الظروف والأحداث التي سبقت انقلاب 17 نوفمبر 1958 في السودان (1)
دكتور فيصل عبد الرحمن علي طه
توتر العلاقات السودانية – المصرية
1
في يونيو 1956 أصدر السيد علي الميرغني بياناً بارك فيه وأيد قيام حزب الشعب الديمقراطي. وذلك لعلمه بأن الختمية قد استقر رأيهم على تكوين جهاز سياسي من العناصر الصالحة والساسة المخلصين ليضم جماهيرهم ومحبيهم من جميع الطوائف الصوفية، وغيرهم ممن يتفقون معهم في المبادئ والأهداف السياسية. ودعا جماهير الختمية وسائر المواطنين أن يلتفوا حوله ويناصروه حتى تعود البلاد إلى الحياة الكريمة.
2
وأعقب ذلك تكوين ائتلاف بين حزبي الأمة والشعب الديمقراطي. وفي يوليو 1956، تم خلال تصويت بالثقة إسقاط حكومة إسماعيل الأزهري القومية. وانتُخب عبد الله خليل، سكرتير عام حزب الأمة، رئيساً للوزارة الائتلافية بين حزبي الأمة والشعب الديمقراطي. وفي عهد هذه الحكومة حدث توتر شديد في العلاقات السودانية – المصرية. وقد كان ذلك بسبب مطالبة مصر بالسيادة على إقليمين سودانيين هما إقليم حلايب ونتوء وادي حلفا، ومسألة مياه النيل.
3
ففي أول فبراير 1958 وبينما كانت الحكومة السودانية منهمكة في الإعداد للانتخابات البرلمانية التي حُدد لها يوم 27 فبراير 1958، تلقت الحكومة مذكرة من الحكومة المصرية بتاريخ 29 يناير 1958. ادعت هذه المذكرة أن إدخال المنطقة الواقعة شمالي وادي حلفا (النتوء)، ومنطقة حلايب الواقعة على ساحل البحر الأحمر ضمن الدوائر الانتخابية السودانية يناقض اتفاقية 19 يناير 1899. وبذلك يشكل خرقاً للسيادة المصرية لأن هذه المناطق مصرية ولا يحق لحكومة السودان أن تشملها ضمن الدوائر الانتخابية. وطالبت الحكومة المصرية بإلغاء الحدود التي أنشأتها قرارات نظارة الداخلية المصرية في مارس 1899 ويوليو/نوفمبر 1902 على اعتبار أنها كانت حدوداً إدارية والعودة إلى الحدود التي أنشأتها اتفاقية 19 يناير 1899 باعتبار أنها تمثل الحدود السياسية بين مصر والسودان.
4
وبعثت الحكومة المصرية بمذكرة أخرى إلى حكومة السودان مؤرخة في 9 فبراير 1958. وفي هذه المذكرة أعلنت الحكومة المصرية أنه استناداً إلى حقوق سيادتها، فقد قررت أن تتيح لسكان منطقتي وادي حلفا وحلايب فرصة الاشتراك في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية المتحدة بين الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس السوري شكري القوتلي.
5
وفي 16 فبراير 1958 أخطر وزير الخارجية المصري السفير السوداني في القاهرة، بأنه حتى يتسنى إجراء الاستفتاء فقد تم إرسال لجان انتخابية وقوات من حرس الحدود إلى المناطق التي تطالب بها مصر، وأن هذه اللجان ستكون في هذه المناطق في التاريخ المحدد للاستفتاء وهو 21 فبراير 1958.
6
وفي مذكرة بتاريخ 18 فبراير 1958 عبّرت الحكومة المصرية عن إصرارها على أن يشمل الاستفتاء المناطق المتنازع عليها وطلبت من الحكومة السودانية سحب الكتيبة الموجودة هناك إلى جنوب خط 22 درجة.
7
بالرغم من تسارع الأحداث فقد حاولت حكومة السودان بالمذكرات وعبر الهاتف، وبإرسال وزير خارجيتها إلى القاهرة إقناع الحكومة المصرية بإرجاء بحث مسألة الحدود إلى ما بعد الانتخابات السودانية.
8
إزاء حشد القوات على جانبي الحدود، وإصرار الحكومة المصرية على إجراء الاستفتاء في 21 فبراير 1958، ورفضها اقتراح السودان بالتأجيل، فقد بعث رئيس الوزراء عبد الله خليل رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 20 فبراير 1958 أبلغه فيها بأن التقارير تشير إلى أن مصر قد حشدت قوات عسكرية على الحدود المشتركة. وبما أنها تصر على إجراء استفتاء في إقليم سوداني، وبما أن السودان عازم على حماية إقليمه، فإن الموقف قد يؤدي إلى إخلال بالسلم، وإذا لم يُسيطَر عليه فلربما يتطور إلى نزاع مسلح.
9
اجتمع مجلس الأمن في 21 فبراير 1958 لبحث شكوى السودان، ولا مجال هنا للبسط. يكفي أن نذكر أن مندوب مصر عمر لطفي تلا على المجلس البيان الصحفي الذي أصدرته الحكومة المصرية في 21 فبراير 1958. وبموجبه أعلنت تأجيل بحث مسألة الحدود إلى ما بعد الانتخابات السودانية. وتبعاً لذلك فقد أجل مجلس الأمن بحث النزاع حتى يتسنى للبلدين إيجاد تسوية. وتُركت شكوى السودان مدرجة في جدول أعمال مجلس الأمن حيث لا تزال إلى يومنا هذا.
10
وفي 2 يوليو 1958 بدأت سلطات الري السوداني في حجز المياه عند خزان سنار لملء القناة الرئيسية للامتداد الجديد لمشروع الجزيرة، أي امتداد المناقل. وكان ذلك قبل التاريخ المحدد في اتفاقية مياه النيل للعام 1929 وهو 16 يوليو من كل عام. احتجت مصر على ذلك الإجراء بمذكرة مؤرخة في 9 يوليو 1958، وطالبت بالوقف الفوري للإجراء، واعتبرت تغيير مواعيد الحجز عند خزان سنار خرقاً لاتفاقية 1929. كما وأن التوسع في امتداد المناقل سيؤدي إلى سحب كميات من المياه تؤثر في ملء خزان أسوان وحرمان ربع مليون فدان من الزراعة الصيفية وتشريد مليون وربع من الأنفس. وكذلك إلى تعذر ملء سبعمائة ألف فدان من أراضي الحياض وما سيترتب على ذلك من نتائج اقتصادية واجتماعية.
11
وفي تعليقه على المذكرة المصرية صرح ميرغني حمزة وزير الري بأنه كتب إلى وزير الري المصري في 18 يونيو قبل بدء إجراءات التخزين بحوالي أسبوعين. وأوضح ميرغني حمزة أن هذا الإجراء سواء في حجمه أو في مدته فإنه لن يكون له أثر يذكر على مصر. وأضاف أن السودان وضُع أمام خيارين: إما أن يوقف زراعة المساحات التي أُعِدَت للزراعة في مشروع المناقل وأي توسع زراعي في القطر أياً كان مقداره، وإما أن يلجأ للإجراء الذي أُبلغت به مصر قبل حدوثه بوقت كافٍ.
12
وفي مذكرة الرد الموجهة إلى الحكومة المصرية بتاريخ 15 يوليو 1958، ذكرت حكومة السودان أن رفع مستوى الماء في خزان سنار مسألة فنية كان يجب أن تُترك لتعالج بين الفنيين في البلدين بنفس روح التعاون والثقة المتبادلة منذ استقلال السودان. وأسفت حكومة السودان لأن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لم تدع هذه المسألة الفنية لتُعالج في الإطار الفني، بل حولتها إلى نقاش حول ما يسمى باتفاقية عام 1929 التي لم يكن السودان طرفاً فيها.
13
وبالنسبة لاتفاقية 1929، ذكرت حكومة السودان بأنها لم تعترف في أي وقت بهذه الاتفاقية التي أبرمت بين دولتي الحكم الثنائي مصر وبريطانيا كجزء من تسوية سياسية عامة بدون اعتبار لمصالح السودان. وفي فقرة تالية من المذكرة، أكدت حكومة السودان أنها لن تقبل أحكام اتفاقية 1929 كأساس لما ينبغي أن تقوم به أو تمتنع عن القيام به. وقد ظلت حكومة السودان على موقفها هذا إزاء اتفاقية 1929 حتى وقوع الانقلاب العسكري في 17 نوفمبر 1958.
14
سيرد من بعد أن صحيفة الأهرام نشرت في 4 نوفمبر 1958 تصريحاً لإسماعيل الأزهري قال فيه إن حكومة عبد الله خليل أخطأت لأنها ألغت اتفاقية مياه النيل للعام 1929 ويجب أن تستقيل.