام الأسبوع، ثمَّ إنَّه الطفل التاسع في الترتيب لأبويه.  وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ نكروما يعتبر المنظِّر السياسي والثوري الذي قاد ساحل الذهب (غانا حاليَّاً) إلى الاستقلال من بريطانيا العام 1957م، وكان ذا نفوذ مؤيِّد لفكرة عموم إفريقيا، وهو كان قد حاز على وسام لينين للسَّلام من الاتحاد السوفييتي العام 1962م.  أما الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان (1938-2018م)، فإنَّ مدلول اسمه يعني أنَّه ولد يوم الجمعة، وأنَّه هو الطفل الرابع (عنان) عند والديه.  هذا ما جاء في لغتهم التي تسمَّى تووي.

السكان في غانا منقسمون مناصفة بين المسيحيين والمسلمين.  فإذا كانت الأسرة تعتنق المسيحيَّة أو الإسلام، وأرادت لطفلها اسماً مسيحيَّاً أو إسلاميَّاً فما على الوالدين إلا أن يضيفا الاسم الذي يعتقدان أنَّه يمثل رمزاً دينيَّاً للاسم الثقافي للطفل، مثلاً جون-ياو للطفل المولود يوم الخميس، وتعتنق أسرته العقيدة المسيحيَّة؛ أو محمد-كواكو بالنسبة للطفل المولود يوم الأربعاء ويتحدَّر من أسرة ذات أصول إسلاميَّة.  ويشارك المواطنون الغانيُّون أصحاب الملل الدِّينيَّة المختلفة في احتفالاتهم العقديَّة، فالمسلون يحتفلون بعيد ميلاد المسيح، وعيد الفصح (القيامة)؛ والمسيحيُّون يشاركون المسلمين في أعياد المولد النبوي الشريف والفطر المبارك والأضحى المبارك وغيرها.  وإذ يستطرد محدثي قائلاً إنَّ والده لمسلم ووالدته مسيحيَّة من طائفة الكاثوليك، فهو يرتاد المسجد والكنيسة على حدٍّ سواء.  هذا الإقرار بالتعدُّديَّة الدِّينيَّة هو الذي يساهم في التعايش السلمي وسط المجتمع، وهو ما يمارسه النُّوبة في مجتمعاتهم في جبال النُّوية، وبالكاد لا نجد مشكلات ناجمة بسبب الاختلاف الدِّيني في جبال النُّوبة.

إذاً، بإجراء أبحاث مستفيضة عن لغات النُّوبة وعاداتها وشعائرها التعبدُّيَّة قد تساهم في وحدة النُّوبة، والاعتداد بأنفسهم، والاعتزاز بما لديهم من إرث ثقافي تليد، الذي هو جزء من واقعنا وتاريخنا ولا يمكن الحياد عنها، وعليه ينبغي على الأجيال الصاعدة التركيز على هذين العنصرين ما أن تمسكَّت بهما لم تضل السبيل أبداً.  وبتطبيق هذا المنهج نستطيع أن نمحو الفوارق القبليَّة، ونقضي على الصراعات العبثيَّة التي تنشأ بين أفرادها بين الحين والآخر.  وأيم الله حين ترد إلى مسامعنا، أو نجد في قراءتنا أنباءً عن اقتتال أهالي النُّوبة فيما شجر بينهم لأتفه الأسباب يستعصر هذا الاحتراب الدموع، ويصيب المرء بأسى بليغ.  وما هذه المشكلات الأمنيَّة التي تستظهر بين الفينة والأخرى إلا دليلاً على أنَّ البناء الاجتماعي في جبال النُّوبة ليس بساكن، وقد تعتريه المشكلات التي تتبدَّى هنا وهناك، وتقام الأجاويد لحلها من أجل التوازن الوظيفي-الاجتماعي، حيث يمكن اعتبار هذه الأجاويد بمثابة “التوازن الكيميائي-الوظيفي لأعضاء الكائن الحي” (The chemical-physiological homeostasis of a living organism).  فالأحداث ذات الطابع الدموي التي تنشأ وسط المجموعات القبليَّة، وقد تكون دمويَّة في بعض الأحايين، وتعرقل سيرورة الحياة الاجتماعيَّة، تحتاج إلى عمليَّة اجتماعيَّة تصالحيَّة لإعادة الحياة إلى سيرتها الأولى.

بيد أنَّ الأديان الإبراهيميَّة أو السماوية لا يمكن أن تكون عامل وحدة بأيَّة حال من الأحوال سواءً كان الأمر يخص النُّوبة أم أي شعب من شعوب العالم، أو أمة من الأمم.  وإذا كان الأمر كذلك لأفلحت هذه الأديان في توحيد دول يعتنق أغلب مواطنيها اليهوديَّة أو المسيحيَّة أو الإسلام.  ولعلَّك واجدٌ النزاعات الطائفيَّة من قبل معتنقي الديانة الواحدة (السنة والشيعة، أو البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس وهلم جرَّاً).  تأسيساً على ذلك، فإنَّ الدِّيانات المنظَّمة عبارة عن مؤسَّسات اجتماعيَّة تعمل على إعادة تشكيل الغرائز الغيبيَّة أو التجريديَّة للأفراد وتحويلها إلى عقيدة أو مبدأ.  ففي التسعينيَّات من القرن العشرين أنشأت حكومة “الإنقاذ” وزارة التخطيط الاجتماعي ووضع على عاتقها الأستاذ علي عثمان محمد طه، وكان الهدف من هذه الوزارة تطويع الشعب السُّوداني اجتماعيَّاً لمواكبة ما أسمَّاه النظام “الإنقاذي” حينذاك بالمشروع الحضاري (الإسلاموي-العروبي).  إذاً، فلا ريب في أنَّ الدِّين يمكن أن يكون غطاءً للخداع السياسي، ومصدراً للتكسُّب المادي، وما أكثر المخادعين باسم الدِّين في أيَّامنا هذه.  فقد قال علي الوردي: “إنَّ عبارة الدِّين في خطر هي جملة يردِّدها رجال الدِّين عندما تتعرَّض مصالحهم للخطر!”  ومن هنا يتضح أنَّ التوضيحات الغبيَّة التي تحمل الصبغة الدِّينيَّة تقنع بمنطقها المعوج الأغبياء من النَّاس.  وفي هذا المسار اللاهوتي طفق السير هاري جونستون العام 1900م – وهو الذي كان ملحداً – وكتب رسالة إلى سوقا بأوغندا قائلاً له: “نحن نريد منك أن تعتنق المسيحيَّة، وتتبع أسلوبنا (في الحياة)، وسوف تصبح عظيماً أيضاً.”  أدرك دبليو هيربورغ هذا التقمُّص الرُّوحي الخدوع باكراً، وحينئذٍ شرع يجادل في أنَّ أعضاء الكنيسة في أمريكا ما هم إلا تبعاً للأرثوذكسيَّة، أو المعتقد التقليدي، في أسلوب الحياة في أمريكا، وبذلك أصبحت العقيدة المسيحيَّة الظاهرة المعبِّرة للحياة تأكيداً للأمريكانيَّة، وقد استخدم القائمون بالأمر الدِّين كأداة لجعل هذا التوكيد فعلاً.  كذلك يمكن المجادلة بأنَّ أغلب مرتادي الكنيسة في إنجلترا لا يقدمون على ذلك تأكيداً لإيمانهم بالمسيحيَّة، ولكن امتثالاً لقيم الطبقة الوسطى في المجتمع الإنجليزي.

مهما يكن من أمر، فإنَّ أهمَّ ما يميِّز المجتمعات النُّوبويَّة هو روح العمل المجتمعي (Communitarianism)، في حال السلم والحرب، وهو اصطلاح يعني المنظومة السياسيَّة التي تعمل على تأطير حياة المجتمع؛ وهو كذلك ما يُعرف بالبنيويَّة (Structuralism)، وهي الفكرة القائلة بأنَّ المفتاح إلى فهم النظام الاجتماعي هو العلاقة البنيويَّة لأجزائها: أي الطريقة التي ترتبط بها هذه الأجزاء، أو ما يُعرف في المصطلح الاقتصادي ب”تقسيم العمل” (Division of labour).  لعلَّ ما يمكن أن يجمع النُّوبة، أو يجتمع حوله النُّوبة، هو أسلوب الحياة الاجتماعي والأنشطة الثقافيَّة المختلفة.  فكل قبائل النُّوبة بالكاد تشترك – بلا استثناء – في كيفيَّة ممارسة الأنشطة الحرفيَّة من استعمار الأرض وإصلاحها وزراعتها وحصاد محاصيلها، وممارسة الطقوس المصاحبة لهذه المراحل الزراعيَّة، والشعائر الروحيَّة، وتقديم القربان، حتى اسم الإله الذي يتخذونه زلفى للتقرب إلى الرُّب يكون مشابهاً لدي معظم قبائل النُّوبة، وللدكتور فاروق مصطفى إسماعيل دراسة قيِّمة في هذا الإطار في أبحاثه الإثنوجرافيَّة.  إذ يُعتبر كتابه “إثنوجرافيا كارلنجا: دراسة في التغيُّر الثقافي في جبال تُلشي، جنوب كردفان – السُّودان”، الذي نشرته دار المعرفة الجامعيَّة بجامعة الإسكندريَّة العام 1982م، من أشهر البحوث في هذا المجال.  أما في مجال الأنشطة الترفيهيَّة وأضراب المنافسة الرياضيَّة فهناك الكثير مما فيه النُّوبة مشتركون؛ والترفيه هو أي نشاط يقوم بتوفير تسلية، أو يسمح للأشخاص بتسلية أنفسهم في أوقات الفراغ.  ومن ضروب هذه الأنشطة الرياضيَّة المصارعة المألوفة التي باتت رياضة ذات شأن عالمي، وكان النُّوبة في الماضي يمارسون لعبة الهوكي، وكانت رياضة يقوم بها الشباب في فصل الصيف، وقد مارسناها في صبانا في القرية التي ترعرعنا فيها في السبعينيَّات؛ ثمَّ هناك بعض أصناف الرياضة الذي تمَّ إلغاؤه لأنَّه خطير، ويمكن أن تودِّي إلى الموت.  أما فن الغناء والطرب والموسيقى فتتعدَّد الرقصات بتنوع الأنغام والإيقاعات، وتبعث في النفس شعوراً فاتناً، وراحة قلبيَّة.

على أيٍّ، فقد استخدم الأسقف النيجيري أونوهه العبارة إيَّاها في مصطلح الاشتراكيَّة – ليس بالمعني الماركسي للكلمة – وذلك في وصف المجتمعات الإفريقيَّة في بحث بعنوان “عناصر الاشتراكيَّة الإفريقيَّة” (The Elements of African Socialism).  كذلك طبَّقه الرئيس التنزاني الأسبق جوليوس نايريري في برنامج زراعي-اقتصادي سُمِّي ب”أوجاما”.  فالعمل الجماعي (أو النفير) هو ميزة أو سمة من سمات المجتمعات النُّوبويَّة في جبال النُّوبة.  بيد أنَّ بعض قادة الغرب ومشرِّعي هذه الدول قد أخذوا التعبير واستخدموها في مجالات أخرى.  فها هو رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير يستعيرها ويستخدمها في شعار حزب العمال الجديد، ويصفه ب”الطريق الثالث”.  أما فيليب بلوند فقد أعاد استخدامه، ونعته ب”المرجعيَّة أو النظريَّة السياسيَّة الجديدة”، التي تخاطب أدواءنا السياسيَّة.  كذلك ألهم التعبير حزب المحافظين في بريطانيا بزعامة ديفيد كاميرون، الذي نفخ فيه من روحه.  أما الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون فقد وصف الأمريكيين في مقابلة تلفزيونيَّة في 18 نيسان (أبريل) 2010م بأنَّهم شعب أصبح أكثر تعدُّداً ومجتمعيَّاً (Communitarian) من أي وقت مضى.  وفي هذا الأمر يعني المصطلح المنظومة السياسيَّة التي تمنح أصحاب المصلحة غير الفاعلين في المجتمع سلطات على الأفراد، أي الأيديولوجيَّة التي تؤكِّد مسؤوليَّة الفرد في المجتمع والأهميَّة الاجتماعيَّة في وحدة الأسرة.  ويتم تعريف مصطلح أصحاب المصلحة بأنَّهم جماعة أو أشخاص أو منظمة أو نظام.  وفي حال الحزب السياسي يتبنى أغلب النَّاس خط الحزب الذي قد يكون باهتاً، ويتوافقون عليه بأنَّه يمثِّل السياسة الحزبيَّة لحل مشكل ما أو المشكلات التي تعجُّ بها الدولة.  الحريُّون (Libertarians) يحدِّثونك بأنَّهم يريدون الجزء الخاص بإعطاء السلطة إلى مجالس المجتمع غير الفاعلة، أو الذين رشحوا أنفسهم لقيادة المجتمع، ولهم من السلطة ما هو كفيل بترشيد حيوات النَّاس الشخصيَّة في المجتمع.  أما الكاثوليك فيرغبون في أن يحل مفهوم أصحاب المصلحة قيم الروحانيَّة، وكذلك البروتستانت واليهود والمسلون الذين يسعون في أن ينفخوا فيه ما في قيمهم الأخلاقيَّة حسبما تقتضيه معتقداتهم الروحيَّة.  أما اليسار فيستهجنونه بأنَّه نظريَّة مؤامرة يمينيَّة، وأهل اليمين المتطرِّف فيتظانون بأنَّه مؤامرة شيوعيَّة.

في جبال النُّوبة تسود المساواة السياسيَّة، أي بمعنى آخر ليس هناك تقسيم طبقي غير متكافئ وسط المجتمعات النُّوبويَّة كما هي الحال في بعض المجتمعات الإفريقيَّة.  فعلي سبيل المثال خذ قبيل بانيأنكولي في أوغندا، حيث ينفرد قبيل الباهيما الرعوي بالسلطة السياسيَّة (قبيل الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني)، ويعتبر الطبقة الحاكمة، بينما يمثل قبيل البايرو الزراعي الطبقة الوضيعة في المجتمع.  هذه التراتيبيَّة غير المتكافئة التي تصنِّف أفراد المجتمع إلى طبقة سياسيَّة سامية من جانب، وأخرى وضيعة من جانب آخر قد تكوَّنت نتيجة الإحلال الاجتماعي في الماضي السحيق، لكنها ذهبت أبعد من ذلك، لأنَّ غياب المساواة السياسيَّة يقود دوماً إلى الفروق الأخرى.  إذ تتم المحافظة على هذا البناء الطبقي عن طريق تباين أسلوب الحياة بين هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم سادة، وبين الذين يعتبرونهم رعايا، وكذلك غياب التزاوج فيما بينهم.  كان هذا النظام الطبقي ممارساً في تاريخ رواندا الحديث بين إثنيَّة التوتسي كأصحاب السلطة والسيادة، وبين إثنيَّة الهوتو كمزارعين وشغيلة للتوتسي.  وقد فاقم الرحَّالة الألمان والاستعمار البلجيكي حدَّة هذا الوضع الاجتماعي غير المتكافئ، وكان هذا النظام الطبقي واحداً من الأسباب التي أدَّت إلى نشوب الصراع السياسي في رواندا بعد الاستقلال، وأدَّى إلى المذبحة الدمويَّة التي راحت ضحيَّتها حوالي 800.000 من التوتسي والهوتو المعتدلين العام 1994م، وذلك أثناء زحف وسيطرة قوَّات المقاومة الروانديَّة بقيادة الرئيس الرواندي الحالي بول كيغامي على السلطة في رواندا.

أما في جبال النُّوبة فلا وجود لمثل هذا النظام الطبقي، حتى الذي كان يتم أسره في الماضي في الحروب القبليَّة التي كانت تدور كسياسة الأمر الواقع في العهد التركي-المصري، وفي الدولة المهديَّة (1885-1898م)، كان الأسير إذا لم تتم فديته بالأبقار، فيتم انخراطه في المجتمع الذي أسره، ويصبح أحد أفراد المجتمع، بل يُمنح قطعة أرض لاستصلاحها وزراعتها، ويتم تزويجه بإحدى فتيات القبيل ممن يحب، ومن ثمَّ يصبح هو وأفراد أسرته جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الجديد الذي انخرط فيه.  علي أيٍّ، ففي السنوات الأخيرة وبفضل انتشار التعليم والعولمة وسبل التواصل الاجتماعي والسياسي، وبخاصة بعد ظهور الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في جبال النُّوبة العام 1985م، سادت العلاقات الاجتماعيَّة أفقيَّاً، وأخذ التزاوج بين أفراد القبائل الأخرى يسود.  فهناك أزواج من الجبال الغربيَّة تزوَّجوا بفتيات في الجبال الجنوبيَّة، والعكس هو الصحيح، بل تزاوج النُّوبة مع قبائل جنوب السُّودان، حيث هناك ثمة جاليات نوبويَّة كبيرة في عدة مدن بجمهوريَّة جنوب السُّودان، أكبرها في العاصمة جوبا.

مهما يكن من شيء، ففي مسألة التعدُّديَّة الثقافيَّة استمعنا إلى برنامج تلفزيوني بذل فيه مخرجوه كل ما امتلكوا من فنون التزوير التاريخي والإثني في منطقة لقاوة في جبال النُّوبة (ولاية جنوب كردفان).  فبعد المقدِّمة المعتادة التي اعتاد عليها السُّودانيُّون سماعها ورؤيتها من المذيعين والمذيعات شرعت المذيعة التي لم نستبن اسمها في وصف الطبيعة الخلابة التي تمتاز بها مدينة لقاوة، حيث الخضرة الباهية، والجمال الساحر، والجبال الشاهقة الممتدة.  ومن بعد انطلقت المتحدِّثة في التسجيل التلفزيوني إيَّاه معرفاً اسم لقاوة بغير ما نعرفه.   إذاً، أين استمدَّت لقاوة اسمها؟  تجدر الإشارة إلى أنَّ لقاوة تصحيف لكلمة “الياوك” وتعني مكان التجمع أو التسويق في لغة قبيل كمدا.  وبعدئذٍ استرسل البرنامج في عرض رقصات العرب من المردوم وسط ابتهاج الراقصين والراقصات بأغنيَّة كردفانيَّة.  إذ طفق الفنان الكردفاني عبد القادر سالم يستطرب بصوت صيدح وعزف نغوم، وكانت الأغنية هي “سلِّم قمارينا ودِّي سلام ليها/ قول ليها ما نسيناك”.  ما عبنا على ذلك البرنامج إلا لأنَّه لم يعبِّر عن تعدُّديَّة المنطقة كما أذاعت المذيعة في النَّاس.  فإنَّ ذلك المقطع التلفزيوني لا يمكن أن يعكس الواقع الاجتماعي والثقافي بالمنطقة في شيء.  إذ كان اختيار غناء عبد القادر سالم وحده لا شريك له كخلفيَّة موسيقيَّة لا تعبِّر إلا عن نقصان حكمة، ونقصان الحكمة يُعجز المرء عن إصدار رأي سديد.  لقد خلا البرنامج من أي تعدُّد ثقافي أو اجتماعي كما ذكرته مقدِّمة البرنامج في بادئ الأمر، ولم يتم استظهار رقصة واحدة أو أي تراث نوبوي يستدل بها على التعدُّديَّة الديموغرافية التي تكلَّمت عنها المذيعة.

لا مراء في أنَّ الموسيقي عبد القادر سالم فنان طروب لا غبار عليه، وهو الذي رفد المكتبة الغنائيَّة السُّودانيَّة بأغنياته الشجيَّة التي تعبِّر عن بيئة شمال كردفان في رمالها وقيعانها.  والمطرب الموسيقار عبد القادر سالم كان قد وُلد في مدينة الدلنج العام 1946م، والذي عُرف واشتهر على مستوى السُّودان وخارج السُّودان منذ العام 1971م، وله من الإنتاج الغني ما يزيد عن أربعين أغنية.  ومن تلك الأغنيات “مكتول هواك يا كردفان”، و”بسامة”، و”أيَّام العيد”، و”طبيق الريحة”، و”ليمون بارا”.  غير أنَّ اختياره ليغني في برنامج عن لقاوة، واختيار رقصة واحدة عن إثنيَّة بعينها لم يعكس التعدُّديَّة الإثنيَّة في المنطقة بأيَّة حال من الأحوال، ثمَّ لم يكن معدو البرنامج موفَّقين في هذا الأمر إلا إذا كان ذاك العمل يمثل نمطاً من أنماط البرامج السياسيَّة التي تعجُّ بها دور الإعلام المنحاز في الخرطوم لأغراض الاستعراب والهُويَّة العربيَّة الزائفة انطلاقاً من هذا المنظار الخادع.

أما المجموعات الإثنيَّة المستعربة التي استوطنت إقليم جبال النُّوبة فينبغي عليها السعي الحثيث إلى استكشاف وسائل التعايش السلمي مع القوميات النُّوبويَّة في المنطقة بحكم التساكن والتشارك في الأرض والماء والكلأ، والاجتهاد في الابتعاد عن الانصياع الأعمى، والانقياد دون بصيرة إلى سياسات السلطة المركزيَّة في سبيل خوض معاركها بالوكالة.  ثمَّ إنَّ على هذه الأقوام المستعربة المتساكنة في الإقليم أن تدرك أنَّ المطالب الدستوريَّة المتمثِّلة في الحقوق السياسيَّة والاقتصاديَّة والخدماتيَّة التي تطالب بها الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان-شمال، أو أي حزب سياسي آخر، يضع إنسان المنطقة في دائرة أولويَّاته.  وفي هذا الشأن نجد أنَّ سكان المنطقة شركاء في التغلب على مناكب الحياة والتكسُّب والمعاش والصنائع.  وحين يأتي أُكل هذه المطالب فستظل مشاعة لإنسان المنطقة دون استثناء لأحد مهما كان لونه أو عرقه أو تجاعيد شعره، أو أيَّة سمة من السمات المختلقة التي يتفاخر بها النَّاس دون وجه حق.  ومن هذه المطالب الحيويَّة – على سبيل المثال لا حصريَّاً – تعبيد الطرق وتشييد الكباري لتطوير وسائل النقل، واحتفار الآبار لتوفير المياه متاعاً للإنسان والأنعام، وزراعة الأعلاف لتحسين المراعي، وتوفير الخدمات الصحيَّة لمكافحة الأمراض المستوطنة، وترقية الخدمات البيطريَّة لرعاية الثروة الحيوانيَّة، وتشييد الصوامع لتخزين الغلال لدرء مخاطر الموت جوعاً في يومٍ ذي مسغبة.

هذه الرسالة موجَّهة لكافة الإثنيَّات المستعربة في المنطقة التي تستعدي النُّوبة دون جريرة، وعليها كذلك أن تكف عن الاقتتال فيما بينها كالاشتباكات القبليَّة التي وقعت خلال شهري تموز وآب (يوليو وأغسطس) 2021م في منطقة الحميض بمحليَّة قدير بين قبيلي كنانة والحوازمة (دار علي)، وخلفت حوالي 30 قتيلاً و20 جريحاً من الجانبين.  كذلك الاقتتال الأهلي الذي حدث في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) 2021م في محليَّة أبو جبيهة بين قبيلي كنانة والحوازمة (الإسرة) نتيجة سرقة مواشٍي، مما خلف ضحايا من الجانبين لا يقل عن 10 قتلى وعشرات الجرحى، ونزوح 400 أسرة إلى مدينة أبو جبيهة، وفقدان بعض الممتلكات وحرق للمنازل.  إذ نحن نتوجه بهذه الرِّسالة إلى ذوي الضمائر الحيَّة في المجتمع الكردفاني، وأصحاب الأنفس البشريَّة.  لكن أيَّة أنفس نحن في صدد الحديث عنها طراً!  لعلَّ النَّفس اللوَّامة هي مبتغانا في هذا الرِّسالة، وكان الأحرى بهم أن يحتكموا إلى العقل، وألا يهتدوا بالشيوخ المضللين، والانصياع الأعمى لهم، وكأنَّ من اختارتهم قوميَّاتهم لهم قوَّة قدسيَّة مجرَّدة عن الهوى.