مبادرة بعثة الأمم المتحدة فى السودان والدروس المستفادة من فشل اتفاق ٢١ نوفمبر ٢٠٢١ .
ياسر عرمان
منذ العام ١٩٦٤ شهد السودان مبادرات عديدة كانت تهدف إلى إنهاء الحروب و تقوية عملية البناء الوطني و ترقية الديمقراطية و الوصول إلى مشروع وطنى يحظى بالإجماع الكافي .
و لكن كل هذه المبادرات و مشروعات السلام لم تجاوب على المسألة التاريخية للسودان ولم تؤدي إلى ديمومة البناء الوطني و أشهرها إتفاق نيفاشا الذى نتج عنه تقسيم السودان بدلا من الحفاظ على وحدته. كل مبادرة تبعتها مبادرة أخرى و عملية سلام أخرى فى دائرة لا تنتهي من إتفاقيات سلام فاشلة تؤدي مرة أخرى إلى الحرب و أنظمة ديمقراطية ذات حياة قصيرة تنزلق مرة أخرى نحو الدكتاتورية و دكتاتوريات تؤدي الى إنتفاضات مثل ما حدث فى أكتوبر ١٩٦٤ و أبريل ١٩٨٥ و لم نتمكن من مصالحة الديمقراطية و السلام فى إطار واحد .
ثورة ديسمبر ٢٠١٨ تمثل المحاولة الأكثر جدية لتحقيق قطيعة مع الماضى و الوصول إلى منظومة إجتماعية إقتصادية ثقافية و سياسية ذات طبيعة ديمقراطية توفر إمكانية لإقامة الوحدة في التنوع. ملايين من الشباب و النساء يشكلون و يمتلكون هذه العملية مصممين على بناء سودان جديد هو وحده القادر على إنهاء الأنظمة الشمولية للأبد و فتح الباب واسعا لتطبيق شعارات الثورة المتمثلة فى الحرية والسلام و العدالة .
ثورة ديسمبر هى عملية مستمرة من المقاومة تضم كافة أنحاء السودان ولم ترضخ للقمع الذى واجهته على مدى أكثر من عامين خصوصا بعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر .
فى مقابل هذه الخليفة جاءت مبادرة بعثة الأمم المتحدة فى السودان فى مناخ معقد و بعد فشل اتفاق ٢١ نوفمبر بين رئيس الوزراء السابق و قائد الإنقلاب. لقد أرتكب المجتمع الدولى خطأ فادحا بمحاولته دعم عملية سياسية قائمة على اتفاق ٢١ نوفمبر الذى رفضته قوى الثورة و نظرت إليه على نحو واسع أنه يشرعن الإنقلاب و لكى لا تلقى مبادرة بعثة الأمم المتحدة نفس المصير عليها أن تستفيد من دروس فشل إتفاق ٢١ نوفمبر .
أهم الدروس المستفادة من فشل ذلك الإتفاق على مبادرة الأمم المتحدة أن تراعي كيفية تجاوب الشارع معها، الشارع الذى هو على إستعداد للتضحية بحياته من أجل أحلامه، و للحصول على دعم الشارع فإن ذاك يتطلب أن تكون المبادرة جادة وفاعلة و تؤدي إلى عملية تكسر حاجز الجمود الحالي و توقف القتل و القمع و تحيى الأمل لتأسيس عملية دستورية جديدة تطوى صفحة إنقلاب ٢٥ أكتوبر . إن ذلك يتطلب المشاركة النشطة و الضغوط الفاعلة من شركاء إقليميين و دوليين .
فى تنويره لمجلس الأمن فى الشهر الماضي أقر ممثل الأمين العام بالسودان دكتور فولكر بيرتس بشجاعة بأن اتفاق ٢١ نوفمبر لا يتمتع بدعم واسع مما فتح صفحة جديدة للعلاقة بين الأمم المتحدة و قوى الثورة والتغيير و حفز بعثة الأمم المتحدة على الدفع بمبادرتها و على الرغم من ذلك فإن مبادرة بعثة الأمم المتحدة تواجه تحديات واسعة بدءًا من الغياب الكامل للثقة بين الأطراف لا سيما بعد عمليات العنف و القمع من أجهزة الأمن ضد المتظاهرين السلميين. الفارق الواسع بين الرؤية السياسية للمنحازين للديمقراطية و العسكريين و هو تحدى آخر أضف إلى ذلك إن مبادرة بعثة الأمم المتحدة تعانى من إنطباع و نظرة بمعسكر المدنيين أن البعثة الأممية لا تمتلك قوى من الضغط الكافي على العساكر و لذلك فإنها تحتاج إلى آلية رفيعة مكونة من شخصيات ذات وزن رفيع من الإقليم و المجتمع الدولى بإمكانهم التواصل مع قادة العالم و مؤسساته و التمتع بالضغط السياسي الكافي الذى يحدث الفرق.
صحيح أن هناك تحديات عديدة على مستوى العالم تتطلب الإنتباه من المجتمع الدولى من أوكرانيا إلى إثيوبيا ، مع ذلك فإن المجتمع الدولى ليس بإمكانه تجاهل الحاجة إلى عملية سياسية فاعلة فى السودان فى هذا الوقت الحرج و إذا ما فشلت هذه العملية نتيجة لعدم توفر شخصيات فاعلة إقليميا و دوليا و أدى ذلك إلى مزيد من عدم الإستقرار، فى السودان و هو فى إقليم فى الأصل مضطرب فإن ثمن وضع الإمور فى نصابها سيكون أكثر تكلفة غدا من اليوم و ربما نفقد فرصة لا تتكرر عند كل جيل لأن يصبح السودان نموذجًا يُحتذى للإنتقال المدنى الديموقراطى فى العالمين الأفريقي و العربى .
إن مبادرة بعثة الأمم المتحدة تحتاج إلى إجراءات صحيحة وعملية صحيحة لكى تنجح و لقد ذكر دكتور فولكر بيرتس أن الهدف المعلن للمبادرة هو تسهيل إتفاق الأطراف السودانية فى عملية يقودها السودانيين للخروج من الأزمة السياسية الراهنة و أنه سيبدأ مشاورات أولية مع الأطراف المعنية بالأزمة. إذا أريد أن يكتب النجاح لذلك فمن الضروري التركيز فى هذه المرحلة من العملية السياسية على الإجراءات أولا على الرغم من إدراكنا أن هناك صلة جدلية و موضوعية بين الإجراءات و الموضوعات ، دون حل قضية الإجراءات على نحو صحيح فإن مبادرة البعثة الأممية غالبا لن يكتب لها النجاح فى مخاطبة جذور المشكلة. إن الخطوة الأولى يجب ان تكون تعيين آلية رفيعة المستوى من شخصيات إقليمية ودولية موثوق بها . إن الجانب الذى تم ظلمه و التجنى عليه هو جانب المدنيين و من الضروري الإنتباه إلى القضايا التي تشغل ذهن المدنيين و كما نعلم فالعسكريين هم من قام بتغييب الجانب المدنى كليا عن المشهد فى لعبة صفرية نتج عنها رد فعل قوى من الجانب المدنى و لكل فعل رد فعل مساوى له فى القوى و معاكس فى الإتجاه ففى ٢٥ أكتوبر حطم العسكريين الشراكة مع المدنيين وكذلك الإنتقال الديمقراطي و قاموا كذلك بتمزيق الوثيقة الدستورية و بإعتقال رئيس الوزراء وشخصيات رفيعة من المكون المدنى و قاموا بإغتيال النشطاء و إعتقال المئات منهم و جرح أكثر من ألف فى العاصمة الخرطوم وحدها . و كرد فعل لذلك أعتمد الثوار لاءاتهم الثلاث الشهيرة لا مساومة و لا تفاوض و لا شراكة . من الواضح من الذى يقع عليه اللوم و من الذى بدأ هذه اللعبة الصفرية .
و لذا على أى عملية سياسية ان تتأكد من أن المدنيين يمتلكون زمام أمرهم و قادرين على تحقيق طموحاتهم التى يستحقونها بعد ثلاثين عاما من الشمولية و الإبادة والقمع.
مبادرة البعثة الأممية تحتاج إلى دعم جميع أطراف النزاع لا سيما الطرف الذى وقع عليه الظلم . و هذا يعنى تصميم عملية سياسية ذات أسنان و قدرة بحيث تأخذها الأطراف على نحو جدى و يتم تنفيذ نتائجها النهائية لا سيما أن العديد من المواثيق والعهود قد تم نقضها . بينما من الضروري أن يمتلك السودانيون زمام أمر هذه العملية و لكن من الواضح أنهم لا يستطيعون لوحدهم حل هذه الأزمة فالشقة من عدم الثقه واسعة بين الأطراف.
قبل الشروع فى هذه المبادرة هناك أسئلة هامة تحتاج للإجابة حول كيفية تصميم العملية نفسها مثل من الذى يشارك من الأطراف الإقليمية والدولية فى هذه العملية لا سيما أننا لا نبدأ من عدم فهنالك بالفعل شركاء دعموا بنحو فاعل الفترة الانتقالية فى السودان و لديهم منبر أصدقاء السودان الذى من المقرر أن يجتمع الأسبوع القادم فى الرياض عاصمة المملكة السعودية و هذه فرصة جيدة لهذا المنبر لمناقشة كيفية دعم و تعزيز مبادرة البعثة الأممية .
بالنسبة لمشاركة الأفارقة علينا أن نتذكر إن مجلس السلم والأمن التابع للإتحاد الأفريقي و مجلس الأمن الدولي كانا داعميين لتفويض البعثة الأممية فى السودان لتعزيز السلام و الديمقراطية و لذا لا يوجد تناقض فى عمل البعثة مع مقولة ( حلول إفريقية للمشاكل الأفريقية ) فالإتحاد الأفريقي داعم لعمل البعثة الأممية فى السودان مما يوفر الإمكانية لكليهما للعمل فى شراكة. السودانيون سوف يتطلعون دائما لدعم شخصيات رفيعة من البلدان الأفريقية ذات الأنظمة الديمقراطية المنتخبة مثل غانا و بتسوانا و السنغال وجنوب إفريقيا وكينيا.
مضافا لكل ذلك فإن البعثة الأممية قبل أن تناقش القضايا الموضيعة و تلتقي بأطراف المصلحة لتبحث معهم الوصول إلى عملية شاملة و إيجابية تحتاج إلى وضع إجراءات بناء الثقة كأولية و على سبيل المثال لا الحصر وقف العنف ضد المدنيين و وقف الإعتقالات التعسفية و إطلاق سراح المعتقلين من الناشطين و رفع حالة الطوارئ و تكوين هيئة مستقلة للتحقيق في قتل أكثر من ٦٠ من المتظاهرين السلميين و فتح الجسور و تشغيل شبكة الإنترنت و حرية الإعلام والتجمع السلمي، إن الإتفاق على مثل هذه الإجراءات خطوة أولية مهمة لبناء الثقة بين أطراف العملية .
إن الشباب السودانيين تعلموا من تجاربهم المريرة أن لا مستقبل لهم تحت الحكم العسكري ويتطلعون إلى عملية سياسية جادة تستطيع على نحو جذري إعادة رسم العلاقات بين المدنيين و العسكريين . بعد تجربة العامين الماضيين و على الأخص بعد الإنقضاض على ساحة الإعتصام و إنقلاب ٢٥ أكتوبر فإنهم ما عادوا يثقون فى فكرة الشراكة بين المدنيين والعسكريين كما جاءت فى الوثيقة الدستورية لعام ٢٠١٩ ولن يقبلوا مطلقا لتلك الصيغة التى سادت قبل الإنقلاب . إننا نحتاج لنتعلم من دروس الإنقلاب و الفترة التى سبقته إن الأزمة الحالية ترجع إلى عام ١٩٥٦ و إلى ما قبلها . إن الوثيقة الدستورية ما عادت تعطى إجابات لقضايا اليوم و لكنها من المرجعيات المهمة و كذلك إتفاق جوبا للسلام . إن أطراف هذه الوثائق تحتاج للتفكير خارج المألوف و التمتع بالشجاعة الكافية لتوليد الحلول التى تلبى تطلعات ثورة ديسمبر و هى حدث تاريخى ليس بإمكان أى أحد إغفاله .
إذا ما أراد السودانيون الخروج من الجمود السياسي الحالى فإنه من المهم التعلم من أخطاء الماضي لا سيما أخطاء الوثيقة الدستورية و الطريقة التى صممت بها و هياكل الحكم الإنتقالى حتى نخاطب النواقص ونوسع من نظرتنا فى سبيل الوصول لمشروع وطني يحظى بالإجماع الكافي.
إن إصلاح القطاع العسكري والأمني يظل هو أكثر العقبات للدور المهمين الذى يلعبه هذا القطاع فى حياتنا حينما يتعلق الأمر بالسياسة و الإقتصاد.
الإقتصاد السياسي للقطاع العسكري والأمني يحتاج إلى سياسيات تصمم بعناية و بصورة متدرجة خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية و بعدها ، إن دمج القطاع العسكري الأمني فى دولة ديمقراطية يتطلب إصلاحات واسعة فى كافة مؤسسات الدولة والحياة السياسية متزامنا مع تقدم العملية الديمقراطية. إن إدخال إستقلالية القطاع العسكري فى عملية الإصلاح المؤسسي الشاملة تحت قيادة حكومة ديمقراطية منتخبة يحتاج إلى زمن و عملية مستمرة من الإصلاحات الديمقراطية. على كل فإن ذلك يحتاج أن نبدأ الآن برؤية واضحة وةوضع وسياسات وجدول زمني بما فى ذلك تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية لإتفاقية جوبا و مخاطبة جميع القضايا المتعلقة ببناء جيش مهني واحد بعقيدة عسكرية جديدة و يقبل التنوع السوداني.
ذلك يتطلب أيضا سياسات فيما يتعلق بمشاركة الجيش فى القطاع الاقتصادي بشكله الأوسع.
حينما يتم الحديث على أن تكون المشاركة شاملة يجب أن يتم التفريق بين المشاركة الشاملة اللازمة فى هذا الوقت والتى يجب أن تضم قوى الثورة والتغيير و المؤسسة العسكرية كأطراف للنزاع فى هذه الأزمة للإتفاق على عملية دستورية جديدة و هى مختلفة عن المشاركة الشاملة للأطراف فى المؤتمر الدستوري الذي ستشارك فيه أطراف قوى الثورة و أطراف النسيج الوطني الأخرى و يجب عدم الخلط بين العمليتين و عدم الخلط بالنسبة للأطراف التى ستشارك فى كل عملية .
أخيرا يجب أخذ فرصة العملية السياسية الجديدة لضم الحركات غيرالموقعة على إتفاق جوبا و مشاركتهم لرسم الوجه الجديد للفترة الإنتقالية عبر مبادرة البعثة الأممية، هذه فرصة لجعل السلام شاملا.
من المقرر أن تناقش القضية السودانية فى أجندة مجلس الأمن الدولي و هذه فرصة يجب أن لا تضيع لإعطاء قوة دفع جديدة لمبادرة البعثة الأممية وتطويرها حتى تقود إلى مرافئ عملية سياسية جادة وفاعلة .