الظروف والأحداث التي سبقت انقلاب 17 نوفمبر 1958 في السودان (3)
دكتور فيصل عبد الرحمن علي طه
التدافع نحو القاهرة
1
وصل إسماعيل الأزهري إلى القاهرة وهو في طريقه إلى بغداد في يوم الإثنين 3 نوفمبر 1958. وكان يرافقه يحيى الفضلي ومحمد أحمد المرضي وإبراهيم المفتي. وفي 4 نوفمبر نشرت صحيفة الأهرام حديثاً صريحاً للأزهري تناول فيه العلاقات السودانية – المصرية. ودعا فيه حكومة عبدالله خليل للاستقالة لأنها أخطأت.
2
في مستهل حديثه قال أزهري إن إلغاء اتفاقية مياه النيل للعام 1929 لا يفيد إلا بريطانيا. وذلك لأن الاتفاقية تغل يدها عن التدخل في شؤون مياه النيل. فإلغاء الاتفاقية يطلق يد بريطانيا ويحررها من التزاماتها بصفتها مشرفة علي منابع النيل في أوغندا وتنجانيقا. وكشف أزهري عن أن اتفاقية 1929 لم تكن في أي وقت من الأوقات حجر عثرة أمام طريق الاتفاق إبان المباحثات التي جرت بين البلدين بشأن مياه النيل، و “لم تلوح بها مصر ضدنا”، فالمفاوضات تركزت فقط على قسمة الباقي من المياه الذي يذهب إلى البحر خلال الفيضان.
3
وأعلن أزهري أن جميع السودانيين يرحبون بإنشاء السد العالي الذي سيكون مصدر خير وبركة على السودان ومصر معاً. ونوه أزهري إلى أن تمويل روسيا للمشروع غير المقيد بأي شرط، شيء مقبول ويستوجب شكرها عليه. وأشار إلى أن تهديد الغرب بتمويل مشروع الروصيرص كرد على تمويل روسيا لمشروع السد العالي تهديد لا محل له، لأن خزان الروصيرص يخزن من مياه النيل 2 مليار متر مكعب ويكلف 20 مليون جنيه. وذكر أن حصة السودان، خلال مباحثات مياه النيل قد بلغت 12 مليار متر مكعب ووافقت مصر على ذلك.
4
ودعا أزهري في حديثه لصحيفة الأهرام إلى إنشاء حلف دفاعي مشترك بين السودان والجمهورية العربية المتحدة.
5
وعن المعونة الأمريكية، ذكر أزهري أنه قد انضمت إليهم أصوات كثيرة من الأحزاب الحاكمة تطالب بإلغائها فوراً. ثم قال إن المعونة قد قُدمت على أنها غير مشروطة وتهدف إلى حفر الآبار وإنشاء الطرق، فإذا بها قبل البدء في حفر الآبار، أو حتى القيام بالأبحاث حول هذا الموضوع، تطل علينا بأغراضها الخفية وتتحكم في اقتصادنا وتجارتنا الخارجية، وتوجه اقتصادنا في تيار السياسة الأمريكية، لصالح أمريكا وحدها. كما وتقيّد الاستيراد بموافقة لجنة المعونة الأمريكية، وتلزم المستوردين بالاستيراد من الشركات التي تعينها لهم.
6
في صباح يوم 8 نوفمبر 1958 استقبل رئيس الوزراء عبد الله خليل السفير البريطاني في الخرطوم تشابمان أندروز. تطرق اللقاء إلى تصريحات أزهري في القاهرة. وفي هذا السياق سأل عبدالله خليل السفير عن رأيه في ذهاب زعيم سوداني إلى القاهرة ليشن هجوماً على حكومة بلاده، ويصرح بعزمه عقد ميثاق دفاعي بين السودان ومصر؟ رد السفير بأنه لا يؤيد الأزهري، وأنه لا يعتقد أن الحزب الوطني الاتحادي متوحد خلف توجه الأزهري الموالي لمصر.
7
في لقاء تم في 12 نوفمبر 1958، سأل السفير البريطاني مبارك زروق زعيم المعارضة عما إذا كان يتفق مع تصريحات الأزهري التي نشرتها الصحافة المصرية مؤخراً. وفي معرض رده على ذلك قال زروق إنه قد نصح الأزهري دوماً بألا يدلي بمثل هذه التصريحات التي تعطي الانطباع بأن الحزب الوطني الاتحادي يرغب في انتهاج سياسة موالية لمصر. ولذلك فهو لا يؤيد مثل هذه التصريحات. وأكد زروق للسفير أن تصريحات الأزهري هذه لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد.
8
التقى اسماعيل الأزهري أثناء وجوده في القاهرة بعبدالناصر مرتين. فقد ورد في نشرة وكالة الصحافة السودانية بتاريخ 8 نوفمبر 1958، أن إسماعيل الأزهري صرح قبيل مغادرته مطار القاهرة في رحلته إلى بغداد، بأن حديثه مع عبدالناصر كان ودياً وأنه سيواصل الحديث عند عودته من العراق في الأسبوع القادم. وورد أيضاً في نشرة وكالة الصحافة السودانية بتاريخ 10 نوفمبر أن عبدالناصر استقبل اسماعيل الأزهري للمرة الثانية.
9
نشرت صحيفة الأهرام بتاريخ 7 نوفمبر 1958 أن علي عبدالرحمن وزير التجارة السوداني وصل إلى القاهرة فجأة في 6 نوفمبر 1958. وذكرت الصحيفة أن السفارة السودانية لم تكن تعلم شيئاً عن هذه الزيارة المفاجئة إلا بعد وصول الوزير بثلاث ساعات. وذكرت أيضاً أن الوزير قدم للعلاج من مرض السكر وأنه سيمضي في القاهرة أسبوعاً.
10
صرح علي عبدالرحمن للأهرام في 7 نوفمبر 1958 بأن «إنشاء السد العالي سيوفر للسودان مزيداً من الماء لسد احتياجاته… وأن الرغبة الصادقة من الطرفين في حل مسألة مياه النيل ستأتي بالنتائج المطلوبة قبل الشروع الفعلي في بناء السد».
11
وتحدث الوزير للأهرام عن المعونة الامريكية فقال: «إن الرأي العام السوداني يرى أنها جاوزت الحدود التي رسمها البرلمان. وقد طالبنا بقصرها على شق الطرق وحفر الآبار والأبحاث الزراعية والتعليم الفني. كما طالبنا برفض استيراد البضائع للأشخاص من أموال المعونة. ومنع قبول القروض من المؤسسات الأمريكية للأشخاص والشركات». وأضاف علي عبدالرحمن أن كل هذه المسائل ستثار في الدورة البرلمانية التي ستبدأ في 17 نوفمبر 1958.
12
في 8 نوفمبر 1958 وصل إلى القاهرة محمد أمين السيد رئيس مجلس الشيوخ لإبلاغ عبدالناصر رسالة شفوية من السيد علي الميرغني. وكان في استقباله بالمطار علي عبدالرحمن وسعد زايد السكرتير العام للمجلس التنفيذي للإقليم المصري وأعضاء السفارة السودانية.
13
شارك علي عبدالرحمن رئيس مجلس الشيوخ محمد أمين السيد في إبلاغ رسالة السيد علي الميرغني إلى عبدالناصر في 9 نوفمبر 1958. وكانت تلك هي المرة الثانية التي يلتقي فيها علي عبدالرحمن بعبدالناصر. وقد ورد في صحيفة الأهرام بتاريخ 10 نوفمبر 1958 أن الرسالة تضمنت أمل السيد علي الميرغني في العمل على إزالة حالة التوتر القائمة بين البلدين وتسوية المسائل المعلقة بين البلدين. وخلال تسلم الرسالة تم اتصال هاتفي بين السيد علي الميرغني وعبدالناصر.
14
يبدو أن زيارة علي عبدالرحمن إلى القاهرة في 7 نوفمبر 1958 قد تمت بدون إخطار رئيس الوزراء. فقد ورد في نشرة وكالة الصحافة السودانية بتاريخ 10 نوفمبر 1958، أن مجلس الوزراء سيناقش في اجتماعه يوم السبت مسألة مغادرة علي عبدالرحمن إلى القاهرة بدون إخطار القائم بأعمال رئيس الوزراء محمد نورالدين أو المجلس بذلك. وكان رئيس الوزراء وقتها في زيارة خاصة إلى إثيوبيا. وورد في الخبر أن رئيس الوزراء سيطلب من علي عبدالرحمن إيضاحاً رسمياً لتصرفه.
15
في كتابه الموسوم «الديمقراطية والاشتراكية في السودان» ذكر علي عبدالرحمن في صفحة 91 أنه زار القاهرة مع محمد أمين السيد «وزير الصحة في أثناء وزارة عبدالله خليل الائتلافية في مهمة رسمية انتدبنا من أجلها السيد عبدالله خليل نفسه». لم يذكر علي عبدالرحمن المهمة. ولكن نذكر أن أمين السيد لم يكن عضواً في حكومة عبدالله خليل ولم يكن وزيراً للصحة فيها، بل كان رئيساً لمجلس الشيوخ. كما أن أمين السيد وصل إلى القاهرة، كما سبق أن ذكرنا، بمفرده لنقل رسالة شفوية من السيد علي الميرغني إلى عبدالناصر.
16
لم يرد في الصحافة المصرية أي خبر عن لقاء مشترك مع عبدالناصر ضم اسماعيل الأزهري وعلي عبدالرحمن. ولكن ذُكر في نشرة وكالة الصحافة السودانية ليوم الأثنين 10 نوفمبر 1958 أن وفدي حزب الشعب الديمقراطي والحزب الوطني الاتحادي يتوقع أن يجتمعا في مائدة مستديرة مع الرئيس عبدالناصر لمناقشة احتمالات إجراء مصالحة بين الحزبين.
17
في كتابه «الديمقراطية والاشتراكية في السودان» صفحة 91، ذكر علي عبدالرحمن أنه لم يجتمع في القاهرة مع الأزهري إلا في حفل مشترك دعاهم إليه سفير السودان بمصر في منزله، وحفل آخر دعاهم إليه محمد صالح حرب وحضره معهم السفير السوداني أيضاً. ولم يدر في الحفلين إلا الحديث العادي المشترك. حري بالذكر أن محمد أمين السيد تربطه صلة قرابة ومصاهرة مع محمد صالح حرب الذي لم يكن يشغل أي موقع رسمي في الحكومة المصرية.
18
سيرد من بعد أن سفير السودان في مصر يوسف مصطفى التني أبلغ عبدالله خليل برسالة في 15 نوفمبر 1958 أن قطبي الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي قد التقيا في حضرة الرئيس المصري وتوصلا إلى اتفاق بالغ الأهمية.