الوطن فى حاجة إلى وفاق
بقلم حسين اركو مناوى.
التعريف التقليدي لوجود الدولة عند علماء السياسة لا يخرج عن ثلاث عناصر رئيسية؛ أولاً، رقعة جغرافية، ثم من يقطنون فيها من مجتمعات بشرية، وأخيراً حكومة تدير شؤون هذه الرقعة.
بالرغم من أن هذا التوصيف نظرياً ينطبق على الدولة السودانية إلا أنّ التأكد من فاعلية هذه الدولة وإلى أي مدى تؤدي وظيفتها على وجه أكمل هناك قيَم وشروط ملحة تفرض نفسها فرضاً كعوامل داعمة لنجاح الدولة ولا تقل أهمية من عناصر الوجود الرئيسية الثلاث وهي كثيرة وقائمتها تطول، البعض منها تحتل أهمية كبيرة مثل الأمن، السلام، الولاء المشترك والانسجام بين مكونات المجتمع وبسط قيم الحرية والعدالة والمساواة ….الخ. كل هذه الشروط أيضاً لا بدّ أن يسبقها شرط أساسي ألا وهو الوفاق بين مكونات المجتمع حول نوع الدولة التي يريدونها، وإذا ما تحقق ذلك، يصبح الوفاق بذرة لمشروع تأسيس الدولة السودانية التي طالما كثير من الناس يرون السودان دولة لم تتكون بعد . هذا الشرط الأخير بالنسبة للسياسة السودانية أصبح مثل معدن نادر إذ لم تكن فكرة الوفاق من ضمن جدول أعمال القوى السياسية والحكومات عبر تاريخ السودان الحديث ولم تجد أدنى اهتمام فى يوم من الأيام بالرغم من إن الوفاق هو المحور الفعلي للازمة السودانية وغيابه قد يحدد مستقبل الدولة السودانية ووحدة كيانها.
العناصر الداعمة لوجود دولة فاعلة تقودنا إلى حقيقة أخرى أنّ الجغرافيا وحدها ليست كفيلة بقيام دولة وفق المعايير المطلوبة وخير شاهد دولة السودان التي استقلت منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى هذه اللحظة لم تصل إلى المحطة النهائية التي يمكن أن نقول إنها الدولة المتفق عليها من جميع المكونات، بل خريطة المليون ميل مربع المتعارف عليها قديماً تشكلت منها خرائط جديدة لدول آخرى وتبدلت الجغرافيا ومن وراء هذا التبدل تكمن أزمة الوفاق في السودان ولكي نشخص مواطن الخلل يجب أن نترك للشعب السوداني أن يقرر ما إذا كانت المواصفات المطلوبة للدولة مكان الاتفاق وتتوافق عليها الجميع بغض النظر عن الجهة أو اللون أو العرق أو اللغة أو الثقافة او غيرها من خصائص الهوية التي تتخذها البعض معياراً لمنح حق المواطنة أو تشكيكه.
عادة بسبب غياب التوافق، الخرائط تتبدل والجغرافيا تتحول وتتشكل إلى دول من وقت لآخر لأنّ عناصر ومقومات الوحدة عند الشعوب لا تفرض قسراً إنما بالتوافق. اقرأ التاريخ وأنظر الى الخرائط القديمة للدول هل باقية كما كانت؟ أين الامبراطورية الفارسية الممتدة من أقصى آسيا الصغرى حتى جزء من أفريقيا؟ اين الاتحاد السوفيتي العظيمة؟ أين ألمانيا، الرايخ الكبرى التي ضمت بولندا وجزء من فرنسا؟ هذه الجغرافيا المتحركة عبر العصور هى بمثابة درس قوى لاستيعاب أسباب البقاء للدول متماسكة أو متفتتة وأقرب مثال هو ذهاب جنوب السودان وتَشكّل جديد لجغرافية السودان وبقية البؤر الملتهبة ايضاً توحي بأنّ المستقبل حبلى بمفاجآت أخرى لتشكيل خريطة جديدة إن فشلنا في تمييز ما بين الذي يجمع ويفّرّق الشعب السوداني.
السودان بوضعه الراهن والمرحلة التي يمر فيها يحتاج إلى ترتيب الأولويات فيما يخص قضايا الخلاف، وأولى هذه القضايا، الوصول إلى وفاق جامع بين مكونات الشعب السوداني، السياسية منها والاجتماعية دون إقصاء ويجب أن تكون وحدة التنوع أساساً للوفاق الذي يمكن أن تُبنى عليه الدولة السودانية المرتقبة. هذا يتطلب في المقام الأول التغلب على النزعة الإقصائية والادعاء بأحقية احتكار السياسة لمجموعة أو مجموعات بعينها لأنً الإقصاء واحتكار السلطة هما من أكبر دوافع العنف في المجتمعات والعنف لا يولّد غير انشقاق وتمزيق المجتمع ولن يترك أدنى مساحة للوفاق أو التسوية ومن المؤكد عندما يسود العنف على المشهد الاجتماعي أو السياسي بالكاد تنمو فرص الوفاق.
ضراوة المقاومة بسبب الإقصاء أو احتكار السلطة بواسطة فئة قليلة عبر تاريخ السودان الحديث قد كلّفت الوطن ثمناً باهظاً ولكن بقدر ما هي مكلفة قد ساهمت أيضاً فى خلق وعى وسط جموع غير متجانسة من فئات الشعب السوداني لكي يفكروا بشيء من الجدية في كيفية التعايش معاً في وطن واحد. إذا ما تم ترشيد هذا الوعي الذي تراكم عبر نضالات، فلا شك يساهم في وضع لبنات أساسية فى بناء الدولة السودانية وفق معايير قادرة على إزالة الإختلال والشوائب التي حالت دون تأسيس دولة المواطنة الحقيقية لعقود طويلة. الظروف التي ساهمت في نشأة دولة جنوب السودان على حساب جغرافية المليون ميل مربع سابقاً لا زالت كامنة في بعض أجزاء الوطن في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة والشرق ومهما هدأت الأوضاع بفضل سلام جوبا قد تنشط كما تنشط البراكين فى حافة الباسفيك لأن الجو العام لا زال يفتقر عملياً إلى كثير من العناصر الداعمة لوحدة الوطن وإن كان هناك تطور كبير في الوعي السياسي عند الشباب.
إذا كانت الأولوية هي الوفاق، إذاً كيف نجعل فكرة الوفاق هي القوة السحرية التي تجمع السودانيين في أكثر حقلين متناقضين، السياسي والاجتماعي.
المجموعات المتصارعة أو فرقاء السياسة السودانية كثر، وتناقضاتهم حادة ما بين اليسار المتطرف واليمين المتطرف وما بين الليبرالية والطائفية وما بين الافريقانية والعروبة بل الصراع بين الفرقاء أصبح نمطي فى مشهد تجلس أطراف سودانية بشكل متكرر في طاولة التسويات السياسية لا تجمعهم سوى حد السيف والدماء. ومع كل هذه التناقضات، في ظل الحقوق المدنية لا يستطيع أحد أن يعزل الآخر، فلكل فرد في المجموعات المتخاصمة سياسياً له حق المواطنة ويستطيع أن يتحدث بكل ثقة أن السودان وطنه مثله مثل أي مواطن تنطبق عليه قاعدة ما له من الحقوق وما عليه من الواجبات.
أغلبية العناصر الفاعلة في السودان في الوقت الراهن، سواء في إطار المنظومة السياسية أو الاجتماعية تفتقر إلى وحدة الهدف وتتحرك داخل حقل سياسي واجتماعي مضطرب تكاد تنعدم فيه مشتركات وهى تتصارع حول قضايا أساسية مثل نظام الحكم ومفهوم المواطنة وعناصر هوية الدولة السودانية، وكثير من الأطراف يريدون فرض شكل الدولة التي يطمحون إليها وفق معادلات وفرضيات قليلة الحيلة ولا تمت إلى المصلحة الوطنية بصلة، وهم يدركون تماماً بهذا النهج لا يمكن تحقيق ما يصبون إليه إلا بعد إلغاء أو إزالة خصومهم السياسيين. هذه الحرب البينية بين القوى السياسية أنهكت السياسة السودانية وقادت الى قطيعة بين البعض منها دون أن تفكر ولو مرة واحدة بأنّ هذه الفرضيات لا يمكن تحقيقها في أرض الواقع ما لم تكون هناك تسويات تاريخية كل طرف يقدم تنازلات كبيرة من أجل تأسيس دولة المواطنة فيها لا غالب ولا مغلوب.
المشهد السياسي المألوف في السودان منذ الاستقلال هو استخدام العنف لفرض نظام الحكم وكلُ مجموعة تعمل وفق رؤاها، ولا نبالغ إن قلنا معظم العناصر الفاعلة في السياسة السودانية أظهرت بشكل أو ٱخر قدرتهم على استخدام العنف للوصول الى السلطة، بل كل طرف حاول في يوم من الأيام أن يخلق توازن قوى أو ما يُعرف بالردع. الأحداث تقف شاهدة على ذلك في تاريخنا السياسي، وهي أحداث لا تحتمل غير تفسير واحد ألا وهو العنف بدل الوفاق للوصول إلى السلطة. لإدراك طبيعة الوقائع التاريخية علينا سبر غور الأحداث من خلال رصد أهم المحطات السياسية، فنرى إلى أي مدى القوى السياسية متورطة في استخدام العنف من أجل السلطة. حزب الأمة هو أول من سنّ هذه السنة في انقلاب الفريق عبود نوفمبر 1958، ثم سارت البقية على نسق العنف هو السبيل الأوحد للسيطرة على السلطة. انقلاب مايو اليسارية 1969، انقلاب الحزب الشيوعي بقيادة هاشم العطا يوليو 1971، دخول قوات الجبهة الوطنية الخرطوم يوليو 1976، انقلاب الجبهة الإسلامية يونيو 1989، محاولة الضباط البعثيين رمضان 1990 إضافة إلى ثورات الهامش المسلحة بدءًا من توريت عام 1955 وانتهاءً بثورة دارفور عام 2003.
لعبة توازن القوى لفرض الأمر الواقع لا زالت مستمرة في الساحة السياسية. ذلك الذي يحاول أن يسيطر على الشارع باستخدام العنف باسم المدنية أو تبنى نهج استبدادية الحرية، فهو أكيد يدير لعبة توازن القوى وهذا النهج يشارك فيه كل القوى السياسية إلا أنّ اليسار السوداني الذي كان أقل نشاطاً في الشارع إبان نظام الانقاذ، أصبح الٱن هو أكثر بروزاً من بقية القوى السياسية. والذين يحتكرون على عنف الدولة سواء في القوات النظامية والدعم السريع هم فعلاً يسيطرون الٱن على معظم كروت لعبة توازن القوى وكذلك قوى نضال المسلح في الهامش قد برهنت بجدارة قدرتها على خلق توازن القوى أو الردع المتبادل. الحركة الإسلامية هي أكثر الأحزاب أساءت استخدام القوة من أجل احتكار العنف وأدوات الردع. هناك ملاحظتين كواقع يعيشه السودان ويمكن من خلالهما رسم استراتيجية للخروج من الأزمة التي تكبل الوطن، الملاحظة الأولى؛ كل هذا السيل من العنف والعنف المتبادل لم يفلح في تأسيس الدولة الوطنية التي يمكن أن تستوعب هذا الطوفان من التناقضات السياسية والاجتماعية. والملاحظة الأخرى والاهم إنه لم يحدث في تاريخ السودان أن إلتقت القوى السياسية والاجتماعية في مشروعٍ جامعٍ تشترك فيه جميع أصحاب الشأن لصياغة وثيقة تاريخية تجمع الفرقاء في وفاق وطني يضع حداً للنزاع المحتدم منذ فجر الاستقلال ويُرسى قواعد راسخة لدولة المواطنة المتساوية.